متى تكون القناعة «كنزًا لا يفنى»
غالبًا يسمع الأبناء مقولة «القناعة خير من الغنى» أو «القناعة كنز لا يفنى»، حين يتذمّرون لأن لدى رفاقهم كل ما يرغبون، أو يعبّرون لو أن لديهم ما لدى الآخرين على الرغم من الأمور الكثيرة التي يوفّرها لهم الآباء.
كيف يجب تربية الأبناء على القناعة؟ وهل تحدّ القناعة من الطموح والإبداع؟ الاختصاصية في التقويم التربوي الدكتورة لمى بنداق تجيب عن هذين السؤالين وغيرهما؟
ما هي القناعة؟
من حيث اللغة، نجد أن القناعة مصدرها قَنِع، بالكسر، يقنَع قُنوعًا وقناعةً إذًا رضي. والقناعة تعني أيضًا الرضا بما دون الكفاية، وترك التشوُّف إلى المفقود، والاستغناء بالموجود. ولكن من الناحية الاجتماعية والنفسية قد تكون القناعة، قناعًا، يختبئ خلفه الكسل والخوف والضعف عند الشخص، مثلاً بدل القول «أنا خائف»، يقول «أنا قنوع وراضٍ»، وشعاره «القناعة كنزٌ لا يفنى».
فبهذه المقولة يهرب من خوفه في مواجهة مصاعب الحياة باللجوء إلى المنطقة التي تشعره بالأمان، وحين يخشى أخطاءه أو الإساءة من الآخرين، يصبح منعزلاً، وحين يشتد التنافس يتنحّى، ولكي لا تهتز صورته أمام الناس يخفي رغباته الحقيقية تحت هذه المقولة التي يفسّرها بطريقة خاطئة.
وعندما يأخذ مفهوم القناعة هذا المنحى يكون سلبيًا. في حين أن القناعة من باب الرضى لا يجوز أن تحدّ من السعي نحو الأفضل ومواجهة الصعاب.
كيف يمكن الأهل تعزيز مفهوم القناعة عند اطفالهم وتشجيعهم على العمل والسعي في الوقت نفسه؟
يمكننا القول إن ما يتبناه الوالدان من مفهوم للقناعة ينقلانه إلى أبنائهما. فالمعادلة بسيطة وهي إرساء القناعة بمعنى الرضى ولكن بشرط العمل والسعي والطموح والابتكار وما شابه. لذا:
أولاً، من المعلوم أن الوالدين هما قدوة الأبناء، الذين ولكي ينشأوا قنوعين، عليهم أن يشعروا بها عند من حولهم كذلك. فعندما يسمع الابن والده يحسد زميله لاقتنائه سيارة جديدة، من الطبيعي أن يولد مفهوم الحسد لدى الابن.
ولكي تطلب الأم من أبنائها ألا يقارنوا أنفسهم بأقرانهم، عليها هي أولاً أن تتوقف عن مقارنتهم بغيرهم. كذلك لا يمكن أن ينشأ طفل قنوع فيما يسمع ويرى والديه يشكوان قلة حيلتهما ويحسدان الآخرين على ما لديهم.
بل عليهما أن يكونا صريحين مع أبنائهما، ولا سيّما عندما يتعلّق الأمر بوضعهما المادي، وإعطاؤهم الصورة بأنهما راضيان، وبالطبع يسعيان وراء الأفضل، وهذا ينطبق على الوضع المادي والعلمي والاجتماعي وما شابه.
وثانيًا، يمكن الأهل تعزيز القناعة الإيجابية من خلال تشجيع الأبناء على الانخراط في النشاطات الاجتماعية، وذلك من خلال زيارات دور الأيتام والمسنين والمعوقين وما شابه، فهذا يساهم في تعزيز الاكتفاء الذاتي عند الأبناء وتقدير ما يملكونه من نِعم، على المستوى المادي والصحي والاجتماعي.
كما يمكن حثهم على اختيار الألعاب والثياب التي لا يستعملونها وتقديمها الى المحتاجين، والقيام بهذه المبادرة بأنفسهم ليروا السعادة التي يمنحونها للآخرين والتي ستنعكس عليهم إيجابًا.
