تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

رغم التقدم التكنولوجي... مهن رمضانية صامدة

في عصر التقدم التكنولوجي، لم يعد الصائم في حاجة إلى مسحراتي ليوقظه من نومه وقت السحور، فالبدائل كثيرة، أبسطها ضبط ساعة الهاتف الخليوي الذي يتضمن برامج خاصة بالشهر الكريم للتذكير بمواعيد الصلاة والسحور، كما لم يعد هناك حاجة إلى الفوانيس التي كان يستخدمها الفاطميون عندما كان الخليفة يخرج لاستطلاع رؤية الهلال، وحتى الطريقة التقليدية في تحضير الكنافة تغيرت اليوم، ورغم ذلك لا تزال بعض المهن الرمضانية صامدة، فما هي تلك المهن؟ ومن هي العائلات الأقدم فيها؟ وكيف ينافسون التكنولوجيا الحديثة؟ «لها» تحقق...


صناعة الفوانيس
عائلة «كامل» من أقدم العائلات التي تصنع الفوانيس في مصر، وتعود إلى أكثر من 150 عاماً مضت، حيث ورثها الحاج إبراهيم كامل (60 عاماً) عن جدّه لأمه، مؤكداً أنه كان يعمل ميكانيكي سيارات طوال العام، وفي رمضان يتفرغ لصنع الفوانيس كمهنة موسمية.
يقول إبراهيم كامل: «ورثت وأشقائي الثلاثة المهنة عن جدّنا لأمنا، فقد كنا نعمل معه منذ طفولتنا في صناعة الفوانيس المصرية، ورغم أنه كان يتخذها مهنة موسمية، إلا أنها أصبحت مهنتنا الأساسية، التي نمارسها طوال العام، حيث يبدأ موسم العام الجديد بعد عيد الأضحى مباشرة، فننطلق في تجهيز الصاج والنحاس والزجاج، ومن ثم ننكب على صناعة الفوانيس ذات الأحجام الصغيرة، حتى تكون سهلة في التوضيب ولا تشغل مساحة كبيرة، ومع اقتراب الشهر الفضيل نصنع الفوانيس ذات الأحجام الكبيرة».
ويشير إبراهيم الى أنه رغم انتشار الفوانيس الصينية في الفترة الماضية، لم تتأثر صناعته مطلقاً، حيث يعتمدون على التصدير إلى دول الخليج والشرق الأوسط، هذا فضلاً عن اهتمام الفنادق والخيم الرمضانية والمطاعم بشراء الفانوس المصري، لأنه جزء أساس من الديكور الرمضاني.

منافسة
خليل محمد كامل، 27 عاماً، ينتمي الى الجيل الثاني في عائلة كامل التي تتخذ من صناعة الفوانيس مهنتها الأساسية، ويقول: «عملت في صناعة الفوانيس مع والدي محمد كامل، الذي ورثها عن جدّه لأمه، وكنت أعمل مع والدي منذ نعومة أظفاري في العُطل المدرسية والإجازات الصيفية، وقد نشأت في هذه المهنة التراثية وأعشقها كثيراً».
ويؤكد خليل أن دخول الفانوس الصيني إلى مصر لم يؤثر في منافسه الفانوس التقليدي، رغم استخدام التكنولوجيا في صنعه، وإضافة خامات بلاستيكية إليه أكثر أماناً على الأطفال، فيقول: «الفانوس الصيني مجرد لعبة من ألعاب الأطفال تصدر أغنية «وحوي يا وحوي» التراثية، لكنّ المهتمين بالطقوس والشعائر الرمضانية يلجأون إلى شراء الفانوس التقليدي، ومع ذلك يمكننا القول إنه بعد إيقاف الاستيراد من الصين وانتشار الفانوس الدمياطي الخشب استطاع هذا الأخير أن يخلق جواً من المنافسة، التي جاءت نتيجتها لمصلحة الفانوس التقليدي «الصاج»، فهو لا يزال متصدراً قائمة المبيعات في مصر، خاصة أننا نعتمد على التجديد في أشكال الفوانيس، والتنويع ما بين «أبو شمعة» أو استخدام الإضاءة الكهربائية».

