الفنان التشكيلي حسن جوني اللوحة منفاي الأجمل والأقسى
ألوان اللوحة، ضربات الريشة، أشكال التعبير اللوني، مسافة الاتصال والتواصل بين العين والأذن... كلها مسافة مفتوحة، تخطف البصر كما لو أنها تخطف الأنفاس. الألوان والأشكال والتعابير والأفكار التي تبثّها لوحات الفنان التشكيلي القدير حسن جوني في محيطها وما وراء ظلالها، لا تتوقف ولا تستقر كما هي في مساحة حضورها، بل تمشي وتنزلق ثم تحلّق كأسراب الحياة. أعماله الكثيرة لامست الانسان والمكان وحاورتهما... رسمت العاطفة والحب والوطن والذاكرة ومدن الحياة، وتوغّلت عميقاً في مفاصل الزمن... أشكال وألوان وهندسة مدهشة، اجتمعت في لوحات تجريدية تعبيرية ورمزية هادفة، فكان ما كان وتدفق الخيال حتى تجسّد. وكان لا بد من زيارة الفنان في محترفه، على كورنيش المنارة البحري في بيروت، زيارته للاستيلاء على لحظة إبداع يمارسها في أولى ساعات النهار... دهمته وفي يده الريشة والألوان تنساب منها ومن حواسه، فتناسل الكلام بيننا وكان هذا الحوار الصريح.
- تعترف بعذابك الجميل، ولا تنكر صراخك في ليل اللون والصورة... لكن ماذا رسمت في الأمس وترسم اليوم وغداً؟
بعد هذا الكمّ التراكمي التجريبي التشكيلي، بعد التجربة الطويلة، بعد كل هذا الضجيج في مساحة حياتي وأيامي، أصبحت أكثر حرية في اختيار الألوان الملائمة لعناصر لوحتي، وأكثر التزاماً بالتعبير عن زمان ومكان يغربان كما يغرب حضوري الجسدي... رسمت وأرسم لوحة الحب، والأماكن الحميمة التي نعشقها في مطالع العمر، كما أرفع بين الحين والآخر للألوان تحية، وللناس تحية، فأنا شديد التعلّق بقلقي الوجودي وبالعالم، وليست لوحتي وحدها ما يحدد بوصلة المسافة. ما أجده في لوحتي، هو المثال والقلق، والشوق لمتابعة ما بدأته في لحظة حيرة وجمال. تجد في مختلف موضوعات رسومي منارة كاشفة الى أبعد الحدود.
- كيف تستخدم اللوحة في حياتك، وكيف صارت مرآة أيامك، وهل هي أبعد خارج هذا الوصف؟
اللوحة هي أنا في شكل أو في آخر، وهي سر من أسراري. أعتقد أن كل لوحة ينجزها الفنان تعكس صورته الشخصية، مهما اختلف الموضوع والتأليف واللون. في هذا المقياس تمسي لوحتي «الأنا» في مرآة أيامي «حالة» تم صوغها ونسجها وتشكيلها من أحلامي وهواجسي وعذابي والقليل من المسرّات التي حصلت عليها. هكذا أردت ومنذ تجربتي التشكيلية الأولى أن تكون لوحتي شهادة وشاهداً على ذئبية هذا العالم التي التهمت أفراحنا وستلتهم ما تبقى منها. لوحتي مرآة تعكس الأفق والمدى، في المكان والزمان، في الروح والجسد، وفي العقل القلِق.
- ألوانك التشكيلية التعبيرية الصارمة هل لا تزال هي نفسها، وهل يمكن أن تتغيّر بتغيّر الموضوع، الحالة، أو الصورة الطارئة؟
بالتأكيد تتغير. منها ما يتغيّر ويُستبدل بلون أكثر تماشياً مع حالات نفسي، ومنها ما يتشابه مع ألواني السابقة، لكن وإن قلنا هذا، فإن الألوان في مجملها تتغيّر وما أردت التعبير عنه، فاللون الأحمر في لوحة هو اللون الأحمر نفسه في لوحة ثانية، لكن معنى اللون في الاولى يختلف عنه في الثانية، بحيث لا يمكننا قراءة الألوان إلا عبر المشهدية العامة للوحة. إذاً، اللون حالة متغيرة وليس خامة مستقلة. اللون كثافة الشكل بأبعاد كثيرة ومفتوحة. إنه أساس في تكوين جدلية اللوحة.