وثالثاً، يمكن تعزيز القناعة من خلال إشراكهم بالأعمال المنزلية، وذلك لتعريفهم بقيمة العمل، فعندما يتحمّل الولد مسؤوليات في المنزل تصبح لديه قيمة للعمل والإنجاز على كل الصعد ويستطيع أن يتدرب خلال ذلك على الصبر والمثابرة للوصول إلى الهدف مهما كان هناك من عوائق وهو قانع بوضعه.
وإذا بدأ الولد الشكوى من العمل، لا يجدر بالأم الشعور بالذنب لأنها تحرمه من فعل شيء يحبه، فمن الضروري أن يدرك أن الشكوى والتذمر لن يعفياه من المسؤولية.
ورابعًا، من خلال رؤية الأهل وسماعهم يشكرون الخالق على كل النِعم التي أغدقها عليهم، وشكر الآخرين عندما يطلبون ويستجيب طلبهم.
هنا الولد سيشكر والده ووالدته عند حصوله على أبسط الأمور. وبالطبع عدم تلبية الأهل لكل مطالب الابن ضروري، فهذا يضع له حدودًا، فالطفل أو المراهق الذي لا حدود له نعتبره تائهًا في الصحراء ويكبر ليصبح يعاني الأمراض النفسية.
فهو عندما تُنفّذ كل طلباته من دون مقاومة من الأهل، سوف ينشأ على مبدأ أن كل شيء يمكن الحصول عليه بغض النظر عن الوسيلة، ويظهر هذا في المراهقة، حين يصطدم المراهق بالواقع، فيكون عرضة لإغراءات مادية قد تدفعه إلى القيام بأمور غير مشروعة، مثل السرقة.
ما هي طرق التعامل مع المراهق الذي لم يكتسب مفهوم القناعة؟
لمقاربة الموضوع يجب أولاً أن نحدّد ما يراه المراهق. فهو قد يعتقد أن الطموح والقناعة شيئان متناقضان تمامًا ومن المستحيل الجمع بينهما. ولكن فى الواقع أن الطموح والقناعة صفتان يكمّل كل منهما الآخر.
وعلى المراهق أن يكتسب الطموح والقناعة معًا وأن يدرك مفهوميهما الحقيقيين حتى لا يتحول الطموح الى جشع، وفي الوقت نفسه لا تعيق القناعة مسيرة الطموح لديه.
فمفهوم الطموح هو الوصول الى النجاح وتحقيق الذات من دون ان يأتى ذلك على حساب مصالح الآخرين وحقوقهم، وهذا هو التكامل بين القناعة والطموح الذى يجب أن يدركه.
وفي المقابل، يحتاج المراهق إلى تسخير مهاراته وقدراته للوصول الى النجاح فى الحياة. وقد يسيء المراهق فهم مقولة ان «الطموح ليس له حدود»، عندها يجب مقاربته من زاوية أنه ما دام لا يمس طموحات الآخرين وحقوقهم، فهو خير وبعيد عن الأنانية. ويجب أن تكون لديه أحلام محددة وأهداف واضحة يستعين بالطموح لتحقيقها.
وهنا يبرز دور الأهل في توضيح هذا المفهوم من خلال مساعدة المراهق على وضع أهداف معقوله وتشجيعه لتحقيقها. فهو يمكنه أن يستوعب قيم العائلة ومفاهيمها وإمكاناتها المادية، مثلاً عندما يحلم المراهق بأن يكون شابًا ناجحًا في المستقبل، عليهم أن يناقشوه حول كيفية الوصول إلى هذا الحلم، وتحديد مساره، فلكي يحقق حلمه عليه الإنجاز في مدرسته أوّلاً وعدم النظر إلى ما لدى غيره، بل عليه أن ينظر في ما لديه من مهارات والعمل على بلورتها وتطويرها ليحصد النجاح الذي يسعى إليه.
وهنا أحذّر الأهل من أن تنفيذ طلبات الابن المتكررة يؤدي الى زعزعة علاقته مع هويته الأسرية.
لذا من الضروري أن يكون الأهل متساهلين ومرنين في تعاملهم مع أبنائهم، ولكن إلى حد معين، وأن يفسروا لهم أسباب رفضهم بوضوح كالقول مثلاً: «ليس في مقدورنا تلبية كل رغباتك»، أي وضع حدود مادية ومعنوية.
فالمراهق يرتاح عندما يضع الأهل حدودًا له، لأنه إذا أُعطي كل ما يريد فلن يرتاح بل سيطلب المزيد!
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024