إسكندر داغر: حدّثني ميخائيل نعيمة... محطات وحوارات في حياة «ناسك الشخروب»
«ناسك الشخروب»، الأديب الكبير والشاعر الفيلسوف ميخائيل نعيمة. اسم كبير لقامة كبيرة من لبنان. الكاتب المفكر المتصوف الناسك الشاعر الروائي الأديب الكاتب... كلها صفات طيبة من صفات الراحل ميخائيل نعيمة الذي عاش القرن بأكمله، القرن الفائت بسنواته المئة، وغادر الحياة، تاركاً إرثا أدبياً وفكرياً، يحضر في الذاكرة الثقافية اللبنانية والعربية والعالمية، ولا يغيب لما له من تأثير في الوعي الثقافي المعرفي الإبداعي. ويحضر اليوم في صورة أخرى وجديدة متجددة، يحضر بحوار (نادر وفريد) كان أجراه معه الكاتب الشاعر اللبناني إسكندر داغر قبل أكثر من نصف قرن، ونشره في كتاب. يحضر نعيمة متجلياً بفكره وثقافته وتأثيره في الواقع.
أهمية الكتاب كبيرة، ذلك أنه يحتوي مساحة ثقافية ــ (زمكانية) خاصة، تكمن في تلك الأحاديث والحوارات الممتعة مع الراحل. وقد وثقها داغر وفق الأصول الإبداعية ، بما تحتوي من مواقف وآراء ونقاشات في الفكر والأدب والثقافة والشعر والكتابة والحياة والإنسان والمعرفة، وقد جاءت هذه الحوارات، في حينها، بمثابة نقلة نوعية في مسيرة الراحل الفكرية والثقافية، ونشْرها اليوم، يرفع من هذا المنسوب المعرفي والضروري عن شخصية أديب كبير عاش كل حياته في خدمة الفكر والمعرفة والكتابة، يتحدث الكاتب اسكندر عن كتابه وعن شخصية الراحل نعيمة بكثير من المعرفة والذكرى، ويستحضر ذاكرة مشوقة بامتياز، حيث تحضر بعض كتب نعيمة: «مرداد» و«سبعون» و«الغربال» و«البيادر» و«كرم على درب» و«الأوثان»... وسواها الكثير من الروايات والكتب المحورية التي أغنت الفكر والثقافة، وما زالت إلى اليوم تشكل حلقة وعي تكبر وتتوسع وتمتد في الوعي المستمر.
ويتحدث ويفصح اسكندر داغر، كيف تعرف، وكيف يُعرّف الراحل الأكبر ميخائيل نعيمة، فيقول: الأديب الكبير الراحل ميخائيل نعيمة هو من بين الأدباء والشعراء والمفكرين الذين عرفتهم عن كثب، خلال مسيرتي الصحافية الطويلة، وما زالت صورته ماثلة أمامي، صورة الإنسان الذي جمع في شخصيته بين العبقرية والتواضع، وبين الكبر والبساطة. إنه شخصية عظيمة راسخة في وعيي الأول، لا تغيب عن بالي أبداً. ولست أدري كم هو باق في بال الوطن الذي أنجبه.
التقيت بالراحل مرات كثيرة وتارة في زيارة خاصة، وأخرى بغية إجراء مقابلة صحافية معه، وكانت هذه المقابلات مملوءة بأفكار الراحل وحملت الكثير من أفكاره المتقدمة في حينها، وفي يومنا الآني أيضاً.
وسألت داغر، لماذا جمعت كل هذه الأحاديث وكل هذه الحوارات مع الراحل ووضعتها في كتاب، علماً أن مؤلفاته كثيرة وتملأ المكتبات، هل من جديد في أقواله وأفكاره؟
أجاب بهدوء وتأمل: لفتني جداً ما تناوله الراحل بهذه الأحاديث والحوارات، لذلك رجعت إلى هذه الأحاديث التي أصبحت شبه مجهولة، فقررت أن أجمعها في كتاب، لعلها تضيء على جوانب عدة في مسيرة هذا الأديب الكبير، الأدبية والحياتية، لربما لا نجدها في كتاباته الكثيرة، وهي على كل حال، تشكل جزءاً لا يتجزّأ من تراثه الفكري الإبداعي. وألفت الانتباه هنا، الى أنني نشرت في كتابي هذا، كل ما قاله لي الراحل، كما ورد تماماً، في حينه، من دون أي تبديل أو تحريف، سواء في مقدمات الأحاديث والحوارات، أو في الأسئلة والأجوبة.
