كارمن بستاني تستحضر أندره شديد...الشاعرة والأديبة التي عاشت القرن بأكمله
ترسم صورة للعين وحروفاً للبصر والعقل والروح، وكأنها تقول الحب والأفكار والشعر من النظرة الأولى... هذا ما يقوله قارئ كتاب كارمن بستاني «أندره شديد، كتابة الحب» بالفرنسية، فعلى غلاف الكتاب الصادر عن «دار فلاماريون»، تستوقفنا بستاني طويلاً، بحروف العنوان وكلماته، وبالصورة الجميلة للشاعرة والأديبة الراحلة أندره شديد، وفي نظراتها الشاخصة إلى البعيد، حيث لا يستكين الزمن. كأنها محاولة استنباط واستحضار ما في نفس الراحلة التي أسست بشِعرها وأدبها صورة صافية، ولغة خافقة، كهذا الشرق الذي استمدّت منه الوحي والكتابة. ومن باريس أيضاً حيث أقامت طويلاً، وشيّدت هرمها الإبداعي المتمثل بعالمها الأدبي والشعري.
حافظت كارمن بستاني على الخيط الذي يربطها بأدب الراحلة، فدوّنت ما كانت ترويه لها كلما جمعهما لقاء، تدوّن كل كلمة وكل صفة وكل حرف، ناسجة بها كلماتها المدوزنة وفق أصول الرأي والإعجاب. واستمرت على هذا النحو مع الشاعرة الراحلة، إلى حين بدأت أعراض ألزهايمر تمتد الى الأديبة. تقول بستاني: «كوني كاتبة سيرة أندره شديد الوحيدة، صرت أشعر حيال هذه المغامرة الكبرى بمسؤولية الإسراع في جمع شواهد عنها من أشخاص عايشوها، قبل زوالها من ذاكرتهم، وكانت المهمة شاقة، لكنها ممتعة جداً».
من بين هؤلاء الشهود تسنى لها مقابلة زوجها لويس شديد وابنتها، فهما عنصران (ذاكرتان) دعّما أساسات هذه «البيوغرافيا».
جعلت كارمن بستاني الكتابة النسوية اختصاصها، وإعجابها وافتتانها بشعر أندره شديد، بما أنتجته من إبداع على مدى سني عمرها، ساهم جلياً في توثيق سيرة الغائبة على أكمل وجه. وظهر ذلك واضحاً في ذلك الدخول، خطوة خطوة في سيرتها، ما رفع من وتيرة الرهافة المنقولة بين أديبتين.
أندره شديد، كتابة الحب»، كتاب أدبي جاذب للقارئ المهتم، وقد يكون العمل الأدبي الأشمل والأهم مما كُتب في هذه الشاعرة. وربما كان المادة الغنيّة التي أثرت في كل من طلب التعرّف الى الراحلة ومكانتها الإبداعية.
لمناسبة صدور كتابها الذي حازت عنه جائزة «الفينيكس» لعام 2016، تحدثت كارمن بستاني لـ«لها»، وكان هذ الحوار.
- ماذا تعني لك أندره شديد، وكيف بدأت علاقتك بها وبكتاباتها وشعرها؟
أندره شديد تعني لي الكثير. لقد درستها في الجامعة، وأشرفت على أطروحات حول أدبها، كما أنني درستها في جامعات فرنسا وأميركا. وألقيت عنها محاضرات في كندا وأميركا وأوروبا ولبنان. وخصصت لها مكانة في كتبي اللغوية، وفي مؤتمر عالمي، كتكريم بمناسبة القمة الفرنكوفونية التي أُقيمت في بيروت عام 2002. لقد أحببت شعرها وكلماتها. وقرأت ونقدت كل دواوينها الشعرية مع مقدمة مني Collection Mille et un poèmes التي خصتها بها دور نشر «فلاماريون» عام 2013. أحب شعرها لأنه التعبير الصادق عن العلاقة مع الآخر، وقد خصصت للآخر رواية اقتُبس منها فيلم سينمائي لـ Bernard Giraudeau، بعنوان Suspens يدور حول حب الحياة. كتبت أندره شديد عن الحياة اليومية، فالقارئ لشعرها يرى نفسه على ضفاف نهر النيل أو على شاطئ البحر المتوسط في بيروت أو على ضفاف نهر السين في باريس. وقد أعطت هذا الواقع اليومي نفساً شعرياً، ولكنها كتبت بنوع خاص عن الحروب وعن مآسي هذا الشرق، وخاصة الحرب اللبنانية. لقد أحبت أرض أجدادها وخصصت للبنان كتاباً سمّته «لبنان». كُتب بشاعرية رقيقة، وعند قراءته نفتخر بلبنانيتنا وننسى واقعنا الأليم. كما كتبت في لبنان أول ديوان شعر لها باللغة الانكليزية أراد زوجها نشره لدى دار Horus في مصر كمفاجأة لها. وقد نصحها الشاعر شارل كرم بالكتابة باللغة الفرنسية لتصبح كاتبة مشهورة، وقد تحققت توقعاته إذ تبنت أندره شديد اللغة الفرنسية وأصبحت شاعرة كبيرة. وهي اليوم الوحيدة بين الكتّاب الفرنكوفونيين التي تدرّس في مدارس فرنسا وليس في الجامعات فقط.
