تحميل المجلة الاكترونية عدد 1080

بحث

لأن لا حدود للتضحية...

تبدو تضحية الأم في سبيل أولادها مسألة لا مجال للبحث فيها أو للمناقشة. فكل أم تكون على أتمّ الاستعداد للتضحية بأي طريقة ممكنة من أجل أعز ما تملك.
فهل يمكن أماً أن ترى طفلها يتألم من دون أن تحرّك ساكناً؟ من الطبيعي أن تتمنى تحمّل ألمه لتخفّف عنه. فالتضحية من أسمى معاني الأمومة فنراها حاضرة وموجودة غريزياً لديها فتبذل العطاء من أجل أطفالها لتبعد عنهم شبح الألم والعذاب.
السيدة تيريز حكيّم أم عايشت عذاب ابنتها ندى فقررت أن تقدم لها قطعة من جسمها، فتبرعت لها بكليتها لتعيش حياة طبيعية كأي فتاة أخرى، وها هي اليوم مستعدة لتهبها كليتها الثانية من دون تردد لتنقذها من جديد. تفانٍ قد يستغربه البعض، فيما تجد أي أم المسألة طبيعية ولا تدعو للعجب لأن التضحية من سمات الأم الحقيقية.

قرار اتخذته الأم من اللحظة الأولى
عندما كانت ندى في التاسعة من عمرها، بدأت تعاني أعراضاً لم تكن تعهدها من قبل، رغم عدم وجود مشكلة سابقة في العائلة مرتبطة بالكلى.
ففي تلك المرحلة ظهرت عليها علامات فقدان الشهية والشحوب وآلام الرأس بشكل يدعو إلى القلق. فلم يكن ممكناً أن تقف أمها مكتوفة اليدين أمام هذه الأعراض المقلقة.
تمكن طبيب الأطفال من تشخيص حالتها استناداً إلى شحوب وجهها الواضح، فتبين أنها تعاني فشلاً كلوياً حاداً. توجهت تيريز إلى طبيب اختصاصي في أمراض الكلى، فكان تشخيصه قاسياً بالنسبة إلى أم تسمع عن حل وحيد لابنتها هو غسل الكلى بشكل مباشر وسريع ولا يحتمل البحث.
أما سبب إصابة ندى بهذه الحالة فبقي مجهولاً.
ما إن بدأت ندى بغسل الكلى حتى اتخذت أمها قراراً لا مجال فيه للبحث، فقد باشرت في إجراء الفحوص اللازمة من اللحظة الأولى لتتمكن من التبرع بكلية لابنتها الصغيرة التي ترى عذابها في جلسات غسل الكلى، وهي لا تزال في هذه السن.
عن هذا تقول: «ثمة اشخاص من حولي عارضوا فكرتي هذه ولم يشجعوني عليها، ومنهم زوجي الذي نصحني بالعدول عن قراري، معتبراً أن عندي عائلة أتحمل مسؤوليتها.
لكن قراري كان نهائياً ولم أشأ البحث فيه. لم أكن أفكر عندها إلا بأن أوفر على ابنتي الصغيرة الكثير من العذاب مهما كلّفني الأمر، خصوصاً أنه في ذلك الوقت كان الوضع الأمني سيئاً ولم أجد أمامي حلاً آخر. وكانت هذه التضحية أقل ما يمكن أن أفعله كأم من أجل ابنتي. وكان الطبيب قد أخبرني أنه بقدر ما يمكن ان نسرّع في عملية الزرع، يكون ذلك افضل لندى. أُجريت عملية الزرع بعد بدء ندى بغسل الكلى بستة اشهر، وكانت ناجحة ومرت على خير ولم تكن الأمور صعبة لي أو لها، والأهم انها بذلك تجنبت غسل الكلى بجلساته الطويلة الروتينية.
بعد إجراء عملية الزرع، وبعدما تبرعت لها بالدم أيضاً، رفض جسمها بشدة الكلية المزروعة بما أنها لم تكن قد بلغت بعد. لكن بعد اتخاذ الإجراءات اللازمة، عاد جسمها وتقبّل الكلية بشكل طبيعي ولم تعان أي مشاكل. لا يمكن أحداً أن يتصور مدى سعادتي بأنني قد وفرت الكثير من العناء على ابنتي لتتابع حياتها بشكل طبيعي، مهما كانت النتائج والظروف التي كان  يمكن أن أواجهها».

