تحميل المجلة الاكترونية عدد 1080

بحث

طفل مستقل... شاب قيادي

خلود المعلم

خلود المعلم

ابنتي في الخامسة عشرة، ولا تعرف كيف تقلي بيضة، عندما كنت في سنّها كنت أفعل كذا وكذا. ابني لا يستطيع تدبّر أموره فما العمل... عبارات تتكرر عندما تلتقي مجموعة أمهات، يشكون اعتماد أبنائهن عليهن في معظم الأمور التي يبدو من البديهي القيام بها لمن هم في سنّهم. فلماذا لا يتحمل بعض الأبناء ولا سيما إذا كانوا في مرحلة المراهقة، مسؤولية تدبّر شؤونهم البسيطة؟ من المسؤول عن ذلك؟ وكيف يمكن الأهل تقويم هذا السلوك؟
«لها» التقت الاختصاصية في التربية خلود المعلّم التي أجابت عن هذه الأسئة وغيرها.

 ماذا تقولين للأم التي تشكو عدم تحمل ابنها أو ابنتها المراهقة المسؤولية؟
أقول لها بكل صراحة: انظري إلى الماضي حين كانت ابنتك طفلة صغيرة وأعيدي النظر في خطواتك وفي طريقة تربيتك لابنتك منذ أن كانت طفلة صغيرة. فتنمية الاستقلالية عند الأبناء تكون منذ نعومة أظفارهم. لذا لو أردنا بناء الاستقلالية عند الطفل، علينا الانتباه أولاً لأن نلزمه بقوانين صحيحة وواضحة، وتعليمه كيف تكون اختياراته صائبة من خلال تعويده على التفكير الصحيح منذ البداية.
وهذا ما يسمّونه اليوم البرمجة، أي برمجة تفكيره على تحمل المسؤولية والاعتماد على نفسه واتخاذ القرارات الصحيحة.


 ما هي الأسباب التي تؤدي إلى نشوء مراهق قليل الإحساس بالمسؤولية كثير الاعتماد على الآخرين؟
أحيانًا يكبت الأهل، وعن غير قصد الرغبة في الاستقلالية عند أبنائهم، لذا فالأسباب كثيرة منها:

  • الحماية الزائدة، مثلاً عندما لا تسمح الأم لطفلها بالقفز من علو منخفض خوفًا من أن يكسر قدمه.
  • قيام أحد الوالدين أو كلاهما نيابة عن الطفل بالمسؤوليات التي يفترض أن يقوم بها بنفسه. مثلا تحضير حقيبته المدرسية، أو انتعال حذائه بنفسه.
  • التدخّل في شؤونه فلا يتاح للطفل فرصة اتخاذ قراره بنفسه، وهنا نعني القرارات التي يمكنه اتخاذها في سن صغيرة، ويظهر هذا عند دخول الطفل المدرسة. مثلاً إرغامه على ممارسة نشاط لا يحبه، هو يحب رياضة كرة السلة فيما والدته تجبره على تعلم العزف على آلة موسيقية.
  • عدم إعطائه حرية التصرف في كثير من أموره. عندما لا يرغب في اللعب مع ابن الجيران، لأنه لا يشعر بالراحة، فيما الأم تجبره، غير آبهة برأيه.
  • شعور الطفل بأنّ أهله قلقون عليه باستمرار.

                 
في أي سن يجدر بالطفل الاعتماد على النفس وما هو دور الأم؟
علميًا نقول إن في عمر الـ 18 شهرًا تظهر رغبة الاستقلالية عند الأطفال بوضوح، ولكن في رأي الأمهات، وهنّ الأصدق، أن الطفل يحاول الاعتماد على نفسه بشكل فطري قبل ذلك بكثير، فمثلاً عندما يلتقط الطفل زجاجة الرضاعة، ويتمسك بها فإنه يقوم بالخطوة الأولى نحو الاستقلالية.
وعندما يحاول الزحف أو الحبو للوصول إلى اللعبة، هذه أيضًا مبادرة منه نحو الاستقلالية. وهنا للأم دور، فإما أن تحفزه على القيام بذلك بنفسه، وبالتالي تساعده في بلورة سلوك الاعتماد على نفسه، أو تبادر هي بإعطائه اللعبة مثلاً بحجة توفير الجهد على طفلها، وبالتالي تعوّده الاتكال عليها.

