الكاتبة والمخرجة المسرحية سميرة مداح: كتبتُ القصص من وحي الخيال
حلمت وحققت حلمها الطفولي حين فُتحت أمامها الأبواب والنوافذ بعد مسيرة طويلة في رياض الأطفال، فكتبت وأخرجت أجمل المسرحيات والأوبريتات بثقة عالية فولد فنٌ جميل من رحم المعاناة على مسارح جدّة عروس البحر الأحمر مع أطفال الوطن لتهمس للعالم: أنا المرأة السعودية التي نجحت على كل الصعد، الاجتماعية والثقافية والفنية والأدبية، وما من عائق إلا وحطّمته لأبني مسرحاً للأطفال. سميرة المداح كاتبة ومخرجة مسرحية، القتها «لها» وسلطت الضوء على رسالتها الفنية في حوار صريح.
- كيف بنيت مسرحاً للأطفال في مجتمع محافظ؟
كنت أهمس في قرارة نفسي، من يحقق حلمي، فطرقت كل الأبواب من رجال وسيدات الأعمال والمجتمع، لكن السخرية كانت تلاحقني... مسرحٌ للطفل! وكان الألم يعتصرني، لإيماني بأنه إذا كانت المرأة نصف المجتمع، فالطفل كل المجتمع، وبقي الأمل يشرق من كوّة صغيرة، طالما أنني حلمت منذ الطفولة بأن يكون هناك مسرح سعودي بلغة عربية، لأن لغة الضاد تسري في عروقي، ومن يتخلّى عن هويته اللغوية يتخلّى عن ملابسه، فرفضت كل من طلب مني الكتابة باللغة المحلية.
- من أين استمددت الأمل؟
حين يكون الأمل مزروعاً في الروح، لا بد له من أن يشرق، وبزغ ذلك الفجر الجديد من مسرح جمعية الثقافة والفنون بقدوم الدكتور المسرحي الفنان عمر الجاسر ليقود المركب، فحين عُيِّنَ مديراً للجمعية وُلد الأمل بإنشاء مسرح للطفل.
- كان للمسرح وجود في رياض الأطفال.
بدأت في رياض الأطفال منذ عام 1394هـ. لم يكن عندنا مسرح للطفل، لكن كانت لدينا أركان تعليمية، منها ركن تحت عنوان «الركن الإيهامي»، أي التعايش الأسري، فكان الطفل يتقمص شخصية الوالد والوالدة ويتم تمثيل الدور، مما يدل على أن في إمكان الطفل إيصال المعلومة للطفل الذي في مثل سنّه، أفضل من البالغين، لذلك كان الحلم بتأسيس مسرح للطفل يراودني، والمسرح موجود في الجمعية، لكن الكبار كانوا يقومون بدور الطفل.
- هناك سر وراء التمسك بمسرح الطفل؟
حين كنت طفلة، كانت والدتي تخيط لي العرائس، وتقص خصلات من شعرها لتضعها على رأس «العروسة»، وتستخدم قطعة نقدية من فئة نصف الريال وتشدُّ عليها قماشة فيتشكل وجه «العروسة». كنت أحملها بين أناملي وأُصدر أصواتاً مختلفة أمام شاشة اخترعتها بنفسي حين علّقت شرشفاً على شباك منزلنا القديم المطلّ على البهو الخارجي مع ضوء الفانوس، فيظهر الظل وأقوم بحركات جميلة بأناملي. وفي إحدى المرات، قصصتُ صورة أرنب ولصقتها على المسطرة بمحلول النشاء الذي كنت أعدّه بنفسي، وجعلت لها ظلاً على الجدار وحركته باتجاهات عدة، وكم تخيلت ذلك الأرنب وهو يقفز ويقفز...
- دخلتِ معهد إعداد المعلمات في سن صغيرة...
نعم، أنا من جيل تعلّم في عهد الملك فيصل طيّب الله ثراه، بحيث كان يُسمح لنا بعد المرحلة الابتدائية بدخول معهد المعلمات، فتخرّجت بعد ثلاث سنوات في التعليم الابتدائي، وكان عمري يومها 15 سنة، ودرّست في الصفوف الابتدائية في القطاع الرسمي، وكنت أنشد مع الطالبات بعد انتهاء الدروس أغاني وطنية وترفيهية.
