الروائية ماري قصيفي: الرجل يحتكر الوقت فلا يترك للمرأة وقتاً للكتابة
تكتب ماري قصيفي الرواية والقصة والشذرات الشعرية والمقالة الصحافية، وتتخذ من الكتابة مسافة إجبارية للسلوك في الحياة. وقد أصدرت كتباً عدة في هذا السياق، وكانت روايتها «كل الحق ع فرنسا» محاولة ناجحة في ترسيم صورة تاريخ معاصر وفق أفكار وقناعات تنطلق منها الكاتبة. في هذا الحوار، تتحدث قصيفي الى «لها» عن علاقتها مع الكتابة والحياة والإنسان، وتكشف عن شجونها المتنوعة بكثير من الثقة والبساطة والأمل... فماذا تقول؟
- الروائية ماري قصيفي هل تختلف عن ماري المواطنة والإنسانة التي تحيا بهدوء؟
ليتني كنت أحيا بهدوء. صحيح أنّني أميل إلى العزلة والابتعاد عن الحياة الاجتماعيّة، ولكن ذلك لأنّني لا أعرف كيف أكون هادئة أو مسالمة. فالثورة التي تغلي في عروقي كمواطنة وكإنسانة هي التي أنجبت الراوية التي قد تكتب رواية أو شذرة شعريّة أو مقالة. الراوية فيّ تحكي عن ماري قصّيفي وعمّا رأته وسمعته وحفظته في قلبها إلى حدّ الوجع. وما لا تقوله ماري «الهادئة» تصرخ به ماري الراوية في كلّ ما تكتبه.
- لماذا اخترتِ الكتابة الروائية، وما الذي دفعك اليها؟
أعتقد أنّني روائيّة في كلّ ما فعلته وكتبته. حتّى في ممارستي العمل التربويّ كنت مسكونة بهاجس «الحكي»، وبالرغبة في تحويله كتابةً، أيّ نوع من الكتابة. وحين كتبت المقالة والقصّة القصيرة والشذرات الشعريّة، كنت أريد أن أروي حكاية ما. وإذا كان ثمّة محرّض أساس فهو اقتناعي بأنّ الرواية نتاج المهزومين، في مقابل التاريخ الذي هو نتاج المنتصرين. الرواية عالم كامل ومتكامل فيه الشعر والفلسفة والموسيقى وعلم الاجتماع والسياسة وعلم النفس، وكلّ ما يمكن أن تفكّر في التعبير عنه.
- ماذا كتبتِ حتى الآن، وما الذي قلته في ما أنجزته من كتابة روائية؟
كتبت روايتين: «كلّ الحقّ ع فرنسا» عام 2011 والتي حازت جائزة حنّا واكيم ونفدت طبعتها الأولى، و«للجبل عندنا خمسة فصول» في عام 2014، وكلتاهما صدرتا لدى دار سائر المشرق. الرواية الأولى تطرح مسألة الهويّة من خلال عائلة تأثّرت مصائر أفرادها بالانتداب الفرنسيّ، والثانية تصوّر معاناة الجبل اللبنانيّ في خلال ما يعرف بـ«حرب الجبل» التي تلت الاجتياح الإسرائيليّ للبنان. أردت في كلتيهما أن أقول إنّنا شعب تائه، لا يعرف من هو، ولا ماهية لغته، ولا أين حدوده، ولا تاريخه أو حضارته. قد تقول لي إنّ عصر العولمة جعل الجميع في مأزق البحث عن الهويّة، فأُجيب بأنّنا سبقنا العولمة في التيه والالتباس اللذين يزدادان قسوةً مع هذه الفوضى التي تضرب العالم.
- تكتبين الشعر أو ربما كانت لك محاولات في الشعر؟
لم أطرح نفسي شاعرة، وأخاف أن أكون وقحة حين أقارب الشعر في شذرات بالفصحى، أو محاولات متواضعة في العاميّة اللبنانيّة. أرى أنّني أكتب بذائقة ونَفَسٍ شعريّين لأنقل فكرة أو مشهدًا أو حالة. الشعر أمر عظيم وجميل، وككلّ أمر عظيم وجميل لا يجوز الاقتراب منه إلّا في حالة سامية من التطهّر الفكريّ والعاطفيّ واللغويّ. وبهذا المعنى، ثمّة ثرثرات كثيرة تدّعي الشعر وهي ليست كذلك. ومع ذلك، فحين أتذكّر أنّ الشعر عالم مفتوح على شتّى الأساليب ومختلف العوالم، أقول: لمَ لا؟ فقد أكون شاعرة أكثر من زهير بن أبي سلمى مثلًا.