 هل هذا يعني أن اهتمام الأم الزائد يؤثر سلبًا في استقلالية الطفل؟
بالفعل أن محبّة الأمّ للطفل وتفانيها في خدمته يمكن أن يكون لهما الأثر السلبي في بناء شخصيته. فإذا غالت الأم في تقديم الخدمات، فهي بذلك تكبت تلك الرغبة الطبيعية في تكوين شخصيته المستقلّة التي سيكون لها الأثر في نجاحه في المستقبل.
فالكثير من الأمهات يطعمن أولادهن بيد، ويمسكن باليد الأخرى يد الطفل حتى لا يوسخ ثيابه أو لئلا يُسقط الطعام على السجادة، وبعض الأمهات يلبسن أولادهنّ ثيابهم وهم في عمر 7 سنوات وما فوق، وذلك لتسريع العملية وليظهر الطفل في أحسن مظهر. حتى أننا نضطر في بعض الأحيان لتوجيه بعض الملاحظات القاسية وذلك بالسؤال: أنت تقومين بكل هذه الخدمات لابنك، فهل هو معوق جسديًا؟ وذلك لتنتبه الأم الى أن ما تقوم به هو غير مقبول منطقيًا.

ما هي المشكلات التي تواجهينها مع الأطفال كاختصاصية في التربية؟
في مجال عملنا التربوي، نواجه الكثير من المشاكل الكبيرة التي لا تُحل إلا إذا أخذ الطفل فرصته في الاعتماد على النفس فمثلاً: هناك طفل أصبح عمره خمس سنوات وهو لا ينطق ولا يتكلم، وبعد عرضه على اختصاصي النطق، كان الرد أن هذا الطفل لا يحتاج الى الكلام، فأمه تلبي كل طلباته من دون أن يضطر للتفوّه بأي حرف، فهو الطفل الذي انتظرته خلال 12 سنة.
كان الحل لجعله ينطق هو توقف والدته عن تلبية طلباته تدريجًا حتى اضطر الطفل أخيرًا للنطق وذلك للحصول على ما يريد. وقد استغربت الأم عندما عرفت أن طفلها كان يخزّن العبارات والكلمات في ذاكرته، ولكنه لم يستعملها إلا حين شعوره بالحاجة إليها ليعبر عما يريد.

لماذا نريد من الطفل أن يعتمد على نفسه؟
لتهيئته لدخول عالم الكبار حيث لا وجود لأمه ولا لأبيه ولا لخادمته، وهي الآن عنصر مهم في الأسرة أيضًا. فهذا الطفل إما سيفشل أو سينجح، والفشل والنجاح يتوقفان على ما اكتسبه من مهارات وقدرات في كل المجالات في سنوات عمره الأولى.

كيف ندرّب الطفل منذ الصغر على القيام بأشياء ممكن أن تعينه في المستقبل؟
في كل مرة نفعل شيئاً لطفلنا، يجب أن نفعله ببطء، ونسمح له بمشاهدة متأنيّة حتى يتعلّم ذلك بنفسه، ونشجّعه على المبادرة بهدف خلق صورة ذهنية إيجابية تدفع العقل إلى البحث عن طرق لتحويل هذه الصورة الذهنية إلى واقع.