سر المهنة
عرفة الكنفاني، 75 عاماً، أقدم وأعرق اسم في صناعة الكنافة في مصر، فبمجرد بدء الشهر الكريم يقصده الجميع من مختلف فئات المجتمع لشراء الكنافة، لا سيما أن مركز البيع يقع في حي السيدة زينب، ذلك المكان الروحاني الذي يتهافت المصريون على زيارته ليُصلّوا التراويح في مسجد السيدة زينب.
نجح عرفة في تطوير صناعة الكنافة في مصر، مواكباً التقدم التكنولوجي، وبالتالي أنشأ معملاً لصنع الكنافة والقطائف وغيرها من أنواع الحلوى، ويحكي قصة وراثته للمهنة قائلاً: «ورثت مهنة صناعة الكنافة من جدّي الأكبر، الحاج عرفة الكبير، فقد كان صانع حلوى في القصر الملكي، ورافق الخديو في إحدى رحلاته إلى الشام، وهناك تعلم كيفية صنع الكنافة، ومن ثم نقلها إلى مصر حيث كانت صناعة هذا النوع من الحلوى بدائية، وتعتمد على مدّ عجين الكنافة على صفيح بسيط، ومع مرور الوقت ظهر الفرن البلدي الذي يُبنى من الطوب، وقد استخدمته في بداية وراثتي للمهنة، لكن في عام 1987 استوردت أول آلة لصنع الكنافة، وتزامن ذلك مع إقامة المعرض الصناعي في مصر، والذي كان يحرص على أن يشارك فيه المصنّعون الأجانب لكي يطّلعوا على الطريقة التقليدية التي نتبعها في صنع الكنافة مستخدمين في ذلك الأفران القديمة، فاليونانيون صنعوا لنا أول ماكينة آلية، لكنني أجريت بعض التعديلات عليها، فسافرت إلى اليونان حيث المصنع المنفذ، وأطلعتهم على الإضافات التي أرغب بها، وبالفعل عدت إلى القاهرة بصحبة أول ماكينة آلية، ومن ثم انطلقت المعامل المصرية في صنع تلك الماكينات».
يؤكد عرفة الكنفاني أن سر إقبال المصريين عليه من مختلف المناطق السكنية في القاهرة الكبرى، يكمن في صنع عجينة الكنافة، ويقول: «لا يزال إقبال الكثيرين على الشراء من «عرفة الكنفاني» في تزايد مستمر، وذلك يعود الى سر المهنة، فالبعض يستخدم ماكينات حديثة لكن صغيرة الحجم، فيضطرون الى إضافة بعض المكونات حتى تتماسك عجينة الكنافة، مما يؤثر في طعمها الأصلي، ورغم أنني أمتلك حالياً مصنعاً ويعمل فيه كثيرون، أحرص على أن يبقى سر خلطة الكنافة في نطاق العائلة، وألا يكشفه أي عامل في المصنع، فهذا هو سر المهنة، ولي أربعة أبناء رجال يعملون معي و14 حفيداً أعلّمهم جميعاً أسرار المهنة، منهم 8 أنهوا تعليمهم الجامعي ويعملون معي بشكل أساسي».