- ماذا في جعبتك من جديد روائي أو سواه؟
أعمل على رواية عن المجاعة الكبرى بعنوان «بنات الأربعتعش»، ليس فقط في مناسبة مئويّتها الأولى، بل لأنّها، كما الانتداب وحرب الجبل اللذين كتبت عنهما، تمسّ مسألة الهويّة والانتماء وقضيّة الإنسان في مواجهة الموت، وهي موضوعات تعنيني وأريد أن أتعمّق في فهمها، كي أفهم نفسي، لا أكثر ولا أقلّ. الى جانب الرواية، هناك كتب شبه جاهزة، بعضها شذرات شعريّة تكمّل أجواء كتابي الأوّل «لأنّك أحيانًا لا تكون»... وكتاب عن التربية، وآخر عن «مفهوم الباب» في نصوص الأخوين رحباني، لكن أصارحك بأنّني حين أرى حركة القراءة في لبنان والعالم العربيّ، أقع مرّات في فخ اليأس من النشر والتوزيع والبيع، وأتساءل عن جدوى كلّ هذا التعب.
- هل تعتبرين أنك تنتمين الى جيل روائي لبناني عربي محدد، وكيف؟
رأيت نفسي دائمًا من رعيل يسبقني زمنيًّا، كأن أنتمي مثلًا، وعلى اختلاف الأنواع الروائيّة، إلى جيل يوسف حبشي الأشقر وتوفيق يوسف عوّاد وحنّا مينا وجبرا ابراهيم جبرا والطيّب صالح وعبدالرحمن منيف. ربّما لأنّني اكتشفت أنّني روائيّة حين قرأتهم، وتمنّيت لو عرفتهم وانضممت إلى حلقاتهم. ربّما هي مراهقتي الأدبيّة التي تأبى أن تفارقني حتى لو تقدّمت في السن.
- ما رأيك بالرواية النسائية العربية؟
على عكس ما يقال من أن ليس هناك رواية نسائيّة وأخرى رجّالية، أرى أنّ ثمّة خصوصيّة وهويّة لكلّ كتابة. فكما أنّ الجغرافيا والتاريخ والسياسة والحرب والوضع الاجتماعيّ أمور تترك أثرها في النتاج الروائيّ، كذلك هناك كتابة نسائيّة ولو كتبها رجل، وكتابة رجّاليّة ولو كتبتها امرأة. بمعنى أنّ الحالة النسائيّة لها روايتها، وكذلك الحالة الرجاليّة. أمّا في ما يتعلّق بما تكتبه المرأة اليوم فأرى أنّ أكثره مجترّ، ويعالج الموضوعات نفسها. وأكثر ما يُكتب يهدف إلى لفت انتباه الغرب، ربّما بهدف نيل الجوائز أو الترجمة، أو تحت عنوان «خالف تعرف»، كأن نكتب في موضوعات محرّمة لمجرّد التحدّي ومجاراة سوق النشر، في حين أن موضوعات اجتماعيّة كثيرة كالفقر والمرض لا تزال مهمّشة. لكن ذلك لا يعني أنّني لا أنبهر براويات معاصرات كـرشا الأمير وعلويّه صبح ومها حسن وسواهنّ ممّن كتبن أعمالًا شخصيّاتها آسرة، وعوالمها ساحرة.
