«تجّار الشنطة» يجتازون المطارات ويتحدّون العقبات
سيّاح وعشاق سفر وترحال، تقودهم امكانياتهم البسيطة نحو أفكار استثمارية في متناول اليد... فبعيداً من التعقيدات أو المسمّيات، قرر هؤلاء الدخول إلى عالم التجارة بإمكانيات مادية محدودة، مختارين ما قلّ حجمه وخفّ وزنه لحمله معهم وسط أمتعتهم الشخصية، فأُطلق عليهم لقب «تجار الشنطة». وإن كان هؤلاء لا ينتمون الى طبقة أو جنسية أو حتى مستوى تعليم معين، فقد تدفع هذه الهوايه المُدرّة للأرباح الكثير منهم الى توسيع خبراته في السوق واحتياجاته... نساء ورجال دخلوا عالم «تجارة الشنطه» وخاضوا تجارب مربحة وأخرى خاسرة في هذا التحقيق...
«تجارة الشنطة» تعتمد على المتوافر في الأسواق ورغبة الزبائن
أمتع ما في السفر هو التسوق... هذا ما تؤكده أم عبدالله، 44 عاماً، والتي تركت مهنة التدريس، لتمارس هوياتها في السفر والترحال. بدأت فكرة «تجارة الشنطة» منذ أكثر من عشر سنوات، وكانت تقتصر على جلب بعض الهدايا للأقارب والصديقات، لكن سرعان ما تحول الأمر الى «تواصي» بحيث تدفع لها قريباتها أو صديقاتها مسبقاً ثمن ما يرغبن في جلبه من الخارج. في البداية، كانت أم عبدالله تجلب معها في آخر كل صيف المفارش والمطرّزات والعباءات التي كانت وقتذاك نادرة في السوق السعودية ومرتفعة الأسعار نسبياً، لكن بعد محاولات ورحلات عدة صار رأسمالها يزيد شيئاً فشيئاً، خصوصاً أنها كانت تختار السلع المضمونة والمطلوبة والخفيفة الوزن، كما كان دسّ هذه السلع بين أمتعتها أسهل من شحنها جواً أو بحراً، لكون الشحن يستغرق وقتاً طويلاً حتى يصل الى العميل، هذا فضلاً عن الإجراءات الإدارية المعقّدة، وحالياً تجلب أم عبدالله البضائع من تركيا، من ملابس وأكسسوارات، وتفضّل أن تكون الكميات المستوردة قليلة ومتنوعة، وتلبي رغبات زبائنها.
... كانت بمحض الصدفة ولمرة واحدة فقط
أما السيدة ثريا أحمد، 29 عاماً، فقد كانت تجربتها في «تجارة الشنطة» بمحض الصدفة، فخلال سياحتها في ماليزيا وتجوّلها في أسواقها، وجدت الكثير من العلامات المقلَّدة، من ساعات وأكسسوارات ونظّارات، وبعد اختيارها مجموعة من الهدايا، قررت شراء المزيد منها بدافع بيعها للمقرّبات والصديقات، لكن بعدما وجدت أن الحمولة أصبحت ثقيلة، اشترت عدداً من حقائب السفر، ودفعت غرامة مالية بسبب زيادة وزن أمتعتها في المطار. وتؤكد ثريا أن الربح كان وفيراً والإقبال جيداً، لكنها لم تستمر في هذا «البزنس» لأنها تمارس وظيفة ثابتة.
للتجارة أصحابها
في المقابل، كانت تجربة جواد عبدالقادر، 35 عاماً، غير موفقة أبداً، لمواجهته الكثير من العراقيل التي سلبت تجارته البسيطة الربح، حيث كان يفكر مثل أي شاب بطرق لزيادة دخله، وخطر في باله حينها أن يذهب في رحلة استكشاف مع أصدقائه إلى الصين، بعد أن أقنعه الكثيرون بأن هنالك الكثير من البضائع والسلع الرخيصة والخفيفة الوزن، وحدث ذلك فعلاً حيث ذُهل جواد في البداية بتدني أسعار الالكترونيات وأكسسوارات الهواتف الخليوية، فجلب معه كمية كبيرة منها بدون أي تخطيط مسبق. ولكن بما أن الكميات كانت تجارية، تحفّظت جمارك المطار عليها، تقيّداً بالأنظمه المحلية، فاضطر جواد الى دفع رسوم وعمل سجل تجاري لتحرير هذه الأمتعة، والأنكى أنه بعد كل هذا العناء لم يتمكن من تصريف بضائعه، خصوصاً أن بعضها كان قد تعرض للتلف والكسر، لذلك لم يعد جواد يفكر بالمحاولة مرة أخرى، ليقينه التام بأن «للتجارة أصحابها».