 تحذير من الانقراض
حسن الشيخ من أهم معالم شارع الخيامية، الذي يقع أمام باب زويلة بالقرب من منطقة «تحت الربع»، وذلك لكونه أقدم صانع خيامية في مصر، حيث ورثها أباً عن جدّ، وعمر ورشته في شارع الخيامية تخطى الـ120 عاماً.
يؤكد حسن البالغ من العمر 70 عاماً، أنه ينتمي الى أقدم عائلة مصرية احترفت فن الخيامية، إذ ورثها أباً عن جد منذ أكثر من 150 عاماً، ويقول: «كانت كسوة الكعبة تخرج من شارع الخيامية، وجدّي كان أحد العاملين في زخرفة كسوة الكعبة المشرّفة، وتؤكد الروايات المتوارثة عن جدّي أن مصر أنشأت أول مؤسسة تُعنى بذلك، وسمّتها «إدارة الكسوة»، وكان صنّاع الكسوة من الخيامية يعملون فيها ما يقارب العام، وكانت الكسوه تُنقل على الجمال في احتفالية كبيرة تُسمى بـ«المحمل»، من مصر إلى السعودية في موسم الحج».
يحذّر حسن من انقراض مهنة الخيامية، نظراً لقلّة عدد الأيدي العاملة فيها، لافتاً إلى أنه قديماً كانت تُجرى اختبارات حرفية لأي عامل يريد العمل في الخيامية، ولا يُقبل في المهنة إلا إذا نجح في الاختبارات، فيتم الاحتفال به ويصبح عاملاً، أما اليوم فالمهنة مهددة بالانقراض.
يؤكد حسن حرصه على توريث أبنائه مهنة الخيامية، رغم حصولهم على مؤهلات علمية عالية، ويقول: «حفاظاً على تراث العائلة أورّث أبنائي المهنة، رغم حرصي على حصولهم على مؤهلات علمية عالية، وذلك من أجل مواكبة العصر لعلهم يضيفون جديداً إلى المهنة».

يلتقط عمرو حسن الشيخ أطراف الحديث من والده، قائلاً: «التقدم التكنولوجي أصبح ينافس مهنة الخيامية، فبعد استخدام ماكينات الطباعة في طباعة الأقمشة، بدأنا في رسم بعض الرسومات لنختص بها، وطباعتها مواكبة لعصر السرعة، وموضة هذا العام هي نوستالجيا الثمانينيات من الفوازير ومسلسلات رمضان الشهيرة، مثل «بوجي وطمطم»، لكن تبقى الأعمال اليدوية هي الأصل الذي نصدّره الى دول الخليج، مثل الكويت والسعودية والإمارات، بالإضافة إلى عشاقه من المصريين».

وصية
لم يعد الصائمون في حاجة إلى مسحراتي يوقظهم ليلاً، لكن عصام سيد، البالغ من العمر 47 عاماً، ما زال متمسكاً بمهنة المسحراتي عملاً بوصية والده... ويقول عصام: «ورثت مهنة المسحراتي عن أبي رحمه الله، والذي بدوره ورثها عن أجداده، وأوصاني بضرورة التمسك بالزي التقليدي للمسحراتي، وهو الجلباب، والحرص على الهيئة، أي النقر على الطبلة القديمة والتنقل على «حمار» لإيقاظ النائمين».
ويتابع: «رغم أن التطور التكنولوجي قضى على مهنة المسحراتي، إلا أنها ما زالت تلقى احتفاءً من الأهالي في المناطق الشعبية والراقية على حد سواء، وكذلك الأطفال الذين تشع منهم البهجة بوجود المسحراتي، فيتبعونني سيراً على الأقدام وهم يمرحون ويطلبون مني مناداتهم بأسمائهم للسحور على الطبلة».

 

الفانوس
ارتبط في مصر بشهر رمضان الكريم في عهد الفاطميين، حتى أطلق عليه «فانوس رمضان»، وعندما كان الخليفة يخرج لاستطلاع رؤية الهلال، كانت تحفّه العربات المضاءة بالشموع، ويتبعه الناس حاملين الفوانيس. وحين يتأكدون من نتيجة الاستطلاع يضيئون الفوانيس طوال الليل على سطوح منازلهم، ويدور المُنادي في البلاد معلناً: «صيام... صيام كما حكم قاضي الإسلام».
وظهرت في تلك الفترة أغنية رمضان الشهيرة التي يردّدها الأطفال وهم يمسكون بالفوانيس: «وحوي يا وحوي إياحا، رحت يا شعبان جيت يا رمضان، بنت السلطان لابسة القفطان، إياحا».
واعتاد الأطفال على حمل الفوانيس بعد الإفطار والتجول بها في الشوارع طلباً للهدايا، التي بدأ الفاطميون في إغداقها لنشر دعوتهم، واستمرت هذه العادة في التأصّل حتى أصبح الفانوس ملتصقاً بشهر رمضان، ولعبة محبّبة الى قلوب الأطفال يُفتَنون بها ويغنّون لها، وفي ما بعد تحول الفانوس إلى صناعة وتجارة لاقت رواجاً كبيراً، ليس في السوق المصرية فحسب، بل في الأسواق الخارجية أيضاً، حيث توارث عدد من الحرفيين هذه المهنة على مدى القرون الماضية، وحجزوا لأنفسهم مناطق معينة اشتهرت بصناعة الفوانيس، وأهمها على الإطلاق شارع «النحّاسين» في مصر القديمة، وكذلك منطقة السيدة زينب، حيث إنها المنطقة الأولى في مصر التي تصنّع الفوانيس، ومعظم أهالي الحي يصنعون الفوانيس داخل بيوتهم كمهنة موسمية.