ما هي الأعراض التي نستدلّ بها على أن الطفل يحتاج إلى تدريب على الاستقلالية والاعتماد على النفس، وأنه في خطر فعلي؟
كثيرة هي الأعراض ونراها بوضوح في مجتمعاتنا، ولن نذكر الأمور البديهية كالفوضى في غرف أطفالنا، وعدم نظافة الحقائب الخ... إنما سنسلّط الضوء على أمور كبيرة كالفشل الدراسي بسبب الكسل، وعدم الرغبة في الدراسة، والتحصيل العلمي، عدم الجرأة على إقامة علاقات اجتماعية صحيحة، الفشل في انتقاء الأصدقاء، عدم القدرة على إبداء الرأي أو التعبير عن المشاعر مما يؤدي إلى الكبت وإلى مشاكل نفسية وسلوكية، وعدم القدرة على حلّ المشاكل الحياتية البسيط منها والمعقّد... فالطفل يبقى رهينة تدخّل والديه في حياته ودائمًا ينتظر العون منهما.
كل إنسان اعتاد على المساعدة يتوقّع الحصول عليها كلما واجه التحدّيات. فلا يقوم بأي مبادرة فردية، ومع الوقت تخف قدرته على تحمّل المواقف القاسية فتصبح حياته أكثر صعوبة.

ماذا لو ارتكب الأبناء الأخطاء وهم في حالة الاستقلالية والاعتماد على النفس؟
بكل ثقة نقول لا بأس في ارتكاب الأخطاء حتى يتعلّم منها ما هو صواب وما هو خطأ. فعندما يصرّ الطفل على عدم ارتداء ثيابه الشتوية بشكل كامل، يجب تركه يفعل ذلك، وعندما يمرض سوف يفهم وإلى الأبد أنه كان على خطأ. وهنا على الآباء الابتعاد عن العواطف والمشاعر التي تهدم ولا تبني.

ما هي النصيحة الذهبية إلى الأهل؟
من قاد نفسه قاد العالم، كل طفل تعوّد أن يقود نفسه ويحلّ مشاكله بطريقة صحيحة، ويتخذ القرارات الصائبة في حياته هو مؤهل لأن يكون قائدًا لفريق عمل، أو قائدًا لمجموعة كبيرة أو حتى للعالم.
على الأهل أن يتذكّروا «أنهم لا يمتلكون أبناءهم، بل هم أشخاص مختلفون عنهم، لهم طموحاتهم، وأفكارهم التي قد تتفق مع تطلعات الأهل حينًا، وقد تختلف أحيانًا، وأن لهم زمانًا غير زمانهم فليس عليهم اتخاذ القرار بدل الأبناء.

هل تعني الاستقلالية والاعتماد على النفس أن نترك الطفل يعيش في حرية مطلقة أم هناك ضوابط؟
لا يمكن بناء أي استقلالية من دون الشعور بالأمان والطمأنينة، لهذا فإن من الأمور المهمة مرافقة الطفل في عملية اعتماده على نفسه لكي يشعر بوجودنا بقربه عندما يحتاج الينا، مثلاً عندما يبدأ المشي نصفّق له ونشجعه.
عندما يرغب في ارتداء ملابسه وحده، على الأم البقاء إلى جانبه لتعلمه الآلية لا لتقوم بذلك بدلاً منه، وتساعده إذا طلب هو منها. وفي المقابل، لا يمكن منح الطفل الحرية المطلقة، وإلا انتشرت الفوضى، بل الحرية المسؤولة، مثلاً هو حرّ في أن يرتدي اللون الذي يرغب فيه ولكنه ليس حرًا في أن يسهر حتى ساعة متأخرة.
ما نريد قوله: هناك فارق بين إلزام الطفل بالقوانين المنزلية وتحمل مسؤولية تنفيذها، وتركه يعيش على هواه انطلاقًا من مبدأ أن الحياة كفيلة بتعليمه، بل نضع له الأسس والمبادئ ونشرح له الصواب من الخطأ، ونعلمه أننا جميعًا عرضة لارتكاب لأخطاء، وإنما في الوقت نفسه يجدر بنا تصويبها، وفي إمكان الطفل طلب المساعدة وبهذه الطريقة سيدرك أن والديه بقربه لحمايته لا للسيطرة عليه. 

المجلة الالكترونية

العدد 1080  |  كانون الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1080