- الرواية ما زالت محتكرة للرجل، بمعنى أن الرواية التي يكتبها الرجل كانت وما زالت وربما ستبقى هي الأساس، فهل من هيمنة ذكورية أم أن الأمر طبيعي؟
يحتكر الرجل الوقت فلا يترك للمرأة وقتًا لتكتب. المرأة في بلادنا مطالبة بمسؤوليات كثيرة وواجبات لا تنتهي. والرواية تتطلّب تفرّغًا شبه تام. لذلك يجد الرجل وقتًا ليكتب وطاقة يضخّها في عالمه الروائيّ، ولكن نساء كثيرات لا يملكن هذا الترف. بعض البارزات في عالم الكتابة سمح لهن وضعهنّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ بالتحوّل راويات ناجحات. لكن هذا ليس متاحاً لسواهنّ. قرأت مرّة لروائيّة غابت عن الساحة الأدبيّة أنّها ابتعدت لترعى والدتها المسنّة العاجزة. اليوم بدأت الأمور تتغيّر بعض الشيء، فصرنا نرى إعلاميّات يقتحمن عالم الرواية، وسيّدات مجتمع يرغبن في إثبات وجودهنّ بالكتابة. أمّا قيمة كلّ ذلك فمتروكة للزمن، أو لنقّاد لا يخضعون إلّا لمقاييس علميّة في التحليل والدراسة.
- تحاولين تقديم شيء ما للمرأة المغبونة من خلال رواياتك وكتاباتك...
لا أدّعي أنّني أحاول تقديم حلول، وأرى أن هذا ليس من واجب الروائيّ. أحاول الإضاءة على مشكلات وحالات إنسانيّة، أتفاعل معها وأشعر بأنّها تمسّ كياني كإنسان أوّلًا وكامرأة ثانيًا. وإن كنت بعيدة عن المجتمع الثقافيّ، لكن أجدني قريبة من قضايا المجتمع من خلال عملي التربويّ، حيث تصبّ مشكلات المجتمع، كالعنف الأسريّ والطلاق وتدهور الوضع الاجتماعيّ لطبقة كانت ميسورة... وحين أضيء عليها، أتمنّى أن أساعد من يعانيها على الرؤية بشكل أوضح... وما يصلني من ردود فعل يطمئنني.
- ماري كاتبة وإنسانة حزينة، سعيدة، مقهورة، ناقمة، عاشقة، مظلومة، ظالمة، ضحية... لماذا وكيف؟
أنا كلّ هذا وأكثر، ولكن من منّا ليس كذلك؟ من منّا لم يمرّ بهذه الحالات الشعوريّة المختلفة المزاج والأثر؟ لماذا؟ لأنّني أنظر فأرى، لأنّني أصغي ولا أستمع فقط، لأنّني أبكي وأضحك بسهولة، لأنّ لا شيء يحدث حولي عابر وزائل وبسيط، حتى لو كان كذلك. فكلّ مشهد حكاية، وكلّ كلمة قصيدة، وكلّ صوت أغنية أو نشيد، وكلّ حركة مسرحيّة مكتملة العناصر، لأنّني ككلّ واحد منّا، مشروع ظالم واحتمال ضحيّة. ولكن ربّما ما يميّزني هو قدرتي على ترجمة كلّ ذلك الى كلمات ونصوص. وقد أظهرت لنا وسائل التواصل الاجتماعيّ كيف يريد الناس أن «يعبّروا» عن كلّ ذلك. قد لا تسعف اللغة والموهبة الكتابيّة الجميع، لكنّهم جميعًا اختبروا الحزن والسعادة والقهر والنقمة والعشق.
- ماذا تقولين عن الحب؟
أحيانًا أظنّ أنّ الكتابة عن الحبّ هي الحبّ. قد نكتب قصائد ونصوصًا عن الحبّ وفيه ولا نفيه حقّه. ومع ذلك فالحبّ الذي نعجز عن الكتابة عنه هو الحبّ. الحبّ كالشعر لا يمكن الاقتراب منه بدون ثقة وشجاعة. الحبّ متطلّب مرفّه أنيق مجنون عابث متصوّف، وأكاد أجزم بأنّ كثرًا من الذين يكتبون عنه لم يعرفوه، أو هربوا منه حين التقوا به. ومن المؤسف أنّ المجتمع الذي يطلب منّا أن نتعلّم أمورًا كثيرة، يرفض تعليمنا الحبّ فيضطهد من يحبّ ويسخر ممّن يعشق ويرتكب جرائم شرف.-
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024