الكنافة
من أكثر الحلويات شهرةً في العالم العربي، لكن لا تزال الروايات الخاصة بتاريخ هذه المهنة متضاربة، ففي حين ينسبها البعض إلى معاوية بن أبي سفيان، يؤرّخ لها كثيرون بالعصر الفاطمي، وزمن المعز لدين الله الفاطمي، مؤسس مصر الإسلامية وقاهرتها.
يروي التاريخ أن صنَّاع الحلوى في الشام كانوا قد صنعوها لتقديمها إلى معاوية بن أبي سفيان، عندما كان والياً على الشام، وذلك حتى يتناولها كطعام للسحور، فتمنع عنه الجوع الذي كان يشعر به في أثناء الصيام، وقد ارتبط اسمها باسمه، حتى أنها سُمّيت «كنافة معاوية» لفترة طويلة. ويذهب البعض إلى أن تاريخ الكنافة يعود إلى العصر الفاطمي، وقد عرفها المصريون قبل أهل بلاد الشام، وذلك عندما تصادف دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي القاهرة، وكان ذلك في شهر رمضان، فاستقبله الأهالي بعد الإفطار وهم يحملون الهدايا، ومن بينها الكنافة بالمكسّرات، كمظهر من مظاهر الكرم.

الخيامية
فن مصري، والمصطلح مشتق من كلمة خيام، وهو صناعة الأقمشة الملونة التي تُستخدم في عمل السرادقات، وربما يمتد تاريخ هذه المهنة إلى العصر الفرعوني، لكنها بالتأكيد أصبحت أكثر ازدهاراً في العصر الإسلامي، لا سيما العصر المملوكي، وقد كانت الخيامية ترتبط قديماً بكسوة الكعبة المزينة بخيوط الذهب والفضة، والتي استمرت مصر في تصنيعها حتى ستينيات القرن الماضي، وإرسالها الى الحجاز في موكب مهيب يُعرف باسم «المحمل».

تنتشر هذه الحرفة بكثرة في شارع الخيامية بالقرب من باب زويلة، آخر شارع الغورية في القاهرة.

المسحراتي
مهنة يطلقها المسلمون على الشخص الذي يوقظ الصائمين في ليالي شهر رمضان لتناول وجبة السحور. والمعروف عن المسحراتي استخدامه الطبل أو المزمار بهدف إيقاظ الصائمين قبل صلاة الفجر، وعادة ما يكون النداء مصحوباً ببعض الابتهالات أو الأناشيد الدينية. مع تقدم الزمن والتطور التكنولوجي، أصبحت هذه المهنة شبه منقرضة، خصوصاً في بلدان الخليج العربي، السعودية والبحرين وقطر والكويت، وبعض بلدان شمال إفريقيا العربية، مثل مصر وتونس والسودان وليبيا وسورية وغيرها.
وفي مصر كان والي مصر إسحق بن عقبة أول من طاف على الديار المصرية لإيقاظ أهلها للسحور. وفي عهد الدولة الفاطمية، كان الجنود يتولون الأمر. وبعدها عيّنوا رجلاً أصبح يُعرف بالمسحراتي، كان يدقّ الأبواب بعصا يحملها قائلاً: «يا أهل الله قوموا تسحروا»، ولاحقاً أصبح يقول عبارات مثل: «اصحى يا نايم وحّد الدايم... وقول نويت بكرة إن حييت... الشهر صايم والفجر قايم... ورمضان كريم».

 

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078