تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

عبيدو باشا: حتى في أزمنة الحروب هناك ضوء في آخر النفق

 الجلوس قُبالة الكاتب والناقد المسرحي عبيدو باشا هو أشبه بالانعتاق، الخروج من قُمرة التوجّه نحو الغد من دون ابتسام. والتحدّث إليه عن الثقافة وواقعها أقرب إلى الانقطاع عن المحيط وإسلام النفس لنسمات بحرية نقيّة. فرغم ما يرويه عن بعض التحولات غير المشرقة في المشهد الثقافي، نراه يلوّح، بين الحين والآخر، ببارقة أمل. فالثقافة، بالنسبة إليه، هي الناس، كلّ الناس بكل ألوان الطيف، هي الوعد بالمضي قدماً نحو ربيع آتٍ وإن مال لون السماء إلى الرمادي. «لها» التقته وقامت وإيّاه بجولة أفق على أحوال الثقافة وشؤونها.


- ما سرّ الارتباط بين الثقافة والتغيير نحو الأفضل، أيّ الأمل؟
هذا ما ينبغي أن تكون عليه الأمور. لكنّ المثقف غادر، منذ سنوات قليلة، موقعه التغييري وأضحى محرّضاً على مبادئه ومفاهيمه التي لطالما توجّه بها إلى الجماهير، الناس... كل الناس. فهو لم يعد، لأسباب مختلفة، يشكل جزءًا عضوياً منهم، أيّ لم تعد علاقته بهم في الغالب طبيعية وحقيقية. فهو لا يتمرأى الآن صورته قبل الخروج إلى عمله.

- إذاً، ما الوظيفة التي يؤديها المثقف اليوم؟
أصبح بعض المثقفين يقومون بدور المدافع عن مواقع القوّة وانتقلوا من ضفة الاهتمام بقضايا الناس إلى تحريض بعضهم على بعض. وهكذا تحولت بعض الجماهير إلى ضحية مَن ادّعى الدفاع عنها لعقود طويلة، علماً أنها مستعدة للقتال من أجل الأكثر قوّة وليست مستعدة للمشاركة في تحرّك حياتي.

- ولمَ هذا التحوّل؟
لأننا نعيش في زمن ترييف العلاقات، أي ابتعاد الناس عن العقلية الصناعية المبتكِرة واندفاعها نحو العقلية الزراعية. أقصد بهذا أن عملية الزراعة روتينية، لا ابتكار فيها، تبدأ برش البِذار وتنتهي بالحصاد. فلا يُعمل في إطارها على مفاهيم التأسيس ثمّ البناء. بل أكثر من هذا، لقد تخطينا مرحلة الوراثة إلى مرحلة القناعة المزيفة. والمثقف يدرك زيف ما يدافع عنه اليوم، لكنه يعمل على تكريسه من دون أن يأخذ المصلحة العامة في الاعتبار. 

- أليس من بقعة ضوء في نهاية هذا النفق؟
رغم كل ما سبق وذكرته، أشير إلى أن الصورة ليست سوداء قاتمة. فثمة مثقفون ما زالوا يؤمنون بأنّ الناس هم خميرة الحياة، ويستحقون أن يتم الدفاع عن قضاياهم وحقوقهم. ويرى هؤلاء أيضاً أن الضمير الإنساني هو المنتصر النهائي في كلّ معركة على كلّ المصالح الشخصية والفردية. 

- لكن يٌقال إنّ المثقف المتخصّص يتكلّم اليوم بغير لغة الناس. ما رأيك؟
ليس بالضرورة، لأنّ ثقافتنا تكتسب أيضاً طابعاً جماهيرياً. فأنا أسخر من الدعوة إلى «التنازل» من أجل إقامة علاقة مع الناس. وأقول غالباً إن المثقف، حين يعمل، إنما يدعو الناس تلقائياً إلى العمل. فلا يمكن الثقافة والحياة أن تتطورا بناءً على جهود طرف واحد. ورغم ذلك، أرى أننا نعاني خللاً في موازين التحصيل الثقافي لدى طرفيّ الثقافة: المقدّم والمتلقي. لذا، تلاحظين أنّ المسرحي يبحث ويصنع العمل، والجمهور يشاهد ما يقدّم له مستسلماً أحياناً، أيّ أنّه لا يطرح الأسئلة الجوهرية حول ما يشاهد ولا يناقشه في معظم الأحيان.

