الفنانة ريم كيلاني تستحضر وتوثّق وتنشد ذاكرة فلسطين الموسيقيّة
أبلغتني بأنها ستحضر الى لبنان، وأن موعد قدومها من لندن الى بيروت سيكون في نهاية شهر نيسان / إبريل الفائت . وفي التاريخ المحدد، ذهبت الى المطار لأستقبلها، لكنها لم تحضر، فرجعت خائباً الى بيتي .
إلّا أن خبراً عاجلني، اتصلت بي واعتذرت، شارحةً السبب القاهر الذي حال دون قدومها، فأفرجت همّي قليلاً، لكن قلقي لم يهدأ، وأشواقي لم تندمل، وانتظاري لم يتحرر، إلّا بعدما وعدتني بحوار ولقاء يجمعنا، عبر الأثير المسموع بدل الحوار المباشر الذي كنت سأجريه معها في بيروت .
وفي اليوم التالي، اتصلت بي ودار بيننا الحوار المرتقب، تناولت فيه تفاصيل كثيرة من حياتها الفنية والموسيقية والثقافية، والغربة والهجرة والتهجير والانتماء والوطن والحب والعذاب والأمل ... وفي ما يلي وقائع الحوار معها .
فنانة من جيل الأمل والحياة، تعرف كيف تحمل الصوت في حنجرتها ويدها، نجحت في تحقيق غاية الذاكرة الفلسطينية. إنها المبدعة الفنانة الفلسطينية ريم كيلاني التي قالت بالموسيقى السلام والجمال.
ريم الكيلاني، مغنية وموسيقية ومذيعة، ولدت في بريطانيا - مانشستر، لأبوين فلسطينيين .الأم من مدينة الناصرة والأب من مدينة جنين. بدايتها ونشأتها كانتا في الكويت، وتقيم حالياً في لندن.
الظهور الأول لريم كيلاني كمغنية أمام الجمهور كان في الرابعة من عمرها، وكانت متأثرةً بصوت السيدة فيروز وبموسيقى الجاز التي تحضر في حنايا صوتها.
في بداياتها، تعلمت العزف على البيانو على يد معلمة هولندية، ومن ثم تلت القرآن، وكذلك غنت أهم الأعمال لكبار في الموسيقى والفن، وهي في عمر سبع سنوات، وأدهشت كل من سمعها.
تفجَّر شعورها واستيقظ باكراً، تلمست جيداً، بعمر 13 سنة، أنها تنتمي إلى شعب فلسطين المهجر المطرود من أرضه وحقه ووطنه. تلمست كيلاني هويتها الفلسطينية وهي في الثالثة عشرة خلال زيارتها السنوية للعائلة في الناصرة، وأكثر ما لفت حنينها، حين شهدت عرساً فلسطينياً تقليدياً هناك.
وشعرت بالفخر حين رأت النساء يرقصن وكيف تتحرك تقاليد شعبها ومجتمعها. وكانت تلك اللحظة في مثابة إشارة الانطلاقة نحو الموسيقى والثقافة: «وفكرت جلياً بهذه الموسيقى، وهذه الطقوس. هذه هي ثقافتنا. نحن هنا، نحن موجودون على الخارطة، الحياة لنا ومعنا ولا بد أن نعيشها».
ومنذ تلك اللحظة، تبلورت لديها الفكرة وبأنها ستكون موسيقية، وستدرس كل هذه التقاليد والطقوس والفن. وكان لها الزمن والموهبة.
تهتم ريم بالغناء بالعربية أكثر، وترى أن الحس بالموسيقى أو الغناء العربي، يشكل تماسكا في الذائقة الفنية أكثر مما في الموسيقى الأوروبية.
«فالغناء العربي لا يستخدم إلا القليل من الرنين، حيث يغني المرء من جسده مباشرة، كما لو أنه يقول ويقلب باطنه إلى الخارج، وهذا ما يؤجج كل محاولة لإظهار المعاناة وتسليط الضوء على الفرح، بشكل لافت ومنجز».
دراسة ريم كانت في الكويت (بيولوجيا السواحل البحرية)، وذلك نزولاً عند رغبة الأبوين. وترى أن دراستها كانت مفيدة جداً، ذلك أنها تمكنت من البحث في الموسيقى العالمية والأغاني التقليدية الفلسطينية، وتجري مقابلات مع الأمهات في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين.
والأهم أن ريم لم تتخذ قرارها النهائي لمصلحة الموسيقى إلا بعد حرب الخليج عام 1990/1991 وهي تحضر للدكتوراه في إنكلترا، فبقيت خمسة أشهر لا تعرف شيئاً عن عائلتها المقيمة في الكويت، وأصبح واضحاً لديها أن الحياة أقصر من أن نضيّعها في متاهات الزمن. فعادت إلى دراسة الغناء وظهرت في حفلات عامة كثيرة، وكذلك كانت تدرس في الحلقات الدراسية الموسيقى العربية للأطفال والراشدين في المتحف البريطاني. وفي هذه الأثناء، لمست المعنى الأهم بالكشف عن هويتها الفلسطينية.
