إيفانا مارشليان توثّق شاعرية الراحل في «أنا الموقّع أدناه محمود درويش»
يحضر الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في كتاب الزميلة الكاتبة القديرة إيفانا مارشليان، حضور العائد للتوّ من مصيره النهائي. ويجسد الكتاب ومحتواه مسار الشعر والحياة، بنبض وخطوات مكتوبة بخط الشاعر الراحل.
فقد أصدرت إيفانا مارشليان كتابها «أنا الموقّع أدناه محمود درويش» وسجلت فيه حوارها الباريسي الطويل مع محمود درويش مدوّناً بخط يده. ففي بداية التسعينات من القرن الماضي، جمع المكان الفرنسي إيفانا بالشاعر، وذلك في لقاء صحافي سطّره درويش نفسه ليحمل في طياته وحروفه بذور صداقة استمرت حتى أيامه الأخيرة. وتبرز وصية الراحل بخطّه وقلمه في الكتاب: «لقد تركت لديكِ أوراقاً أحببتها فعلاً وأنا أكتبها. تعرفين أنني خصصتُ لها أكثر من أمسية لإنجازها، فهل تقدّرين جهودي وتحتفظين بها لقرّائي في مكان آمن؟».
كتاب مارشليان يكاد يكون أهم من وثيقة تاريخية أدبية، ذلك أن ما كتبه محمود درويش قبل خمسة وعشرين عاماً، يكفي ليكون الوثيقة التي توثّق حقيقة الشعور والأحاسيس الجيّاشة، ففي مقدمته يقول: «أنا الموقّع أدناه محمود درويش، أتعهد باسم الضمير والأخلاق والمقدسات، بأن أسلّم الحوار الصحافي مع الآنسة إيفانا، كاملاً، في الساعة الرابعة من بعد ظهر السبت الموافق فيه 28 كانون الأول/ديسمبر العام 1991، وإلاّ فمن حق إيفانا أن تشهّر بي، علانية، وعلى رؤوس الأشهاد والأشجار، 25/12/1995، محمود درويش».
تقول إيفانا: «الكتاب كنز ثمين أحتفظ به لأنه جاءني مباشرة من شاعر الحياة». وفي تقديمها، تروي مرشليان أن لقاءها الأول مع درويش «كان في نيسان/أبريل من عام 1991 بعد أمسية قرأ فيها من ديوانه الأخير «أريد ما أريد» وقد احتشد لسماعه آلاف العرب والأجانب». فيما كان لقاؤها بدرويش في منزله الكائن في ساحة الولايات المتحدة الباريسية والمطلّ من طبقته الخامسة على برج «إيفل» و«أشجار المنفى والحمّامات الرمادية»، وذلك بعد أن وافق الشاعر الراحل، المعتكف عن المقابلات لأكثر من أربعة أعوام، على إجراء حوار أدبي مع مرشليان، بطلب من انطوان نوفل، رئيس تحرير مجلة «الدولية»، وكانت يومها محررة ثقافية فيها.
في الرابعة من بعد ظهر العاشر من الشهر الأخير (10/12/1991) وصلت الصحافية مارشليان وتبعها مصوّر المجلة إلى شقة درويش، وهناك بدأ الحوار الأول، وبدا واضحاً ان أسئلة درويش لمارشليان قد حوّلت المقابلة إلى حوار، وتحول الحوار الأول إلى قصة وحكاية وربما الى رواية. تقول إيفانا: «كأنها المرحلة الحاسمة التي بدأت لتحديد مسار الفكر والوعي والمعرفة والتعارف بيننا. ما أجمل تلك المرحلة وأرقّها».
ويتخلل الكتاب ما تكشفه إيفانا من أنها كانت في الثانية عشرة عندما تعرفت مصادفةً على كتابات درويش. فقد سلّمتها إدارة المدرسة (مدرستها) في حفل انتهاء العام الدراسي مغلفاً مختوماً دُوّن عليه: «جائزة اللغة العربية»... وكانت «يوميات الحزن العادي» (عنوان كتاب لدرويش)، ولما سألت والدها عن محمود درويش، أجاب: «هو أهم وأشهر شاعر فلسطيني اليوم».