بعد 26 عاماً ...
لكن في الصيف الماضي، وبعدما بدأت أعراض تظهر على ندى وراحت تمرض أكثر فأكثر وتعاني مشاكل عدة، وبعد مرور 26 عاماً على خضوعها إلى عملية زرع الكلية التي تبرعت لها بها والدتها، وصلت إلى مرحلة غسل الكلى لأن الامر صار ضرورياً وما من حل آخر أمامها.
لكن في الوقت نفسه تقول أمها: «مرت 26 سنة تمكنت فيها ندى من عيش حياتها بشكل طبيعي وتابعت دراستها وأصبحت معلّمة. تكفي سعادتي بها وهي تتابع حياتها كأي فتاة في مثل سنّها.
خلال السنوات الماضية، ورغم أن من الطبيعي أن تكون علاقة أم بابنتها علاقة مميزة ومبنية على الصداقة والعاطفة، إلا أن ما حصل قرّبنا أكثر من بعضنا البعض، فهي تخاف عليّ كثيراً وتسارع إليّ ما إن تشعر بانزعاجي، فتقول لي يكفي أن في جسمها قطعة مني، فكيف لها ألا تقلق عليّ أكثر من أي فتاة تخاف على أمها!
هي تعرف جيداً قيمة التضحية التي قدّمتها لها، وهذا ما جعلها تحافظ على جسمها اكثر وتلتزم بأدويتها ولا تعرّض نفسها للخطر. واليوم انا مستعدة لتقديم كليتي الثانية لها لأحميها من الغسل، لكن الأطباء والجميع من حولي رفضوا ذلك، إلا أن ما من حل آخر أمامي لصعوبة إيجاد واهب لها.
أما شقيقها فعنده عائلة وهو مسؤول أيضاً عن عائلتنا، ووالدها أصبح في سن متقدمة. علماً أن وضعها الصحي مستقر اليوم، وتجري كل الفحوص اللازمة ونتائجها جيدة، ويمكن أن تخضع لعملية زرع، فيما تستمر اليوم في غسل الكلى في 3 جلسات في الاسبوع».

مستعدة لوهب كليتها الثانية
بدورها، تتحدث ندى عن إحساسها تجاه أمها وما قامت به ولا تزال من أجلها، فتجد صعوبة في التعبير عما تشعر به... وتقول: «أنا في الاساس من الأشخاص الذين لا يعبّرون بسهولة عن مشاعرهم، لكنْ ثمة شعور لا يوصف وتقدير لكل ما قامت به أمي، وما لا تزال مستعدة للقيام به حتى اليوم. فأراها اليوم مستعدة للتضحية مرة أخرى فتهبني كليتها الثانية. تجدني دائماً إلى جانبها وحاضرة للتضحية من أجلها. ومهما فعلتُ لا يصل حد المقارنة بما قدّمته لي.
لا أتهاون أبداً عندما تحتاجني، قد تكون مشكلتها بسيطة جداً، فعندما أشعر بأنها متضايقة، أو تعاني ارتفاعاً في الحرارة آخذها مباشرة إلى الطبيب.
أخشى عليها من أي سوء، وخوفي عليها كبير اليوم لأنني أقدّر جيداً ما قامت به من أجلي. خلال 26 سنة، لم أمرض مرة وهي أيضاً لم تواجه أي مشكلة وقد وفرت عليّ الكثير من العذاب مع أنني اليوم متقبلة جيداً لوضعي واعتدت الخضوع 3 مرات في الاسبوع إلى جلسات غسل الكلى.
أذكر جيداً مكوثي شهراً في المستشفى في مرحلة الطفولة قبل أن أخضع لعملية الزرع. بقيت عالقة في ذهني تلك الذكريات فيما كانت مرحلة حرب ولم نجد أسرّة شاغرة في المستشفى فبقيت شهراً كاملاً في العناية الفائقة وأنا طفلة في التاسعة من عمري. أذكر تلك المرحلة من دون تفاصيل، لكن تبقى مرحلة الألم والعذاب في ذهني طبعاً والمستشفى أيضاً.
عندما تبرعت لي أمي بكليتها، ولأنني كنت يومها في سن صغيرة، لم أفهم جيداً معنى تضحيتها، لكن بعدما كبُرت عرفت قيمة ما فعلته من أجلي وصرت أخاف عليها أكثر. اليوم مرت 5 أشهر منذ أن عاودت غسل الكلى، لأننا لم نجد أمامنا حلاً آخر، وكاد جسمي أن يتسمّم وعانيت مشاكل عدة إلى ان أصبح الغسل الحل الوحيد. كان الأطباء يمهدون لهذه المرحلة التي لم يكن هناك من مفر منها.
لكن لم تعد الأمور بالصعوبة نفسها بالنسبة إليّ، لأنني لم أعد طفلة وقد اعتدت على حياتي الجديدة هذه ولست منزعجة. لكن أعترف بأن حياتي تغيرت بعدما عدت إلى الغسل الذي يبقى روتيناً بالنسبة إليّ وصرت مقيّدة بهذه الآلة.
ولأنني معلمة، أستيقظ في الرابعة صباحاً لأخضع إلى الغسل قبل أن أذهب إلى المدرسة للتعليم. وهذا ليس سهلاً بالنسبة إليّ، لكنني اعتدت على هذه الحياة التي تتطلب مني الالتزام بجلسات الغسل والتقيّد بنظام غذائي معين صارم.
مهما حصل معي اليوم، أرفض أن تتبرع لي امي بكليتها الثانية. وأود أن اقول لها إنني أعجز عن التعبير عن امتناني لها. أستميت في حبّها، وأخاف عليها كثيراً وبشكل يفوق الوصف، ومتأكدة من أنها مثال الأم ولا يمكن ان أجد مثيلاً لها في العالم».