كتبت لإذاعة البي بي سي موضوعات ساخرة من منظور المهاجرات. سافرت عام 1996 إلى لبنان لدراسة الموسيقى الفلسطينية التقليدية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين (التي لا تزال تغنّى من قبل النساء)
. وجمعت مادة غزيرة من الأغاني القديمة، ضمت قسماً منها الى حلقاتها الدراسية عن الموسيقى وبدأت مشروعها الموسيقي.
قامت بتأليف موسيقى لأفلام عديدة، منها فيلم وثائقي صورته المخرجة الأفريقية الجنوبية جيني مورغان، عن القتال حول معسكر جنين الفلسطيني في النصف الأول من عام 2002. وفي عام 2005، أطلقت ألبومها الأول (الغزلان النافرة ـــ أغان فلسطينية من الوطن والشتات).
لا يمكن الفن الموسيقي الا أن يأخذ مجراه في واقعه
تتحدث ريم كيلاني عن الفن والموسيقى والغناء بلغة الواثقة المحترفة، وتقول: «لا يمكن الفن الموسيقي إلا أن يأخذ مجراه في الواقع الذي يعيشه. الموسيقى هي الوعي الأكبر الذي يمكن من خلاله تحقيق الرؤيا».
وعن الفن الموسيقي، والفرق بين الموسيقى الغربية والعربية، كونها تعيش في الغرب وتبحث في الموسيقى التراثية الشرقية، أوضحت:
«ربما لا فروقات بين الموسيقى الغربية والشرقية، ربما غير موجودة ما دامت الموسيقى تستطيع التعبير عن اللغة والروح.
فإذا راقبنا جيداً سنرى أن غالبية النوتات الموجودة في الموسيقى العربية يمكن أن تظهر بالصوت البشري، وهناك آلات غربية تصدر نوتات شرقية، كالكمان والكونترباص عندما يعزف عليه بالأصابع مثلاً، وإن وُجدت فروق كما يعتقد البعض، فهي حتماً أصغر مما تبدو عليه... في المهجر، وجدت أن الآلات الغربية مفروضة عليّ، ففكرت لماذا لا أستفيد منها وأصنع تجربة موسيقية ناتجة من الغربة، مستفيدةً من ميلي تجاه الجاز، وبهذا حاولت أن تكون الموسيقى التي أعمل من دون فروقات. وهي في الأصل موسيقى تندمج فيها أنواع وقدرات موسيقية غنية».
تعترف ريم بأن «الغربة علمتني وكانت سنوات التكوين بالنسبة إلي، وقد خدمتني بالفعل، إذ إن لي في كل بلد صحبة، علينا التعامل مع الغربة والمهجر كنقاط قوة، وأنا شخصياً عالجت الغربة بالغربة، والدليل على ذلك حفلاتي في دمشق، فقد جاء العديد من أصدقائي السوريين الذين نشأت معهم سواء في الكويت أو في إنكلترا، والعديد من أناس أمتد معهم إلى العائلة نفسها من جهة الأم والأب، هذه الوحدة ما زالت موجودة وعلينا دائماً الشعور بها والتمسك بها وتفعيلها أكثر، وهذا أمر ممكن جداً، غير مستحيل».
كيف تتعامل ريم مع عروبتها في الغرب، مع انتمائها الأصل؟ سؤال له جواب في ثقافة ريم، وتقول فيه: «هذه نقطة حساسة جداً، ويمكن تقديم صورة عن الواقع الذي أعيشه.
وأذكر أن الفرقة التي أتت معي الى سوريا من بريطانيا فوجئت بجو الفرقة السورية وبهذا الاندماج بين الإسلام والمسيحية، حتى أن الجمهور كان من المحجبات والسافرات معاً، واكتشفوا أن نظرة الغرب الى العرب نظرة أحادية، بينما في سوريا يوجد التنوع، وفي الموسيقى أيضاً، إذ إنهم فوجئوا بمعرفة الشباب السوري بالجاز وأنواعه، واكتشفوا فعلاً أننا نحن العرب نعرف عن العالم الغربي أكثر مما هو يعرف عنا».
تبقى الهوية الفلسطينية هي الأساس والأصل الموجودة والحاضرة بثقة مع ريم كيلاني، لذلك تحاور وتغني وتطرح رسالتها الفنية بكل ثقة، وتقول: «كوني أعيش وأعمل في الغرب، أرى أن المشكلة في الغرب في كيفية تقبّلي كفنانة من بيئة وثقافة مختلفتين، لكن هذا لا يهم. بل السؤال هنا ،أين أنت أو من أنت؟ بل المشكلة من أين أنت!».