- أين كنت تخبّئين العرائس؟
كان عندي خمس عرائس وأخبّئها في كيس مخدة وأستعرضها مساء كل يوم وألقي أمامها الشعر والخطابة بتشجيع من الوالدة، لكن إذا اشتكيت لأمي أن أحداً ضربني، كانت تقول لي: «اكتبي كل شيء، ولا تتركي شيئاً»، وإن لم يكن هناك ما أخبرها به، تردّ بلهجتها المصرية المحببة، «بصي على شجرة النيم وقولي العصافير بتقول إيه»... حتى حفظت أصوات العصافير في الفرح أو في الحزن، وهكذا كنت أكتب القصص من وحي الخيال والواقع.
- حدّثينا عن أجمل القصص التي كتبت عنها وأنت طفلة؟
كنت أراقب حركة النمل والتفافه على بعضه البعض، فسألت أمي ماذا يفعل النمل؟ فقالت لي: «انظري الى النملة كيف تقبّل أختها النملة، واكتبي لنا قصة من نسج الخيال». وفي الحقيقة، كان النمل ينقل معلومات. كما كتبت قصصاً كثيرة عن الفأر وكيف وقع في الفخ الذي نصبته له، وفي اليوم التالي حرّكته بالعصا وتأملت شكله وسردت قصصاً عنه.
- كيف كنت تروين القصص؟
بعد صلاة العصر، كنا نرشّ أرض البهو الخارجي بالماء ونوزع عليها المساند والمخدات، وأجلس على أربع مخدات مرتّبة فوق بعضها البعض، بعد تحضير الشاي والفُشار مع والدي رحمه الله، وألبس أجمل ما عندي وأزيّن شعري بطوق جميل وأبدأ بسرد القصص مع تغيير في نبرات صوتي، والمكافأة التي كنت أحظى بها هي نصف كوب من الشاي، وتوقيع والدي الذي يزيّن كل قصة.
- لماذا توقف هذا النشاط المسرحي الجميل؟
تزوجت بعد تخرّجي مباشرة، ونسّقت بين التعليم والبيت، لكنني انقطعت عن التعليم بسبب تعرضي لحادث سيارة، وعدت بعدها للعمل في رياض الاطفال في مدارس الإخاء الإسلامي، إلى أن زارتني الدكتورة فريدة الحسون رئيسة التعليم بهدف إعادتي إلى القطاع الحكومي مرة أخرى، فقمت بدراسات تكميلية، والتحقت من ثمَّ بقسم رياض الأطفال وتخرجت عام 1412هـ وبقيت في العمل إلى أن أُحلت على التقاعد عام 1430هـ.
- هل وجدت نفسك في رياض الأطفال؟
وجدت الطفل الضائع، فحين عملت مهرجاناً للطفل ومسرحاً مدرسياً من خلال قصة حملت عنوان «اللقاء الأخير ـ السرد القصصي»، خرج الطفل من داخلي في رياض الأطفال، لكن المسرح ظل قابعاً في زوايا روحي فمارست لعبته مع أطفالي في المنزل، وهذا ما حفّزني على الاستمرار، فكتبت رحلة في الكتاب العجيب، وهو عبارة عن أوبريت جميل، وبقي حبيس الأدراج، لكن مع قدوم المسرحي الدكتور عمر الجاسر أخرجته الى العلن.
- كيف تجمعين الأطفال للمسرح؟
بما أن لجنتي تحمل عنوان «لجنة مسرح الطفل في جمعية الثقافة والفنون»، طُرح إعلان حول أداء المواهب، وكان كل طفل يأتي الينا، يؤدي دوراً فأكتشف موهبته، وقد بدأت بخمسة أطفال، واليوم يضم المسرح 40 طفلاً تتراوح أعمارهم بين 3 سنوات و 12 سنة، وكانت تأتيني طفلة عمرها سنتان مع إخوتها، وبعد ذلك لعبت دور أرنب ومعها جزرة فقدمت أداء رائعاً.
- ما هو دورك على المسرح؟
قبل توزيع الأدوار، أحكي القصة بأكملها وأغيّر في نبرات صوتي فيشعرون بها، وبعد ذلك يأخذ كل طفل الدور الذي يناسبه.
- من أخرج الأوبريت؟
كتبتُ الأوبريت وأخرجته بنفسي، كذلك خيّطت الملابس، وكنت أحياناً أستعين بمدربة استعراض، هي سامية البشري، فتساعدني، وأحقق نجاحاً على قدر إمكانيات جمعية الثقافة والفنون وتطلعاتي الشخصية، كما كانت الجمعية توفر لي الإضاءة التي تناسبني.