                
عن الهيئة الوطنية لوهب الأعضاء
الهيئة الوطنية لوهب الاعضاء هي منظمة حكومية تعمل تحت غطاء وزارة الصحة اللبنانية. انطلقت عام 1999 بموجب مرسوم وزاري، وعيّنت من جانب القانون اللبناني للآداب الطبية في عام 2012 الهيئة الرسمية الوحيدة للإشراف على عملية وهب وزرع الأعضاء في لبنان وإدارتها.
لذلك تشرف الهيئة الوطنية لوهب الاعضاء على تطبيق أعمال الوهب والزرع في ما يتعلق بالاعضاء أو بالانسجة والخلايا البشرية بالتعاون مع المستشفيات اللبنانية، وهي المسؤولة المباشرة عن تنفيذ النظام اللبناني للوهب.
كما تعتبر الهيئة المسؤولة عن تطوير برامج التدريب والتثقيف للعاملين في المجال الطبي بصورة متواصلة، وهي مسؤولة عن التشجيع على وهب الأعضاء والأنسجة وتقديم كل الدعم اللازم لهذا الهدف الإنساني.
هذا وتحرص ايضاً على ان يحصل كل مريض على العلاج المناسب الذي يحتاجه وتأمين الحماية له ضمن المبادئ الطبية المرعية ومبادئ المساواة.
وقد وضعت الهيئة كل المعايير العلمية والقانونية والاخلاقية التي تحمي برنامج وهب وزرع الأعضاء من الواهبين الأحياء أو المتوفين، معتمدةً نظاماً عادلاً للأعضاء والأنسجة الموهوبة كي تؤمّن العلاج المناسب لكل مريض.
وكونها الجهة الرسمية والمسؤولة كمرجع في هذا الإطار، يترتب على ذلك الكثير من المسؤوليات الكبيرة في كل المواضيع المرتبطة بعمليات الوهب والزرع.

  • من عام 2010 حتى اليوم أنقذ 82 مريضاً كانوا بحاجة إلى زرع كلى أو قلب أو كبد.
  • 11500 شخص حصلوا على بطاقة وهب وأبدوا استعدادهم لوهب أعضائهم بعد الوفاة.
  • ثمة 600 مريض على لائحة الانتظار
  • يموت 12 إلى 15 مريضاً من لائحة الانتظار في كل عام.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1080  |  كانون الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1080