وتكشف مارشليان أيضاً أن درويش فاجأها حين أعلمها بأن تترك الأسئلة عنده وتتصل به بعد أسبوع، وتمّ الاتفاق على لقاء، وكان اللقاء في أول أيام العام 1991، لكنها وصلت متأخرة إلى شقة الشاعر ساعةً كاملة، ومع ذلك لا هي اعتذرت ولا هو عاتب، وتقابلا وتحادثا... شربا قهوة قام بتحضيرها درويش وتبادلا الهدايا ثم طلب منها تأجيل الحوار إلى يوم آخر، وربما أسعدها الأمر والطلب، ففاجأته قائلة: «هل توقّع تعهداً بهذا الوعد؟»... فما كان منه إلا أن استلّ ورقة بيضاء وسطّر فيها: «أنا الموقّع أدناه»... الوصية الذائعة الصيت التي تركها وأوصى بها الراحل. ولما سألته ايفانا: «هل ستسلّم الموضوع مسجلاً؟»، أجاب: «لا، مكتوباً، سأدوّن الأجوبة بخط يدي لأهديك إياها!».
في 28/12/1991 في السادسة مساء، بدأ اللقاء الثالث، تقول إيفانا، «ثم جلس الشاعر إلى طاولته يكمل أجوبته»، فيما هرعت مرشليان لإعداد القهوة. ولكن الشاعر تلكأ من جديد، توقف عن الكتابة، وذهبا إلى العشاء في مطعم صيني: «هو يحب العيش في باريس. مرحلة غريبة ومهمة في آن، لكن أمنيته العودة إلى فلسطين، احتضان أرض فلسطين وأهلها... بعد ذلك، بعد العشاء شاي بالياسمين وبوح واعتراف من درويش: «كل ما كتبته من قصائد لم يولد من حزن أسـود، بل من فرح غامض حزين لم يفارقني أبداً حتى هذا العمر».
الحظ ثم الحظ، تقول إيفانا وتعترف بأنها كانت: «مسألة حظ ان ألتقي بدرويش ذات مساء في خريف باريسي، وأن يفتح لي طوعاً باب الحوار معه على مصراعيه»... سلّمها درويش أجوبته وأوصاها: «خبّئيها معك وحافظي عليها جيداً. أنت وحدك ستعرفين متى يحين الوقت. ربما بعد 20 عاماً أو أكثر. ليكن كتاباً أنيقاً، مكمَّلاً بالصور أو الرسومات المناسبة، ولا مانع في أن يضم ذكرى نزهاتنا في شوارع (الحي السادس عشر في باريس). فقط كي لا تُنسى مثلنا هذه النزهات قريباً ويمر عليها الزمن، حينها لن أكون ولن تكوني».
تنقل إيفانا ما قاله الراحل عن أمه، يقول محمود درويش: «أمي هي أمي. ولو استطعت أن أفك خصرها وضفائرها من لعنة الرموز لفعلت. نعم، تركت وجهي على منديلها، لأنني خارجها أفقد ملامحي. وعندما لا أطلب من كل هذا المأسوي، الذي هو ما يدور في بلادي وعليها، غير منديل أمي، فلأنني أسعى لاسترداد ملامحي الأولى، لاسترداد إنسانيتي في صورتي كما هي، لا كما ترسمها الجريمة الكبرى التي ارتُكبت في بلادي من ناحية، ولا كما ترسمها البطولة من ناحية أخرى».
وكلام أعمق يبوح به درويش عن خيمته: «خيمتي هي أحد أسماء بؤس شعبي. هي أحد عناوين المصير المأسوي لجزء كبير من شعبي لا يستطيع العودة إلى وطنه من جهة، ولا يستطيع الاندماج في منفاه، أو بين بني عشيرته من جهة ثانية».
ويكرر درويش ما قاله في مناسبات: «قلت لا هوية إلا الخيم... إذا احترقت الخيم ضاع منك الوطن... كنت أعبّر عن سخرية احتجاجية من خطاب قومي حدّد هوية الفلسطيني بضرورة صيانة بؤسه، بينما هدف الحركة الوطنية الفلسطينية إنسانية الفلسطيني وكرامته، وتطوير التعبير عن حقه في العودة وقدرته على إنجاز هذا الحق، ولذلك فإن التخلص من ظاهرة المخيم الراهنة هو أحد أهداف العمل الفلسطيني».