- بالنسبة الى «جدلية بناء اللوحة»، كيف تهتدي الى هذا السلام المستقيم في الشكل والمضمون؟
أهتدي الى لون الحالة التي أرسمها كمن يلعب «الحدس»، و«القصد» جدلية بناء اللوحة رسماً وتلويناً، ومع اكتناز التجربة، تتكوّن في لا وعي الفنان منظومة تلوينية شعورية، حيث الشكل في فضاء اللوحة يبحث عن مقاربة كونية تعبّر عن حقيقة الانفعال الأهم في تكوين سيناريو اللوحة. والناتج اللوني يخضع في النهاية لعملية حذف وإضافة، أي بلورة الحس اللوني حتى تصبح اللوحة في ذروة تناغمها الخطيّ واللونيّ. وبالتالي هناك الفعل المحرّض، أو الأفعال المحرّضة التي تبني مسار سلوك الحالة وانبعاثاتها.
- كيف ارتسمت ضربة الريشة في أفق اللوحة الأزرق، وهل اللوحة هي فعل محرّض في الذات كما القصيدة، وهل إن محرك الإبداع واحد؟
التحريض في الرسم أمر محير لكنه مطمئن للنفس والروح، ومريح للعين والبصر. لكن اللوحة أكثر تحريضاً من القصيدة والسمفونية والمسرحية لسبب جوهري بصري. اللوحة تواجهك بفضائها الكليّ من دون نقصان زمنيّ، أي أن مسطح اللوحة يقدم فضاءه كاملاً، بينما القصيدة والسيمفونية والمسرحية تتمدد داخل أغلفتها الزمنية، نازعةً قناعاً بعد قناع، الى أن يتم الترابط بين جزء وآخر، فتصل اللوحة الى المتلقي بصورة أكثر مباشرة ووضوحاً. تختزن حركية اللون إيقاعات وتلاوين أخرى، تصبّ كلها في مساحة الشكل المفتوح. وهذا في حد ذاته هو حركة حريّة وطيران وتحليق لا يمكن التكهن بخطوطها النهائية، وتالياً، يبدو كأنه الوصول الى المعنى الأجمل، «المنفى الأجمل».
- بعدما حققت ما ترغب فيه داخل لوحتك، بمَ شعرت؟ وماذا تقول بعد أن تستريح من عناء الابتكار؟
لا شك في أن هناك حالة من معاناة جمالية، تفضي الى معاناة تليها على سبيل التحريض الافتراضي. أما كيف وبمَ أشعر؟ فأشعر بما يشبه الفرح الساكن في عينيّ كما في أصابعي وفرشاتي وألواني والقماش والزيوت. أشعر بأن المحترف يضجّ بجنون غامض، أو بشيء من الاهتزاز الوجداني. كل ذلك يفضي الى قلق وترقّب وثقة بالنفس وبالمسؤولية الاختبارية وبالتواصل مع اللوحة الضائعة في غياهب الوجدان.
- وأين تكون في هذه الحالة؟
أصبحت اليوم أكثر مودةً مع لوحتي، وأكثر حناناً وصداقةً، ربما يكون مبعث ذلك هو مفهومي لإقامتي في لبنان، وبيروت تحديداً، حيث التوتر الكياني يبلغ ذروته حين أعي الأشياء التي تدور حولي. واللوحة منفاي الأجمل والأقسى. هي حضوري على حقيقته، مرآة صافية لا تشوبها شائبة.
- أنت فنان قلق، تكتب القلق الملون وترسمه، لكن كيف أثّرت الحياة العامة فيك وفي لوحتك؟
أثّرت كثيراً، وهذا أمر طبيعي. التأثير والتأثر يشكلان حالة طبيعية وضرورية وحتمية. نعيش في لبنان حالة هستيريا منظّمة ومهذبة باسم الديموقراطية والحريّة، لكن ما من زمن جعلني أشعر بالهزيمة الأخلاقية والاجتماعية والإبداعية كما أشعر اليوم. ربما يحمل الفنان في داخله جمهوريته الخاصة، وطنه الخاص به الذي بناه من مجموعة مفاهيم ونِسب ومقاييس ونظم، تروح كلها في المنحى المغاير لما نراه اليوم.
- تبدو كأنك حزين!
بالطبع، أنا حزين جداً على كرامة إنسانية مهددة، وتاريخ عربي يتبدد مجده يوماً بعد يوم. الدم في أروقة الوطن العربي يقلقني ويثير فيّ الريبة من أن أكون اليوم شاهداً على دخولنا في غيبوبة النزْع الأخير. صدّقني، لا قيمة لشيء إلا بما أحمله في لوحتي من تحية الى تاريخ عربي مقتول... لوحتي هي تسلسل بياني للحالة التي أعيشها، وعذراً إذا كان القلق هو روح تجربتي التشكيلية. فهذا هو أنا بالتأكيد، قلق يولّد قلقاً ملوّناً.
