تحميل المجلة الاكترونية عدد 1080

بحث

التاريخ إن حكى... إنها بيروت

غالبًا ما أتكلم على مدن العالم وعواصمه وما فيها من روائع، ولكن عند الكلام على بيروت عاصمة بلدي الأم لبنان أجد نفسي عاجزة، ربما هي طبيعة البشر، الخجل من مدح الذات، والمدن التي نولد فيها ونترعرع في أحضانها، والتي تشكّل هوّيتنا وشخصيتنا، فنشبهها وتشبهنا، وبالتالي الكلام عليها أو مدحها، هو كلام على ذواتنا.
غير أنني بعد كل رحلة خارج بيروت أعود لألقى نفسي أتنفس الصعداء رغم كل الجمال الذي زرته، لأجد نفسي وسط مدينتي، التي تجمع في تفاصيلها كل مدن العالم. فلو تحدثت عن تاريخها فهي من بين أقدم عشر مدن في العالم لا تزال قائمة.

يعود تاريخ تأسيسها إلى خمسة آلاف عام، استراحت خلالها في بيروت، التي تغسل وجهها صباحًا بالبحر الأبيض المتوسّط، وتجففه بخطوط الشمس الذهبية غروبًا، الحضارات القديمة التي تركت الكثير من عوالمها في هذه المدينة الصغيرة.
فلا عجب أنه في كل مرة أراد أحدهم تشييد بناء، أن يصطدم بأحشاء مدينة تعيش فيها أطلال مدن قديمة، وآخرها مدرسة الحقوق، وهي أول مدرسة للحقوق في التاريخ.


وإذا أردت الكلام على بيروت الفرح فهي تعرف كيف تعيشه وبجرأة، رغم محاولة الأحزان اجتياحها. وإذا تكلّمنا على مفهوم الكوزموبوليتانية، فبيروت عرفته قبل خمسة آلاف عام، بدليل ما تحضنه أحشاؤها من آثار لحضارات اندثرت وبقيت المدينة على حالها تذكّر من يزورها بها، فيما سكانها كما معظم اللبنانين يتكلمون لغة ثانية إضافة إلى العربية. وبيروت المعاصرة مدينة تواكب العصر بكل تفاصيله، فلا شيء تطلبه في بيروت إلا وتجده.

وأعياد بيروت تكاد لا تنتهي، فما إن تودّع العاصمة اللبنانية عيدًا حتى تستقبل آخر، واللبنانيون بمختلف طوائفهم ومذاهبهم يتشاركون الأعياد ويحتفلون بها. ولعل حلول شهر رمضان الكريم خير دليل على احتفالات المدينة، فتكثر دعوات الإفطار بين العائلات والأصدقاء، وتطول السهرات الرمضانية حتى ساعات الفجر.

وقبل عيد الفطر بأيام، تستعد بيروت وأسواقها لاستقبال الصائمين لتكافئهم بتجربة تسوّق رائعة. ولعل منطقة أسواق بيروت Beirut souks الواقعة في وسط المدينة التجاري، إحدى وجهات التسوّق المفضلة عند اللبنانين والسيّاح العرب والغربيين على حد سواء.

تشكل أسواق بيروت نموذجًا حيًا لروح المدينة المتشبثة بتاريخها رغم مواكبتها العصر، إذ أُعيد بناؤها وسط معالم تاريخية وتصالحت معها وكشفت النقاب عن جمالها، فدمج الجانب التاريخي من الأسواق تحت تصميم جديد، مما يعكس دورها باعتبارها بوابة بين الماضي والمستقبل.
فدمجت مظاهر السوق القديم من خلال الحفاظ على دروب الشوارع التاريخية، مع التصاميم المعمارية المعاصرة التي تلبي كل حاجات التسوّق الحديثة.
هذا المزج بين السمات التاريخية وهندسة التصميم الحديثة، حوّل أسواق بيروت إلى «منطقة مفتوحة» تقدم رحلة فريدة من نوعها تأخذ الزائر إلى أبعد من تجربة تسوق. إذ تقع أسواق بيروت في قلب المدينة التاريخي، وتتمتع بموقع استراتيجي على مسافة قريبة من الواجهة البحرية و «مرسى بيروت» ومنطقة الفنادق والمناطق السكنية في وادي أبو جميل و «الصيفي» مع إمكانية الوصول المباشر إلى المراكز التجارية.
فضلاً عن قربها من مطار بيروت الذي يبعد بالسيارة مسافة 15 دقيقة إذا لم يكن هناك ازدحام سير، مما يعني أن المتسوّق السائح في مقدوره أن يمر بها ويقوم بتسوّق اللحظة الأخيرة قبل التوجه إلى المطار.