وعن الميزة والتميّز والخصوصية في شخصية المفكر الراحل، بماذا يتميز الراحل، ككاتب مبدع عن سواه، وكيف حققت بصماته الإبداعية تلك النقلة الثقافية؟ يشرح داغر ويفسر أكثر ما عرف وتلمس منه، من خلال تلك المتابعة مع « ناسك الشخروب »
ويقول: إلى جانب عبقرية ميخائيل نعيمه، تبرز إنسانية هذا الرجل الذي يحمل في مسلكه الكثير من وعي الحياة ومعرفة الحياة على أصولها. أضف الى ذلك، تلك الرؤيا التي انطلق منها إلى بصيرة حادة ومتجلية، حيث برزت صورته الجلية أكثر وأكثر. فقد كان على دراية ببواطن الأمور، كأنه يعرف ما سيحدث غداً. غالبية الكتب التي أصدرها حملت في بطونها الكثير من الرؤيا والكثير من الشرح المبسّط لأعقد الأمور والأفكار. لم يكن القلق من نصيبه، ولا الحيرة أخذته الى ضياع، بل بالعكس، كانت حيرته هادئة جداً. ويمكن القول إن الراحل كان مطمئن البال، لا قلق يساوره ولا تعب ينخر الفكر الذي ارتضاه لنفسه وعقله وقلمه. لذلك كان مستقيم الوعي، حاد البصيرة، ولا تنسَ أنه عاش قرناً بكامله، وهذا أكبر دليل على قدرة الفكر في تغذية عقله وروحه وبدنه.
لقد أمضى الراحل حياته الطويلة في معاشرة الكلمة النابضة بالحياة والأمل والبقاء، حتى صارت الكلمة بالنسبة إليه كما الروح بالنسبة إلى الجسد، وكما الأرض بالنسبة إلى الإنسان، وكما الحرية بالنسبة إلى الأوطان. لقد اختار نعيمة قوة الحق. اختار الشجاعة وامتشقها. اختار الكلمة سلاحاً له، ليدافع عن الحق والخير والسلام والمحبة، ويحارب الباطل والشر والحروب، هو أحد كبار المفكرين الذين ساهموا بفعالية في نهضتنا الأدبية وفي التجديد والانعتاق الذي طرأ على الحركة الفكرية عندنا، وهو في الوقت ذاته، الإنسان المؤمن إيماناً عميقاً بالخير والسلام، والتقدم، والإنسان.
أما ما هي الإيجابيات اللافتة في حياة الراحل وأبرزها، فيشرحها اسكندر قائلاً :
هي كثيرة، ولا يمكن حصرها في مشهدية سريعة، لكن لا بد من الدلالة على ملامحها. وفي هذا الإطار، أذكر، في إحدى لقاءاتي به، طرحت عليه مجموعة من الأسئلة المختلفة والعميقة، وهو الذي له صولات وجولات في مختلف فروع الثقافة الإنسانية، وقد تخطّى، في حينها، عمره الثلاثة أرباع القرن، وما زال منكباً على العمل المتواصل، كأن حياته شباب دائم. وفي أثناء زيارتي له التي طالت أكثر من أي مرة أخرى، اكتشفت سر شبابه الدائم الذي يتحدى السنين، فهو منذ سنوات كثيرة، أكثر من خمسة عشر عاماً لم يحتس القهوة، على رغم ضرورتها بالنسبة إلى أهل الفكر والقلم. ويدخن القليل من السجائر، وينام الساعات الطويلة نوماً هادئاً عميقاً، كما أن نمط حياته الخاصة يسير سيره الطبيعي. وأضيف الى ذلك كله، تفاؤله بالحياة والإنسان، وتعود أهمية ميخائيل نعيمه إلى أنه تفرّغ للكتابة وتنسّك لها.
توثيق الذاكرة الثقافية، من خلال حوار مشوّق مع كاتب مشوق، أجراه كاتب وصحافي، أمر غاية في الأهمية والإبداع والمعرفة. أن يحضر الأديب الكبير الراحل ميخائيل نعيمة الذي عاش قرناً من الزمن وغادر الحياة قبل أقل من ربع قرن بقليل (1889 1988-)، يحضر اليوم في كتاب «حدثني ميخائيل نعيمة... حوارات وأحاديث في محطات العمر»، أجراها الإعلامي والأديب إسكندر داغر مع الراحل قبل أكثر من نصف قرن، ليعطي صورة مشرقة أكثر عن حياة الأديب والكاتب والشاعر والمفكر العبقري الراحل الذي شكّل محوراً كاملاً في مسيرة الأدب العربي والعالمي.
صورة مشرقة حقاً، تنبعث من الماضي الجميل، حيث كانت المعرفة مرآة صافية تعكس معنى الإنسان والحياة، كما صفاء عين المرآة. وكلام الغائب في حضرة الحاضر أمر فاعل أكثر ويحقق المزيد من الصور النابضة بالوعي والإبداع.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024