تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

الحياة الزوجية: كرّ وفرّ بين الصمت والكلام والسرّ والاعتراف

جو قديح

جو قديح

برناديت حديب وطلال الجردي

برناديت حديب وطلال الجردي

البحث عن حلّ لعقد الحياة الزوجية هو أشبه بمحاولة اصطياد سمكة فريدة من نوعها من مياه عكرة. فلهذه الحياة بداية معروفة لكنّ أحداثها ونهاياتها تبقى محفوفة بألف مزاج متقّلب وتوقّع وحقيقة وانتظار. بالفعل، لا يمكن أحداً أو ظرفاً أن يرسم للزوجين سكّة يسير عليها قطارهما. فلتلك الحياة متفرعات ومفارق تفاجئ مسيرتهما وتأخذها أحياناً إلى حيث لم يخططا. وهكذا تبدو العلاقة الزوجية أقرب إلى لعبة شدّ الحبال، إلى موجة تقلّبها الرياح على صفحة البحر قبل أن تتكسّر على الرمال وتعيد الكرّة ثانية وثالثة.


سناء دياب شرارة
ربمّا هذا ما أراد أن يقوله جو قديح، مخرج مسرحية «بتقتل» التي عرضت على خشبة مسرح «الجميزة» في بيروت، والتي انتزعت أحداثها من حياة زوجين شهدت الكثير من التقلبات والتغييرات. فأمام المشاهد، بلغت تلك الأحداث ذروتها، أراد كلّ شريك أن يكتشف الآخر. والنهاية تقبله كما هو (كما هي) لأنّ ذلك الـ«هو» (أو الـ«هي») يشكل الهوية التي تتكيّف مع متطلبات العلاقة مع محافظتها على خطوطها العريضة. 

الماضي الجميل
أراد قديح خوض هذه التجربة ليقدم موضوعاً ذا طابع اجتماعي يحظى باهتمام كل ثنائي سيشاهد العمل. لمَ لا؟ فقد كان النصّ في متناول يده وورد في كتاب قدّمته له إحدى الصديقات. وعما هدف إلى التعبير عنه من خلالها قال لـ «لها»: «في بعض الأوقات يتناسى الزوجان بعض الأمور ليحافظا على أفضل شكل لعلاقتهما. فالرجل والمرأة يعتمدان غالباً على الذاكرة القصيرة المدى. وقد لا يعلمان أحياناً ما الذي يدفعهما إلى الخلاف! هي لعبة القط والفأر، الكرّ والفر الأزلية التي تساعدهما على تجنب الصراع وتضمن استمرارية حياتهما المشتركة. وهذا ما يحتاجان إليه ليُبعدا عن حياتهما الروتين والملل».
لذا، اختار لأداء هذه المهمة الدقيقة بطلين يدركان تماماً ما يعنيه أداء شخصية غير سهلة، برناديت حديب وطلال الجردي. وعن مشاركتها قالت حديب: «منذ بدأت العمل في مجال التمثيل، أردت أن أقدم أعمالاً ترتبط بالمشكلات التي تواجهها المرأة في مجتمعنا. لذا، وافقت على المشاركة في هذه المسرحية لأجسد دور الزوجة، ليلى، حين عُرض عليّ النص. والمسرحية تعرض مشكلة اجتماعية، هي أزمة منتصف العمر التي يعيشها كل ثنائي بعد سنوات من الزواج، والتي يشعر خلالها الأزواج بثقل الروتين والملل إلى أن يحدث انفجار ما».
ماضي الزواج في رأيها هو الزمن الجميل الذي يتعين على الزوجين العودة إليه بين الحين والآخر من أجل تعزيز العلاقة التي يتآكلها الروتين. وفي المسرحية عاد الزوجان، ليلى وفريد، فعلاً إلى يوم لقائهما الأول لينعكس شغف ذلك الوقت على حاضرهما.

نقطة الصفر
في بداية العرض ظهر الزوج فريد فاقداً للذاكرة. أراد أن يكتشف حقيقة ما تشعر به زوجته تجاهه. وقد أراد من خلال ذلك الاستفادة من السلبيات لتحويلها إلى إيجابيات. فالزوج يعرف تماماً ما يحدث وإن كنا نرى في ما قام به نوعاً من المازوشية. فهو لجأ إلى هذه الخطة ليحقق غاية محددة هي إعطاء بعض الدفع لحياتهما الثنائية، في إطار حبكة درامية لا تتوقف.
إذاً هي العودة إلى نقطة الصفر التي رأت من خلالها برناديت دليلاً على غياب الصراحة بين الزوجين في كل المجتمعات. وقالت: «ثمة أسرار يخفيها الزوج عن الزوجة، والعكس صحيح. ولا بدّ من الإشارة إلى أن كاتب النص المسرحي هو فرنسي وليس عربياً. وهذا يعني أن ما كتبه يمثل المجتمع العالمي. في الواقع، لم يرد الزوج خسارة زوجته. ولو لم يدّعِ فقدان الذاكرة لما تمكّنا من استرجاع أحدهما الآخر. أراد أن يعرف فعلاً إذا كانت لا تزال تحبه حتى أنه طرح عليها هذا السؤال بصراحة تامة».