تمتد الأسواق على مساحة 60 ألف متر مربع، وتضم مواقف للسيارات تحت الأرض موزّعة على أربع طبقات. وهي منطقة مشاة، ما يعني أن المتسوّقين الأهل يشعرون بالأمان على أطفالهم أثناء التسوّق أو ارتياد أحد المطاعم التي تضمّها. تتألف منطقة «أسواق بيروت» من أربعة أسواق تاريخية، وهي: الجميل، الطويلة، أياس والأروام، بالإضافة إلى أسواق أخرى مثل باب إدريس، سيور، بسترس، أرواد، وسوق الفرنج.

إضافة إلى متاجر المجوهرات، تشمل أسواق بيروت 200 محل بيع بالتجزئة، ومتحفاً للعلوم للأطفال. وعلاوة على ذلك، تضمّ العديد من المطاعم والمقاهي التي تقع في المساحات الخضراء والساحات العامة، كما تضم أيضًا مركزًا تجاريًا وآخر ترفيهيًا ودار سينما متعددة الطبقات. فيدخل الزائر في تجربة تسوّق شاملة من الألف إلى الياء.

تتميّز أسواق بيروت بالهندسة المعمارية التقليدية منسجمة مع تاريخها الذي يعود إلى العصر الفينيقي وتشمل المعالم الأثرية التي تم اكتشافها في الأسواق الفينيقية الفارسية القديمة، وجدار العصور الوسطى، والمدرسة القرآنية المملوكية، بالإضافة إلى الفسيفساء البيزنطية.
فقد اشتهرت الأسواق بالولاية الفرنسية، وبقيت عنصرًا جذّابًا للزوّار اللبنانيين والعرب والأجانب حتى عام 1975 أي بداية الحرب الأهلية. وبعدما نفضت بيروت رماد الحرب عنها، أُعيد بناء الأسواق ودمج الجانب التاريخي بتصميم جديد، لتعكس دورها باعتبارها بوّابة بين الماضي والمستقبل من خلال الحفاظ على دروب من الشوارع التاريخية مع التصاميم المعمارية المعاصرة التي تلبي كل حاجات التسوّق الحديثة.
هذا المزج بين السمات التاريخية وهندسة التصميم الحديثة حوّل أسواق بيروت إلى «منطقة مفتوحة» تقدم رحلة فريدة من نوعها وتأخذ الزائر إلى أبعد من تجربة تسوق.


بوتيكات أسواق بيروت
عند مدخل السوق الرئيس ساحة تُعرف بساحة الإمام الأوزاعي حيث يقع مسجد الأوزاعي الذي لا يزال على سيرته الأولى، ومن الساحة ينطلق المتسوّقون نحو تفرّعات الأسواق وشوارعها، بعضها مفتوح فيما بعضها الآخر مسقوف كما كانت هندسة الأسواق المعمارية عبر التاريخ.
الوقوف وسط الساحة يحدّد الدرب الذي يريد المتسوّق عبوره بعد الاطلاع على لوحة المعلومات حول تفرع الشوارع والبوتيك أو المتجر الذي يرغب في التسوّق منه، ليدخل في ما بعد في تجربة فريدة تشبه بيروت.
تضم أسواق بيروت كل أنواع البوتيكات، فهنا تتجاور متاجر دور الأزياء الراقية مثل «ديور» و«شانيل»، ومتاجر سلسلة الملابس الكاجويل مثل «زارا» و«مانغو»، ومتاجر التحف والأكسسوارات المنزلية في سوق الطويله، فيما معارض السجاد العجمي، والعطور، والمنسوجات في سوق الجميل.
أما للاستراحة بأسلوب سكان بيروت فشارع أياس تتوسطه نافورة، وتتحلق حولها مقاهٍ صغيرة ومحل كوكتيل مثل «العنتبلي» حيث يمكن المتسوقين تذوق الحلويات اللبنانية اللذيذة والمشروبات المنعشة التقليدية. وكانت أسواق بيروت أيضًا موطنًا لمطعم «العجمي» الشهير، الذي يقع راهناً عند تقاطع سوق الطويلة وشارع طرابلس.