متميزة في وعيها الفني والثقافي، ترفض ريم أن تكون ضحية: «أرفض أن أكون ضحية، وأن أعبر عن نفسي كفلسطينية ضحية ما جرى ويجري، أرفض أن أموت من أجل فلسطين، بل أريد أن أحيا من أجل فلسطين. وبهذا، تتعمق قناعتي أكثر بأن العدو قد ظلمني وأذاني وأخطأ في حقي وحق شعبي وأرضي... النبات، الحيوان، الموسيقى، الألوان هي الهوية الفلسطينية بالنسبة إلي وليس العلم والحجارة والأم الثكلى والمفجوعة. لذلك، أحرص دوماً على التعبير عن هذه الأمور المهمة والمبدئية. وقد عبّرت عنها بأعمال كثيرة».
وعن الفن وأعمالها وترتيب أولوياتها الفنية الموسيقية الغنائية، تقول ريم: «ترتيب الأغاني في الألبوم مثل حبات وحصوص «المسبحة»، إنها متسلسلة ومنتظمة. وكذلك يمكن أن تظهر للسمع والبصر كقصة تروي وتقول كل البواطن... أعمالي تظهر بالتجميع، ويمكن سماع الأغاني منفصلة، وقد أخذ مني هذا الفعل أكثر من عشرين سنة عمل، وكان تحدياً لأن العمل على الذاكرة الجماعية أصعب من التلحين، النوتات محدودة وتشكل نمطاً غنائياً. وتحويل العمل التراثي إلى أغنية في حاجة الى العمل على إعداد الكلمات وتوزيع الآلات وتجميع كلمات لتشكل أغنية، ومن الأغنية التراثية نفسها هناك أكثر من أغنية، فتركيز العمل كان على كسر البنية من خلال التراث والتنويع».
عملت ريم خلال العقدين الأخيرين، على أعمال موسيقية وغنائية محددة، أوصلتها الى معادلة جديدة في مسيرتها الفنية.
ثم انتقلت الى العمل على مشروع آخر، وهو مشروع السيد درويش ،«المشروع المقبل عن سيد درويش لأنه صاحب عقلية متفتحة منذ القرن الماضي... والآن، عملي في هذه المرحلة هو توثيقي وبحثي من خلال تجميع وثائق وكتب من أجل بداية مرحلة العمل الميداني، ومن ثم الجانب الموسيقي والفني وصولاً إلى إعداد الأغاني».
تسأل وتجيب ريم: «نقطة مهمة جداً يسألني الجميع عنها. ما معنى إعداد موسيقى؟ وأجيب بأنني أنتقي كلمات من مصادر عديدة وأمزج بين الحديث والقديم وكذلك في الموسيقى وهذا ما أسميه بالإعداد. ما أسميه إعادة هيلكة الفكرة ودمجها في توزيع متجدد».
تراهن ريم على الصوت البشري كثيراً، وتعتبر «أن الصوت البشري والدبكة والتصفيق هي آلات نغمية مهمة جداً وضرورية أيضاً في بناء اللحن والموسيقى. فالموهبة تشكل عشرة في المئة من النجاح، والباقي هو الاجتهاد، وأن كل دقيقة أخرج فيها إلى الجمهور في حاجة إلى يوم عمل كامل، ومع ذلك لا ينتهي العمل هنا، بل الحضور على المسرح ومواجهة الناس وتواصل الفنان معهم ومع أصدقائه على الخشبة في كل لحظة هو ما يؤسس فعلاً لعملية فنية متكاملة. الوحدة والتماسك والتواصل والتنسيق بين كل أركان العمل الفني هو أساس نجاح أي عمل».
لا تغني ريم كيلاني فقط، لا تغني الموسيقى واللحن فقط، بل تذهب الى أبعد حين تغني، تعيش الغناء والموسيقى روحاً وجسداً، تسخّر كل قوتها العاطفية ودلالات هذه العاطفة على نحو فعّال وقدير. فهي متماسكة مهما تبدلت أحاسيسها أثناء الغناء، من الهدوء الى الصخب، ومن الحزن الى الفرح، ومن الصمت الى الحركة، تتماسك الفنانة وتقدم ما يشد الناظر والمستمع اليها أكثر وأكثر. وهنا تكمن أهمية الفنانة التي تعرف كيف تتماهى مع الحالة والوجدان الممتد من أعماق شعورها وأحاسيسها الى كل الأحاسيس التي تراقبها وتنتظرها بشغف.
غير أنها فنانة حالمة وهادئة جداً، وفي هدوئها وحلمها يكمن الأمل الصاخب، والطنين الذي يدوزن كل خطوة يخطوها صوتها وقلبها وروحها... فنانة لا تكف عن الأمل.
همس
ريشة تجرح العالم
تملئين كل المرايا
فما هو مصير الوجوه
دمعة على جدار
كأنها أنتِ
شعركِ الأسود الفاحم الطّويل
ريشة تجرح العالم
كم من الخيول خرجت من يدك
كم نسر أقلع من نومك
كم غزالة نهبت حقولك
وكم وردة قالت عطركِ؟
إسماعيل فقيه
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024