- ماذا عن دور العاطفة في لوحة الفنان؟
العاطفة في لوحتي هي الدينامية المؤثرة، وهي الأمل الذي يجده المتأمل كاملاً في كل حركة لون وخط. ولي أعمال كثيرة في هذا الإطار، إذ رسمت مجموعة لوحات، حققت بها تلك العاطفة التي عرفتها من حبّ يجمع رجلاً بامرأة، وعشقاً يكاد يتحول كوناً بأسره. وحده الحب يخفّف من حدة الصراع الداخلي في النفس، ويحدّ من إهانتها في زمن الفوضى والاكتئاب والضياع. الحب هو قوة الخير الذي يحقق المعجزات.
- تذكر الحب بنبرة صافية وبثقة كبيرة. ما هو الحب في لوحتك وحياتك، وما دور المرأة في هذا الحب؟
الحب هو الخير الوفير للحياة والإنسان، والمرأة في أعمالي تحضر صورة ناطقة بالحب الكبير، فكيف لا أرسمها بشغف؟ وكيف لا أتفنن في استحضارها داخل الإطارين الكبير والصغير؟
للمرأة مقام مفترض في لوحتي، هو نفسه يعرف زمان ومكان إقامته في فضاء اللوحة. ربما حين أقرأ الشعر وأستمع الى الموسيقى تتحرك في داخلي رؤى متشابكة من حنين يتأجج لهيبه كلما توغلت في ما أسمع وأرى الى أن يصبح رسم المرأة جزءاً من «كلّ» تقوم اللوحة على وجودها كعنصر بارز كما هو في باطن الحلم كذلك في نصوص اللوحة. المرأة هي مجموعة حالات في حالة. وهذا سبب رئيس في أن النساء أكثر غنىً في وجودهن الأنثوي. ربما يكون الباعث الأساسيّ للفن هو الإمساك بهذا المظهر الذي نتمنى أن تراه المرأة وتُعجب به. وهذا هو الاكتفاء للرجل.
- هل عرف الحزن طريقه إليك؟ وهل دخل الى لوحاتك وألوانك وحرّك ريشتك؟
إذا كان الحنين مظهراً من مظاهر الحزن، فأنا لم أرسم إلا أحزاني. أنا الانسان ذو الإقامة الموقتة، وكل ما رسمته أحسست به، وكل ما أحسست به رسمته... وعبر هذه المعادلة، قلّما فرحت، ولطالما حزنت ولا أزال. الصورة هي نفسها، كانت وما زالت مستمرة الى اليوم.
- والفرح... كيف يمكنك رسمه؟
الفرح هو أن أبقى كما أنا، أن أبقى بعيداً من مرض يعوقني عن الرسم، عن نشاطي الذي أحياني كثيراً.
- ماذا تعني لك الطبيعة، وكيف ترسمها؟
أرى الطبيعة متحفاً فوضويّاً، يحتاج الى فنان ينسّقه، ويعيد صوغ رؤاه ومفاهيمه بمنظور الوجدان حيث يصح الوجدان، وبالعقل حيث يصح التعقل. الطبيعة لوحة أثيرية لا أعلم متى تتبدد.
- هل من طقوس معينة تنطلق منها لترسم؟
الطقس الوحيد والممضّ، هو أن أقوم بعملية اجتزاء لإحساسي ووجداني مما يحيط بي من وسائل مدمرة للجملة الحاسّة بي. كأن أُطهّر حواسي من أدران ما رأيت وسمعت وشممت. في المقابل، ألجأ في محترفي قبيل الرسم الى سماع الموسيقى وقراءة بعض الشعر والاتصال بمن يروقني التواصل معهم. عندها، أدخل في مملكة الأحلام ودائرة الإلحاح، في عملية الرسم والتلوين. إنها طقس من طقوس الاستمرار في مساحة العيش الملوّن.
- اللون مطمئن... ما هي الألوان التي تمنحك الأمان والطمأنينة؟
الألوان درجات: الأحمر والأصفر والبرتقالي والأبيض... أشعر بنبض الوجود في الألوان المسمّاة بـ«الحارّة». وعلى إيقاعها الانفعالي أتوجّه الى الحياة بنبرة عالية من الإحساس بكياني كفنان عاش الحياة كما يحلو له. هذه الدرجات هي مسافة عبور وصعود الى أعلى القمة.
- أين أنت اليوم؟
في مكاني وفي زماني. ودعني أقول إنني في صيرورة العمر أقف متأملاً ما رأيت وعانيت، وأعتذر من زمني إذا كنت قد تواطأت مع نزقي وابتعدت عن الرسم وإن لساعة واحدة، فالفن بالنسبة إليّ هو ممارسة وتعب ومعاناة، هو البحث عن الغبطة الشاملة لإنسانيتي، هو مرآة الصباح والمساء، ولو قُدّر لي عمر آخر لرجعت الى المحترف ودخلت عوالمه من جديد كما أحببت من قبل وما زلت. فاللوحة اللون، والريشة هي أوركسترا أعزف معها، أقودها وتقودني الى ما لا نهاية.-
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024