أسواق بيروت متحف مفتوح على كل أنواع الفنون

تتجاوز تجربة أسواق بيروت مجرد كونها رحلة زمنية عبر مسارات الهندسة المعمارية والأزياء والترفيه. فالتجوال في الأسواق هو رحلة في متحف مفتوح على الفن المعاصر والتاريخ. حيث زُيّنت ساحات السوق بأعمال فنية ومنحوتات من فنانين مشهورين عالمياً.
15 مجسمًا استثنائيًا تحتضن مشهداً من ساحة باب إدريس إلى ميدان سباق الخيل الروماني، إذ حوّلها الفنان العالمي الإسباني «كزافييه كوربيرو» إلى متحف في الهواء الطلق.
هذه الأعمال الفنية كلها مصنوعة من البازلت المستخرج من محجر معين في ضواحي برشلونة، استوحاها من الطبيعة، واستغرق إنجازها ثلاث سنوات: «الطبيعة تفتح أبواب الخيال، والخيال يفتح أبواب الواقع»، هكذا يرحب «كوربيرو» بالزائرين الذين تدهشهم روائعه وتحرك مخيلتهم.

وعند ساحة سوق أياس، يستقبل الناس نحت «الزائر» من أعمال الفنان البلجيكي الدولي «أرني كينز»، المشهور في الولايات المتحدة الأميركية وعبر أوروبا بأعماله الفنية الخشبية. فيما تحوّل سقف سوق أروام نقطة التقاء بين الثقافات مع الفنان الإسباني «لويس ليو».
على دائرة بيضاء، يتم تصوير الطريق من بيروت إلى برشلونة باللون الأحمر، والجمع بين الجبال والوديان، هاتين المدينتين التاريخيتين. تزين أعمال «لويس ليو» الثقافة المشتركة بين هاتين المدينتين المتوسطيتين.

ويزيّن باحة سوق الذهب في أسواق بيروت، مجسم «غلوريتا» يقف قطعة فنية من أعمال الفنان الفرنسي الأرجنتيني «بابلو رينوسو» الذي صمّم كأس كرة القدم الفرنسية عام 2003.
ويضم العمل الفني يدويًا ثلاثة مقاعد مع وصلات متشابكة مستوحاة من مفهوم مقاعد الحديقة على نطاق واسع، والتي تنبع من أهميتها للناس في الحياة اليومية. كما أنها تمثل تأثيرها في المستخدمين، وشوقهم إلى لحظة استرخاء وسط أسواق بيروت الرائعة.

خدمات متوافرة في أسواق بيروت
تم تصميم أسواق بيروت لتقديم تجربة ودية للزائرين، إذ إنها مجموعة واسعة من المرافق بما في ذلك مركز المعلومات وتسع شاشات رقمية لتوجيه المتسوقين والزوار في جميع أنحاء الموقع. كما تشمل الأسواق مركزًا للإسعافات الأولية، بالإضافة إلى مركز اتصال وفرع مصرف.
فضلاً عن توفير خدمة الإنترنت المجانية الـ«واي فاي» لجميع الزوار. إذ بمجرد أن يضغط الزائر في هاتفه على «بيروت سوق» حتى يتاح له استخدام الإنترنت مجانًا.

المجلة الالكترونية

العدد 1080  |  كانون الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1080