انتقاء القطع الفريدة والغريبة هو ما يميز «تاجرة الشنطة»
أما غدير عبدالرحمن، 25 عاماً، فتفضل الشراء من «تاجرات الشنطة»، لكون ما يجلبنه من سلع فريداً وغريباً وغير متوافر في الأسواق، فغالباً ما تجلب «تاجرة الشنطة» قطعة واحدة فقط من مجموعة ملابس أو أكسسوارات، ما يضمن لها أن ما سترتديه لن يكون في متناول امرأة أخرى. وتتعامل غدير مع عدد من التاجرات اللواتي يبلغنها بموعد وصولهن، وغالباً ما تشتري منهن فساتين السهرة والأكسسوارات، وأحياناً الأحذية والحقائب. ويختلف مصدر هذه البضائع، لكن أكثرها مستورد من تركيا ولبنان وأميركا.
«تجارة الشنطة» تكشف مقوّمات التاجرة الناجحة
ومن خلال تجربة ناجحة، انتقلت السيدة صفاء أصلان، 38 عاماً، من مجرد «تاجرة شنطة» هاوية إلى صاحبة متجر نسائي، حيث بدأت بجلب بضائع كندية وأميركية في كل رحلة كانت تقوم بها إلى هناك، وكان الإقبال كبيراً على ملابس الأطفال. ورغم الكميات القليلة التي كانت تجلبها معها، حققت صفاء ربحاً لا بأس به، إضافة إلى أنها تعشق التسوق وترى في نفسها مقوّمات التاجرة الناجحة، لذوقها الرفيع وقدرتها على الإقناع وكثرة معارفها وتعدد علاقاتها، كما أنها لا تتنازل عن الخامات ذات الجودة العالية والماركات والسلع غير المتوافرة في الأسواق السعودية. وتؤكد أصلان أن انطلاقة هذه التجارة سهلة وليس فيها مجازفه كبيرة، اضافة إلى أنها فرصة للتجربة وزيادة الخبرة في السوق.
«تاجرة شنطة» ولكن غبّ الطلب...
أولادها المغتربون بهدف الدراسة كانوا السبب في ترددها على عدد من البلدان، ولتغطية تكاليف السفر، وجدت سمية منصور، 47 عاماً، أن من الأفضل لها جلب بضائع وسلع في حقيبه يدها، وكانت في كل رحلة من رحلاتها تصوّر ما تقع عليه عيناها، سواء كان ملابس أو أحذية أو حقائب، وصولاً الى أصناف الحلويات والمواد التموينية، فهي ترى في نفسها «تاجرة شنطة» غبّ الطلب، وساعدها في ذلك «الواتس آب» بحيث تعرض ما تبتاعه على أكبر عدد من المعارف فيحدّدون ما يرغبون في شرائه. وتؤكد سمية أن الطمع لم يعرف طريقه إليها، فربحها في كل سلعة لا يتجاوز عشرات الريالات، وغرضها من هذه «التجارة» هو الإفادة والاستفادة في الوقت ذات وبدون أي مجازفة.