- من أين تستمدين نصوصها؟
بعضها يدخل الخيال ليرسم أجمل المشاهد، والبعض الآخر مستمد من أرض الواقع لتوجيه رسالة قيّمة للأطفال تشجّعهم على زيارة المكتبات كي يدمنوا القراءة التي تفتح آفاقهم على كل ما هو جميل.
- هل تحب بناتك القراءة؟
بناتي الخمس يعشقن القراءة لكونهن قد تربّين في بيت ثقافي، وعندي مؤلفة صغيرة، توفيت جدّتها لأبيها في رمضان الماضي وجاءتني تنادي: «يا جدّتي أريد أن أكتب قصة»، قلت لها: «اكتبي»، فأجابت: «لا أعرف بعدُ الكتابة، لكنني سأقول وأنت تكتبين إن أبي حزين لأنه فقد أمه. لا تبكِ يا أبي الحزين فأمي ستشتري لك ملابس العيد». وحين تزورني حفيداتي الصغيرات في البيت، يجمعن العرائس ويعملن مسرحاً ويخرجن من وراء الكنبة ويؤكدن: لقد بدأ العرض، مما دفعني لتأسيس مسرح لهن.
- هل تدرّبين فتيات سعوديات؟
كوني أنتمي الى معهد ومركز التدريب الوطني والإشراف التربوي لمعلمات رياض الأطفال، فقد دربت أكثر من 8000 معلمة على المهارات وصناعة الدمى التي تُحرك باليدين، وأُطمح مستقبلاً الى تحريك العرائس بالخيطان.
- من أي عمر يستطيع الطفل أن يقدم أداء مسرحياً جيداً؟
الحس الفني يبدأ منذ الطفولة ليعبّر عن نفسه، فعندما يعتلي الطفل خشبة المسرح، تكون حواسه مشتعلة بالعطاء ليقدم ما عنده من جمال فني، وحسٍ مرهف.
- ما هو الأوبريت الجديد؟
أوبريت «لانا والبحر»، ويحكي عن طفلة تعشق البحار لدرجة أنها حين تجلس على الشاطئ تتخيل نفسها كأنها تغوص في عمق البحر، وبينما تغوص الشخصيتان يدور حوار جميل بينهما، واحدة تريد أن تكون عشبة مرجان، والثانية سمكة... ما زلت في مرحلة توزيع الأدوار، والتدريب سيستغرق وقتاً طويلاً، إلى أن يبصر المشروع النور في عيد الفطر المقبل.
- ما هو دافعك لكتابة المسرحية؟
لطالما راودني الأمل في بناء مسرح للأطفال يقدمون على خشبته واقعهم وخيالهم وثقافتهم وانتقاداتهم، مسرح يمتلئ بكل مقوماته وأدواته، لأكتشف مواهب الطفولة الرائعة وأُصقلها، فأعزز قدرات الأطفال، وأعمل على تنمية مواهبهم.
- إلامَ تطمحين؟
أطمح لأن يتمكن فريق المسرح من تأدية الأدوار مباشرة على الهواء. ما زلنا في طور التسجيل، لكن أوبريت «لانا والبحر» سيُقدّم بمجرد الانتهاء من التدريب.
- هل تلقيتم مساعدات؟
حين أسّسنا فريق «أطفال خواطر الظلام»، تعاون معنا الأساتذة: جمعان الزهراني وعيدان الزهراني وخالد كيال، ورئيس اللجنة والمشرف فيصل زيات حيث قدم لنا ثلاثة رجال فكرة «وطن السلام» وكيف سينتصر الخير على الشر فيولد وطن السلام. لكنني أحلم بدعم من رجال وسيدات الأعمال، ومساعدة من وزارة الإعلام.
- ما هي التحديات التي تواجهك؟
التحديات كثيرة بحيث أتولى بنفسي مهمات التدريب والإخراج وأعمال الديكور والإضاءة.-
من علّمك هذا كله؟
أمي رحمها الله علّمتني كيف أكتب السيناريوات برغم أميّتها التي كنت أجهلها، واكتشفتها حين دخلت معهد إعداد المعلمات بعد المرحلة الابتدائية حين جاءت تُراجع لي دروسي... لم يكن هناك صور كما في المرحلة الابتدائية حيث كانت تقرأ من خلال الصور وليس من طريق الحروف العربية. حينها جثوت على ركبتيّ وقبّلتها عرفاناً بجميلها، فاستغربت الأمر، وردّدت: «اشتقت اليك يا أمي، واشتقت الى حكاياتك التي كانت ترافق طفولتي في المرحلة الابتدائية».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024