صمت
تتخلل حياة الأزواج إذاً لحظات صمت كثيرة، هي لحظات الانكفاء إلى الذات والتفكير بالآخر. وهذا يظهر من خلال المسرحية التي كان الصمت سابقاً لها. فقبل مساحة الكلام الصريح هذه، كانت الزوجة تلتزم الصمت.
هذا ما يؤكده جو قديح ويقول: «أشير أولاً إلى أنني أقف في أعمالي إلى جانب المرأة. وفي هذه المسرحية نراها تلعب على عامل الصمت. فلدى الرجل ذاكرة قصيرة والمرأة تنتظر وتصبر في علاقتها به تماماً كما تنتظر قدوم وليدها. وحياتهما أشبه بلعبة شطرنج يكشف فيها الرجل كل أوراقه فيما تشاهد المرأة انفعالاته لتصلح الأمور بصمت. فهي تجيد لعبة الوقت أكثر منه». 

وتعيد برناديت ذلك الصمت إلى ضعف البطلة: «لا تعاني كل النساء من الضعف. لكنّ ليلى ضعيفة. لذا، ارتأت أن تتحمل ظروف حياتها وأن تخلد إلى الصمت. وحين حاولت قتله إنما أرادت بذلك أن تقتل أوهامها، وأن تواجه طواحين الهواء رغم علمها بخيانته. فقد قامت بخطوة تنم عن قوة جسدية لا نفسية. وفي مجتمعنا الكثير من النساء المهمّشات اللواتي يخشين نظرة الآخرين وأحكامهم». 

شخصيتان وأبعاد
إذاً الشخصيتان كما يبدو مركبتان، تماماً كما هي حال الحياة الزوجية. هما ليستا سطحيتين رغم أن حبكة القصة سهلة في رأي المخرج. فبين الكلمات والسطور تختبئ أمراض وانفعالات وهدوء وشغف كل شخصية. وكل من الرجل والمرأة تحمّل الآخر ونفسه في إطار العلاقة. وهذا ما يدفعنا إلى السؤال عن امتدادات حياتهما: «هل من أولاد؟ هل من عائلة؟ هل هما زوج وزوجة فقط؟ ونرى أنهما ملآ بحضورهما كل مساحة المشهد. وهما يكشفان أسرار كلّ رجل وامرأة».
وعلى هذا تؤكد برناديت وتضيف: «نعم الشخصيتان مركبتان ومثّلتا الكثير من الأشخاص. وقد شكلت أحداث المسرحية إسقاطاً على حياة الكثيرين ممن شاهدوها ومرّوا بأزمة منتصف العمر. وقد ساعدتهم على التصالح مع ذاتهم ومع الآخر. فقد سلطت الضوء على ما لا يقولونه أو يعبرون عنه. وهذا ينطلق من أسس التربية التي تقضي بألا نتكلم وأن نخبّئ مشاعرنا وندفنها كي لا نجرح مشاعر الآخرين، أيّ أن «نعضّ على الجرح».
لكن أليس من الصعب إنجاز عمل مسرحي بشخصيتين فقط؟ ألا يمكن أن يشعر المتفرّج بالفراغ في مكان ما؟ «بالطبع هو أمر صعب» يقول جو قديح ويضيف: «لكن فريق العمل الصغير جسّد موضوعاً دسماً. لكن الممثلين برناديت حديب وطلال الجردي يتمتعان بطاقات ومواهب كبيرة. وقد حاولت أن أبعدهما عن كل الصور التي قدّماها للمشاهد المسرحي قبل هذا العمل. قدمت لهما شخصيتين جديدتين لم يختبراهما من قبل...».

أمل
«المسرحية بقعة أمل، وهي تعني أن النهاية ليست حزينة دائماً، وأن الكثير من الأمور قابلة للإصلاح. فرغم كل ما يحدث، ثمّة أمل يلوح في الأفق، أمل في التغيير نحو الأفضل. فلولا هذا الأمل لما استمرت الحياة الزوجية. لذا، من الضروري أن نغيّر طريقة تربية أولادنا، وأن نعلّمهم اعتماد الصراحة طريقةً للتعامل مع الآخرين لكي يتمكنوا من بناء علاقات اجتماعية صحية. فالتراكم يولّد الانفجار الذي قد يحدث في الوقت غير المناسب له. أدعو الناس إلى أن يقولوا ما يفكرون به مباشرة كي تصبح حياتهم أفضل. وأذكّر بأن المحبة هي أساس كلّ علاقة اجتماعية سليمة».
برناديت حديب

«أردنا أن نقول إن لا شيء يستحق الخلاف والانفصال، وأن الرجل هو كل شيء ولا شيء بالنسبة إلى المرأة، والعكس صحيح. فالحياة تعني أن نتمكن من أخذ القرارات».
جو قديح 

 

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079