أما عن بيروت، فلمحمود درويش كلام من ذهب. عن بيروت يقول الراحل كما تروي الكاتبة: «عشت في بيروت عشر سنوات كانت كافية لأن أعبّر عن حبي الإنساني أكثر لبيروت، لولا صفتي الوطنية التي قد تخدش من يعتقدون أن التعبير عن حب بيروت يعكس نيّة في التوطين... مع ذلك، كتبت كثيراً عن هذه المدينة التي توقع زائرها في حالة الإدمان العاطفي عليها. ولأن بيروت أكثر من مدينة، فإن كل واحد منا يبحث عن نفسه ويجدها في مرآة بيروت، من دون أن يعي أن بيروت ليست هنا. وأنه ليس في بيروت بقدر ما هو مقيم في صورتها التي شارك في رسمها».
الشعر؟ هو الشعر القائل بكل شيء. عن الشعر يسأل ويقول الشاعر درويش: «لماذا الشعر؟ لأنني أستطيع ان أقول فيه وأفعل ما لا أستطيع قوله أو فعله خارج الشعر. فلو فعلنا وقلنا خارج الشعر ما نفعل ونقول داخله، لبدا الشعراء عصابة من المجرمين والمجانين. لا أستطيع في القصيدة إلا أن أكون حرّاً: ولا أستطيع أن أكون حراً إلا اذا كنت عارياً تماماً من الأقنعة، ومن الأهداف، ومن التقاليد، ومن الحرية ذاتها. أما ما يبقى مني خارج الشعر فهو: القناع، الهدف، الموروث، وشرط الحرية».
قال درويش الكثير الكثير لمحاوِرته، وكأنه يريد ان يقول أكثر، لكنه أنهى الحوار بكلام ساطع، تنقله مارشليان: «لم يعد هناك ما يكفي من الوهم لأخاف خيبة الأمل، فالعقد الأخير من هذا القرن العاصف علّمنا ان نفتح باب المخيلة لكل الاحتمالات. وعلّمنا أن ليس للهاوية من قرار. وعلّمنا ألا نفرح او نغضب مما يقدمه لنا الواقع التاريخي من مفاجآت. كأن علينا ان نركب عقلاً آخر لكي نتحمل صدمة المفاجآت، ولكي نتكيف مع متطلبات فهم العالم الفوضوي الجديد. كل شيء إذاً موقت ما دام التاريخ في حالة تعويم عام، وما دام عشوائياً إلى هذا الحد. ومع ذلك، ما زال في وسعي ان أحلم، ما زال في وسعي أن أواجه صدمة الواقع بصدمة شعرية هي الوحيدة الكفيلة بتبرير حياتي. ما زال في وسعي أن أشهد على أكثر من تاريخ عشته وأعيشه في لحظة واحدة. ماذا يبقى من كل ذلك؟ لا أعرف. وربما لا أريد أن أعرف، فليس في قلبي مكان لطعنة جديدة».
كتاب وثيقة ذاكرة، أو سيرة حياة لا تنتهي بانتهاء الكتابة. هكذا وثّقت مارشليان شاعرية الراحل وما تمثله هذه الشاعرية من تاريخ ومعنى وذكرى وذاكرة. وما زالت تتلقى الدعوات في بلاد كثيرة لتتلو من تلك الذاكرة ما ينعش حاضر الزمن وأهله. وهي فخورة بأنها استطاعت ان ترسم خريطة حضور لشاعر يمثّل قضية الحياة وناسها، وترى أن من واجبها أن تنشر تلك الذاكرة على مداها، رغم حذرها الجميل من الوقوع في دائرة الضوء الذي أخذها إليه الكتاب وشاعره: «لا أسعى الى الشهرة ولا أريد. صحيح أن الراحل كان نوراً للقضية التي يمثلها، وتالياً هو نجمها، ولكن لا أريد لظلالي أن تمتد ولو خلف ذاكرة الغائب».
وثّقت إيفانا الإحساس الدفين والباطني لشاعر شهد تحولات الزمن المرّ، وبكتابها هذا، وبهذا الشكل المختلف من السيرة المكتوبة والمنقولة بأمانة المبدعة الواثقة الهادفة الى سماء صافية، حققت مشهداً لا تمحوه تحولات الزمن ولا اشتقاقات المكان، بل يبقى صورة بارقة ولامعة، تعطي المسافة وأنوارها، لأجيال تأتي وتتلاحق.{
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024