الروائية رشا فاضل: كان عندي منزل ووطن...
الروائية العراقية رشا فاضل، كاتبة متعددة المواهب، كتبت الرواية والقصة والمسرح، رسمت خطاً في الهوى والنوى، أطلقت حروفها وكلماتها في المدى الواسع، علّها ترسم أو تستعيد صورة الوطن البعيد، الوطن الذي لم تتركه أو يتركها رغم المسافة الفاصلة بينهما. أصدرت العديد من الكتب الأدبية، منها: «أحلام كالفراشات»، «رقصة فوق خراب الوطن»، «مزامير السومري»، ورواية «على شفا جسد»، كذلك كتبت العديد من المسرحيات التي عُرضت في مسارح عربية متنوعة. تعيش الكاتبة حياتها في الغربة، بعيدة عن وطنها وناسها، لكنها لا تكف عن الأمل، فـ«لا شفاء من الأمل» الذي يراودها ويحملها كل يوم الى جوهر الأرض والإنسان والزمن.
في هذا الحوار تكشف رشا فاضل لـ «لها» عن مرآة ذاتها، وتُبرز معدن الإنسان المجبول بتراب الحياة والكلمات... فماذا تقول؟
- نسأل أولاً من هي رشا فاضل، وكيف تعرّف نفسها ككاتبة وإنسانة؟
أنا إنسانة حالمة تصر على المضي بخطى ثابتة نحو المدينة الفاضلة المستحيلة، فتجدها على خشبة المسرح حيناً نصّاً ضاجّاً بثورتها البيضاء، وفي أحيان أخرى بين دفتي رواية تطارد أبطالها الهاربين من الحياة الى سفوح الورق، وصولاً الى المتناثرين بعيداً عن أوطانهم في محاولة لابتكار أوطان بديلة أقل قسوة وأكثر رحمة.
- كيف دخلت الكتابة الى حياتك، والرواية تحديداً؟
بدأت بالقصة القصيرة، عتبة نحو عالم شاسع اسمه الرواية، فالقصة بتكوينها وهيكلتها السردية لا تحتمل الاستطراد ولا تستوعب أحداثنا المُثقلة بالألم، لذا عبرت الى ضفّة الرواية في رحلة محفوفة بالتوجس والحذر، فالخروج من اللغة المكثّفة المختزلة للتجربة والأحداث الى أفق فسيح مشرّع على كل الاحتمالات كالرواية وضعني في سلسلة تحديات، ولعل ما يشفع لي خوض غمار الرواية هو تلك الأحداث والتجارب التي لم تكن لتستوعبها القصّة أو المسرح. يمكن القول إن التجربة هي التي تختار جنسها الأدبي والشكل الذي تظهر به على الورق.
- كيف بدأت علاقتك بالكتابة؟
مثل أي سجين يحاول أن يوصل صوته ويتواصل مع العالم الخارجي بدأت علاقتي بالكتابة. كانت الكلمات حبلي السري الذي أمدّه الى الحرية والى الآخر الذي يفصلني عنه الكثير من اللاءات والمحظورات، في واقع لا يمكن حتى أن أُطلق عليه صفة الذكورية. فالمجتمع الذكوري لا يعني إلغاء صفة الأنوثة ووجود الأنثى، بل يذهب الى معنى اكثر عمقاً وهو «التصحر»، بمعنى فرض الهيمنة الذكورية عنوة على مجتمع يتمنى العدالة والمساواة والحرية، فالرجل لم يعد سعيداً بهذا النصر الإلزامي، فقد بدأ يُثقل كاهله أيضاً وسط هذه الرؤى المتشابكة، فكان لزاماً عليّ الاستعانة بصوت الكلمات وهي الأقوى والأكثر فصاحة مني، وأكثر مقدرة على الخروج من أقفاص الأنثى الى أفق شاسع اسمه الحياة.