«تجارة الشنطة» تجارة موقتة وتعتمد على السيولة
تؤكد سيدة الأعمال شيرين طه الشيبي أن «تجارة الشنطة» ليست مستحدثة، بل هي موجودة منذ عشرات السنين، وأن لجوء الكثير من النساء أو الرجال الى مثل هذا النوع من «البزنس»، يعود في المقام الأول الى تردي الأوضاع الاقتصادية والبطالة والرغبة في رفع مستوى المعيشة، وإن كان بإمكانيات بسيطة واتباع طرق غير تقليدية مثل «تجارة الشنطة» أو البيع الالكتروني... هذا فضلاً عن الإجراءات القانونية المعقّدة التي تستغرق وقتاً طويلاً، وعدم منح التراخيص للمستثمرين الصغار، الذين لا تتجاوز رؤوس أموالهم آلاف الريالات، لذا وجد هؤلاء المستثمرون أن من الأسهل لهم المتاجرة بهذه الطريقة. ويجب أن نشير الى أن «تجارة الشنطة» لا تدوم طويلاً، لأنها تعتمد اعتماداً تاماً على سيولة صاحبة التجارة، وفي المقابل قد يشجّعها نجاح تجارتها وتحقيقها الأرباح على إقامة معرض، وبالتالي افتتاح محل أو متجر مرخص، ولذلك يُعتبر هذا النوع من التجارة باباً للحصول على عمل مرخّص، وهذا ايجابي بلا شك، وإن كان يشكل منافسة للتجار الآخرين، وقد يتخلله نوع من التحايل أكثر من الغش، ومن الضروري في هذا النوع من الأعمال كثرة العلاقات والمعارف لتحقيق الربح وتجنب الخسارة.
«تجارة الشنطة» قد تكون بداية لعمل مرخّص
وعن أبعاد «تجارة الشنطة» يقول الدكتور محمد شمس رئيس مركز استشارات الجدوى الاقتصادية في جدة إن هذا النوع من التجارة قد يؤثر سلباً في فئة «تجّار الشنطة» بحيث يتخلّفون عن دفع الرسوم الجمركية المتوجبة على بضائعهم، والتي لا تتجاوز قيمتها بضعة آلاف من الريالات، أو يكون له تأثير إيجابي إذ يساهم في رفع دخل الأسر وبالتالي تحسين مستوى المعيشة، وهذا بلا شك سيحلّ الكثير من مشاكل البطالة والديون والقروض. فـ«تجار الشنطة»، نراهم بخطواتهم البسيطة يفيدون أنفسهم والمحيطين بهم، وربما يطمحون الى تحقيق تجارة مرخّصة تستقطب المزيد من الأيدي العاملة. فغالبية رجال الأعمال المعروفين اليوم، كانت بداياتهم من «بسطات وأكشاك» وبضائع لا تتجاوز أسعارها آلاف الريالات، وهم لا يزالون مستمرين في جني الأرباح الخيالية، وتأسيس شركات ضخمة يعمل فيها الآلاف من أبناء الوطن. ويرى شمس أن الأجدر بكل مواطن عاطل من العمل الاعتماد على نفسه وابتكار طرق ووسائل لكسب المال المشروع بدلاً من انتظار إعانات من الضمان الاجتماعي والتي تجعله عبئاً على الدولة.
قاعدة بيانات الجمارك تفرّق بين الأمتعة الشخصية والبضائع التجارية
وفي خصوص القوانين المحلية للجمارك، يشير المتحدث الرسمي في مصلحة الجمارك العامة في المملكة عيسى العيسى، الى أن الجمارك تملك قاعدة بيانات تحدد عدد مرات الاستيراد وحجمه إن تكرر. ووفقاً لهذه البيانات، يتم تحديد ما إذا كانت هذه الأمتعة شخصية ومجرد هدايا، أو أنها بضائع تجارية يجب أن تخضع للشروط، وغالباً ما يتم كشف ذلك من خلال تكرار أصناف السلع بعدد تجاري، كما أن تكرار التردد والاستيراد وإن بكميات بسيطة، يُلزم صاحب الأمتعه بالخضوع للشروط ومتطلبات الاستيراد، والتي أهمها وجود سجل تجاري، ودفع الرسوم الجمركية. ويوضح العيسى أن استيراد البضائع مع الأمتعة الشخصية بغرض التجاره ناشط عند الرجال أكثر منه لدى النساء، وهذا الاستيراد يكون من عدد كبير من الدول، ويشتمل على أنواع مختلفة من السلع مثل الملابس والأجهزة الالكترونية الباهظة الثمن. وفي شكل عام، تعمل إدارة الجمارك على إحداث توازن بين تسهيل التجارة وتدفق السلع، وبين الرقابة وتطبيق الشروط والأحكام، فإذا تحققت الاشتراطات والمواصفات المطلوبة تتم إجراءات الفسح في وقت قياسي.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024