- لماذا قررتِ الاحتفال بالشاعرة أندره شديد بهذا الكتاب؟
هناك صداقة متينة جمعتني بأندره شديد دامت نصف قرن. وقد بدأت هذه الصداقة في الثمانينات عندما كنت آنذاك في باريس وحصلت على منحة لدراسة الأدب الفرنكوفوني. وكانت الكاتبة أندره شديد من بين الكتّاب الذين انتقيتهم لدراستي حول المفهوم الجندري في الكتابة. فقد أعجبتني تلك الشرقية المتحدرة من أصل لبناني، والتي استطاعت أن تجد لها مكانة مرموقة بين الكتّاب الباريسيين آنذاك. وقد علمت أندره ببحثي وطلبت مقابلتي وسرعان ما ولدت صداقة بيننا من خلال اللقاء الأول الذي جمعنا. فكرت أن أجلب لها هدية صغيرة، فارتأيت أن تكون باقة من الورد الأصفر، وأصبحت عادة، فكلما كنت أذهب لرؤيتها، أحضر معي باقة من الورد، وكانت تشكرني كثيراً. لكن عندما تعمقت في شعرها وأدبها، علمت أنها لا تحب رؤية الورود في الزهرية، بل تحب أن تتأملها في الطبيعة... وكتابتي عن سيرة حياتها لم تقتصر على شعرها فقط، بل قطعت وعداً بيني وبينها منذ أن كانت على قيد الحياة بأن تشاركني في تأليف الكتاب المقبل، لكن شاءت الظروف أن تبصر هذه السيرة النور بعد وفاتها. وأتمنى أن أكون قد وفّيتها حقّها... لقد سعيت أن أكون موضوعية في رواية الأحداث رغم أن الانطباعات الذاتية تغلب في أكثر الأحيان. وقد كوّنت عنها في أول لقاء بيننا صورة جميلة لامرأة رائعة تدخل إلى القلب من دون استئذان... وكلماتها بالعربية كانت تحمل في طياتها نوعاً من الحنان الخاص بها.
- هل تعتبرين أندره شديد شاعرة فرنكوفونية مميزة؟
عاشت أندره شديد ما يقارب القرن. ولدت عام 1920 وتوفيت في 2011. كرست حياتها للكتابة، وهي تؤمن بأن الكتابة تعني الوجود، وتحب اللغز في الكتابة وليس في وجود الحلول. شعرها هو شعر التساؤلات، وفي التساؤلات تكمن الحقيقة. فقد تأثرت بالحقبة التاريخية بعد الخمسينات، أي الحقبة المميزة بالحداثة السلبية، والتي قامت على التساؤلات والاهتمام ببنية الكتابة الشاعرية. فأندره شديد المولودة في العشرينات هي امرأة وشاعرة حديثة، ثائرة على تقاليد المجتمع، وعلى دور المرأة الشرقية المهمّشة، وثائرة أيضاً في كتابة الشعر الحديث.
- ماذا تعني لك اللغة العربية، وهل حاولت الكتابة بالعربية؟
في سنوات دراستي كنت أهوى اللغة العربية، لكنني اخترت للتخصص اللغة الفرنسية. فقد عشقتها وأحببت فرنسا أولاً من خلال كتّابها وشعرائها. وكان للحرب اللبنانية وما عشنا من مآسيها، ما جعلني أقطع كل علاقة مع لغتي العربية، حتى أنني لم أعد أقرأ الصحف المكتوبة بالعربية، فهجرت هذه اللغة التي هي لغتي. وعندما كتبت روايتي الأولى «فاجأتني الحرب في بيروت» الصادرة عن دار نشر (كرتلا) في فرنسا، رويت فيها كيف تصالحت من جديد مع لغتي العربية بعد فراق دام عشرين عاماً. واليوم أحاضر بالفرنسية وأحياناً بالعربية. كما أنني أكتب عن كتّاب وكاتبات شرقيين باللغة الفرنسية، فهذا سبيل للتعريف عنهم خارج نطاق العالم العربي.
- وماذا تقولين في اللغة الفرنسية التي تأسرك؟
أعشق اللغة الفرنسية وأشعر بأنها لغتي. وهوسي بها دفعني لرفض تعلم اللغة الإنكليزية، فاعتبرت أن تعلم لغة أجنبية أخرى هو خيانة للغة التي أحب. وأشعر بأن اللغة الفرنسية مكّنتني من التحدّث عن الأدب اللبناني والعربي.
- كارمن بستاني، شاعرة وباحثة وكاتبة، ماذا تعني لك الكتابة؟
الكتابة هي علّة وجودي، وحبي لها يتجاوز كل أنواع الحب، فمن خلالها أعبّر عن مشاعري وأحاسيسي. وهي تعني لي سحر الحياة، ورغم أنها لا تستطيع إيقاف الزمن لكنها سلاحي الوحيد لأحيا.
- لماذا الشعر في حياة كارمن؟
الشعر هو جوهر الوجود، وهو التعبير بكلمات وجيزة عن معنى الحب والموت والحياة، أي ما يهمّ الانسانية جمعاء. فهو لغة كونية مفهومة من الجميع. وقد أحببت في شعر أندره شديد ومضة الأمل في الأوقات الحالكة. فدواوينها الشعرية تدور حول الشمس، وهي تؤمن بأن الأمل ينبت في الأرض ذاتها التي ينمو فيها الخطر. أحب في شعر أندره شديد الحركة، وقد تأثرت بها في حب الحركة في الشعر، لأن الحركة هي السلاح في مواجهة الجمود والموت.
- أين أنت اليوم؟
أعيش في وطني لبنان وأحبه رغم كل ما أصابه من محن وفوضى. وأحب أيضاً باريس التي أعتبرها مدينتي الثانية بعد مدينة جبيل التي أهواها كثيراً. ومن لبنان أنطلق إلى سائر دول العالم لأحاضر وأعود إلى وطني، فهو المرجع الأول والأخير... وأحب أن أختتم حديثي بعبارة لجبران خليل جبران: «إن لم يكن لبنان وطني لجعلت من لبنان وطناً لي».-
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024