- وماذا عن النقد؟
في الحديث عن النقد، أشير إلى أنني استخدمت مفهوم «خطوة إلى الأمام». وهذا يعني أن أقدّم لمسرحية ما وصفاً قد لا تستحقه لأشجع العاملين فيها على التقدّم. فالسعي نحو تحقيق الأفضل هو عمل المثقف. 

- كأن الكثير من الناس لا يمتلكون الوعي الكافي للأهمية الوجودية للعنصر الثقافي. لذا، ترى أن كثراً منهم لا يحتجون مثلاً على إقفال مسرح ما!
يتطلب الاهتمام بالثقافة توافر عناصر عدة: التربية وتراكم الزمن والتاريخ والممارسة. وإذا أردتُ الحديث عن المسرح، أرى أنه لا يندرج ضمن مكوّنات عقل المدينة عندنا. فخريطة بناء العاصمة بيروت لا تلحظ بناء قاعات عروض مسرحية. كذلك نلاحظ أن معظم المسارح القائمة كانت صالات سينما في الأساس. لكن، ورغم ذلك، المسرح موجود. غير أن تجربته لا تكتمل إلا بحضوره اليومي في مرافق المدينة كافة وبانتقال فعالياته من الخبر الصحافي القصير العابر إلى الترويج عبر وسائل الإعلام المختلفة، وصولاً إلى إقامة شراكات تفضي إلى بناء شبكات ثقافية تغطي مساحة البلد. 

- يرى بعضهم أن المثقف يعيش حالة من النفي الاجتماعي. ما رأيك؟
حين تقع الأزمات الاقتصادية، عادة ما تكون الصفحات الثقافية في الصحف هي الحلقة الأضعف، فيتم إقفالها من أجل توفير النفقات. لكنّ المثقف نفسه يتحمل جزءًا من المسؤولية. فهو لا يقدّم نفسه أحياناً بطريقة يفهمها الناس ويقبلونها. وفي هذه الحالة نقف أمام نموذجين: المثقف الفلاح، أيّ الشعبوي الذي يعيش في أوساط الناس، وذلك غريب الشكل والأطوار. لذا، أرى أنّ على المثقّف أن يبذل الجهود من أجل بناء شخصيته وفقاً لما يخدم المصلحة العامة بأفضل الطرق وأكثرها رقياً. 

- أليس هذا ما فعله الكثير من المثقفين عندنا؟
نعم، في لبنان تمكّن المثقف من تخطي الكثير من المعوقات. وفي غياب الأطراف الداعمة لعمله وخصوصاً في مجال المسرح، استطاع أن يعزّز المبادرة الفردية. وهو أمر اكتسب الكثير من الأهمية، لأنه حرّر المسرحيين والكتّاب والموسيقيين والنقاد... من سيطرة أيّ جهة داعمة، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية. 

- يُقال إن تطور وسائل التواصل الحديثة أعلن بداية النهاية للحياة الثقافية. كيف تردّ على ذلك؟
بالعكس، يمكن هذه الوسائل، باعتبارها أحد أشكال التعبير الأكثر تطوراً اليوم، أن تخدم العمل الثقافي. فليس علينا أن نرى الأمور بعين واحدة. فلننظر إلى الحرب مثلاً. رغم وجهها القاتم والمآسي التي تنجم عنها، فقد احتضنت أكثر التجارب الثقافية نجاحاً وتأثيراً. فللحرب أوجه عدة ترتبط بمختلف أشكال التعبير. وهي مصنع للأفكار. فما سُميّ «الحرب الباردة» مثلاً أنتج الكثير من التجارب الفكرية والثقافية المميزة. إذاً، الأحادية لا تصنع الإبداع. حتى في أزمنة الحروب، ثمة ضوء في آخر النفق. 

- ما أفضل ما قد تختم به هذه المقابلة؟
حين قدّمت فرقة «مسرح الشمس» الفرنسية مسرحية «المهرجون»، أظهر المعنيون في السلطة الفرنسية إعجابهم بالعمل. وقالوا لمؤسِّسة الفرقة أريال موشكين: «نريد المساهمة في إراحة هذه التجربة». وقصدوا بذلك تقديم الدعم المادي الذي يضمن استمرار العمل. لكنّ الأخيرة اكتشفت أن الثمن الذي يتعيّن عليها أن تدفعه مقابل ذلك هو إحراق بعض مراحل التجريب، فرفضت العرض.

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078