- هل تأثرتِ بظروف وأشخاص وأماكن؟ وكيف تبلورت أفكار الكتابة الروائية في حياتك؟
الأحداث هي التي كتبتني... «فرّوحة» بطلتي في الرواية كتبت صورة الأم العراقية المجبولة بالأسى والسواد. أولئك المعتقلون في السجون وهم يحملون رسائلهم وأوجاعهم كتبوا الفصول اللاحقة في روايتي. تلك القرية النائية «سمرة» التي تجهلها خرائط الكون كتبتني بخضرتها، بشعثها... وكل العشاق المهزومين حمّلوني رسائلهم الخائبة ورحت أكتبها بحبري. لا أعرف حقاً من كان يكتب الآخر! كنتُ أصواتهم وكانوا حبري. إنها المعادلة الأكثر تعقيداً في الكتابة، أن تطرح هذا السؤال العصيّ: من الذي كتب الآخر: أنت أم التجربة؟
- المرأة العراقية المبدعة، كيف تصفينها، وما هو تأثيرها في الثقافة العربية؟
المرأة العراقية تاريخ من الجمال والأسى، منذ «إنانا» رمز الحب والحرب التي تشبهنا كثيراً وتمثّلنا تماماً، وحتى عراق الهجر والتهجير... المرأة العراقية في غياب نصفها الآخر، الشريك والابن والصديق، الشريك الذي ابتلعته فوهة الحرب والغياب، فكان عليها أن تشغل مكانه في شواغر الحياة، فراحت تستحضره على بياض الورق قامة نخيل لا يدركه الانكسار او الغياب. لذا فهي عندما تكتب ينصت إليها العالم... عنقاء تنبعث من رمادها كل يوم بهيئة قصيدة وقصة ورواية وعاشقة وريشة ألوان تشاكس كل ذلك الخراب العظيم. تحملت المرأة العراقية، وخاصةً المرأة المبدعة، الجزء الأكبر من تداعيات تلك الأحداث التي انعكست على منجزها الإبداعي الذي فُرض عليه المزيد من القيود فأصبح لزاماً عليها ان تبذل مجهوداً استثنائياً لإظهاره للعالم، وقد استدعى المضي بمشروعها الثقافي مواجهة الكثير من التحديات والعقبات الاجتماعية والسياسية على حد سواء. يمكن القول إن مسيرة المرأة العراقية قد تلكأت بفعل كل هذه المتغيرات، إلا انها استمرت ولم تتوقف وعادت بقوة إلى الساحة وفرضت وجودها بتحدٍ اكبر، وهي لا تزال حاضرة وفاعلة في المشهد الثقافي العراقي والعربي على حد سواء، ويمكن رؤية ذلك بوضوح من خلال مشاركاتها في المحافل الدولية والاحتفاء بمنجزها المتميز في كل الجوانب الإبداعية.
- هل تكتبين الشعر أيضاً، ولماذا؟
أكتب الكثير من الشعر، لكنني أعتبره نافذتي التي أطل منها على ذاتي وليس على الآخرين. لذا فهو مساحة خاصة جداً، بحيث لا أجاهر بنصوصي الشعرية إلا نادراً، في حين أُعلن انتمائي الصريح الى الرواية والمسرح، فهما يشكّلان جزءاً من هويتي في الكتابة. أما الشعر فيمكن اعتباره هوية «سرّية» فيها من الخصوصية الكثير على الرغم من ان الكثير من النقّاد والقرّاء الذين قرأوا أعمالي اكتشفوا وجه الشاعرة المخاتل المختبئ خلف النصوص والعناوين، بل إن غالبيتهم طلبوا مني التوقف عن كتابة الرواية والانتماء الخالص الى الشعر... الشعر هو المنصّة التي أطل منها على الكتابة، لكنني ما فتئت أتحايل على النص بكل ما أوتيتُ من حيل لغوية فاتنة.
- لماذا نالت روايتك جائزة أدبية؟
لأن الوجع الإنساني لا يحتاج الى وساطة اللغة ليتواصل مع الآخرين، كان لروايتي هذا الحضور الإنساني والادبي. في الحقيقة، أتحفّظ حتى على مفردة «روايتي»، لأن شخوصها هم الذين كتبوها، ذلك العاشق القروي الذي يجوب المدن مقتفياً أثر حبيبته، تلك الرسائل التي حطت في جيب قلبي بحكم عملي في الصليب الأحمر، فكانت كل رسالة تحكي فصلاً في حكاية الوجع والاحتلال والانكسار الإنساني وسلب الأوطان. كانت الرواية بمثابة خرائط شاسعة لذاكرتنا المأهولة بالفقد، بالهويات التي كانت فسيفساء للوحة شاسعة اسمها العراق. كانت الرواية فصلاً في حكاية الشتات العراقي تروي على لسان الحبر حكاية خرافة اسمها الحرية.
- رشا كاتبة مهاجرة من وطنها أو منفية، لماذا تعيشين خارج وطنك؟
حين يكون الخروج من الوطن بدافع اقتناص الأحلام وتحقيقها، فعندها نتحدث عن الهجرة الطوعية. أما حين نلملم بقايا ذاكرتنا ونرصّها في حقيبة صغيرة لا تتسع لحياتنا فهذا هو النفي بأوضح أشكاله. «كان عندي منزل ووطن»... عبارة أهذي بها كثيراً، بل أخشى أن أُصاب بعقدة المنزل، فقد أُجبرت على مغادرته بعدما احتل تنظيم «داعش» مدينتي تكريت. في ذلك اليوم أعلن الزمن توقفه وعجزه عن مواكبة سواده الذي امتد من رايات «داعش» السوداء الى آخر نقطة في أحلامنا البيضاء. حين استيقظت ووجدت تلك الراية الحالكة السواد والمُمعنة في القتل ترفرف قرب بيتي، عرفت أنها تصريح بالنفي خارج أسوار الحياة. كانت الجدران تبكي خوفها المطبق، وكنت أُلملم ما تيسر حمله من كتب وذاكرة ووجوه.
- هل حققت لك الكتابة توازناً في الحياة بعيداً عن حياتك الأولى؟
أتمثّل الحياة من خلال الكتابة. هل الكتابة أداة تجميلية للحياة؟ هي أعمق من ذلك بكثير. هي محاولة أخرى لفهم الحياة وتأويلها بما يتوافق مع منطق الحياة ومعناها الشمولي المتجاوز لمتناقضاتها، بعد كل كبوة تعيد الكتابة إعادة تأهيلي من جديد. بعد كل جرح ترمّم ذاكرتي، تدفعني نحو أمل أكيد بخطى ثابتة... تشذّب خوفي وتعيد إليّ صوتي وملامحي في زمن عربي ممسوخ، ومن خلالها أيضاً أمدّ جسوراً مضيئة مع الآخرين في معرفة تسمو عن الأيديولوجيا والحروب التي أحالتنا الى رماد متناثر في مسيرة الأمم نحو التجديد والتعايش والابتكار والبناء والتطوير. الكتابة اكبر من ان تكون تجربة ورقية تحاكي الآخر بوساطة الكلمات، هي طريقة حياة وتعايش وقبول.
- الحب في نصك وحروفك، هل هو واجب أم شعور لا يمكنك الخروج منه؟
لا يمكنني الخروج عن أفق الحب في الكتابة. لطالما كان الحب هو المحفّز والمحرّك للكتابة. لقد كتبت عنه غائباً وحاضراً، وفي الغالب يكون غيابه أجمل فهو يستفز الحبر والكلمات ويحرّض على ارتكاب غوايته في مجتمع يطارده بالفؤوس حتى هذا الوقت المتأخر من الحضارة. بدون الحب تنطفئ جذوة الكتابة في محبرتي فتغدو الكلمات حبراً على ورق، وأتحول في غيابه الى آلة كاتبة باردة، كما لا أتمنى ان أكون يوماً.-
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024