شاعر الأمل والتفاؤل قيصر عفيف: تعلمت أن أكون مثل المياه
شاعر وكاتب وناقد ومترجم، استطاع توظيف ثقافته في مشروع بناء ثقافي. حقق قيصر عفيف اللبناني الذي يعيش في المكسيك منذ عقود، حضوراً شعرياً في المُناخ البعيد. كتب الشعر والقصيدة، وترجم شعراء كباراً من أمثال خايمي سابينس وسواه، كما أطلق مجلته الشعرية الشهيرة «الحركة الشعرية» منذ عقود أيضاً، وما زالت مجلته هذه تطل علينا من وراء البحار. «لها» التقت الشاعر المغترب، الذي يعيش الأمل والتفاؤل، مهما غادر وابتعد، ومهما ضاقت المساحات.
- متى اكتشفت أنك شاعر؟ وكيف تبلورت القصيدة في حياتك؟
حتى اللحظة لا أعرف ما اذا كنت حقاً شاعراً. لا أعرف بالتحديد ما اذا كان ما أكتبه يرتفع الى مصاف الشِعر. كما لا أحبّ ان تغلب عليّ صفة وأرزح تحت ثقلها وتأسرني أفكارها وتحدّد خطواتي. فالانسان لا يكون فقط شاعراً او طبيباً او مهندساً. فليس هناك من مهنة تستهلك غنى الانسان في كلّ أبعاده. حين أكتب، أحاول ان أطلّ من نافذة الذات المغلقة الى الخارج. لست وحدي في هذا الوجود. والآخر ليس غريباً عني، بل هو شريكي في الأرض والسماء. له ما لي ولي ما له. نتشارك الهواء نفسه والشمس نفسها. ومع أننا نتشارك العين نفسها، لا نتشارك النظرة الواحدة الى الحياة. عندما أكتب، أحاول ان اقول لشريكي إننا لم نرَ الشمس لأن النافذة مغلقة، وها أنا ادعوك لفتحها حتى ترى ما أرى، ما كان خفياً عليك، وإلا تظل في عزلتك الوجودية تعاني الوحدة بعيداً في منفاك. اذا نجحتُ، تبدأ القصيدة بالظهور لتؤشر للآخر باتجاه الطريق، باتجاه النافذة التي منها تطلّ الشمس.
- قصيدتك مشحونة بالفكر والقلق المعرفي. ماذا تخبرنا عن شعرك؟
قصيدتي تخرج مني. أنا مرآتها. لكنني لا أعرف تماماً بماذا أنا مشحون. للفكر أبعاد عدة، منها الواعي ومنها اللاواعي، منها الذاكرة ومنها الحلم والخيال. إلا ان هذه كلها تكون عناصر تساعدني على الاكتشاف. قصيدتي تحاول ان تكتشف جوانب من ذاتي، وتحملها من كهوفها الخفية الى الورقة البيضاء. هكذا أشارك الآخر في تجربتي. أرى أنني اذا استطعت ان أضيء للآخر مساحة من جوانيتي، ربما أساعده على اكتشاف جديد يدعمه في رحلته نحو اكتشاف ذاته هو، أو اكتشاف جوانب كانت من قبل مغلقة عليه.
- كيف أثّرت علاقاتك الواسعة بثقافات العالم في ثقافتك وتجربتك الشعرية؟
لا أخفي عليك أنني مدين بما أنا عليه اليوم لكثير من الثقافات. منذ بداياتي كنت مهتماً بحضارات الامم في القارات الخمس. يجذبني الانسان في مغامراته، في ممارساته لطقوسه الاجتماعية والدينية، في تزاوجه، في دفنه لموتاه، وفي طرق العيش الأخرى. كنت ارى كيف نشبه بعضنا بعضاً وكيف نختلف، وكنتُ أتعلم الكثير... تعلمتُ ان المعلومات لا تفيد. إنها مجرد افكار تدخل الدماغ وتخرج منه، لكنها لا تبدّل القلوب التي تبقى صخوراً معزولة لا تشعر بوجود الآخر.
- تعيش في المكسيك منذ فترة طويلة حيث بدأت في إصدار مجلتك «الحركة الشعرية». لماذا الإصرار على مجلة عربية في أرض غير عربية؟
نعم، بدأنا في إصدار الحركة الشعرية منذ عام ١٩٩٢في المكسيك. يومها لم نفكر إلا في إصدارها. كانت البلاد العربية أفضل حالاً من اليوم، ولكنها كانت تضيق بالكلمة الحرة. لم يتسع العالم العربي إلا لمن يسلّط قلمه ويُصلت سيفه في خدمة مصلحة ما! صودف أنني أعيش في المكسيك، وارتأيت ان تكون لنا مطبوعة تشجع على أمرين: نشر نتاج شعراء شباب لم يتسنّ لهم النشر في صحف ودوريات بلادهم الخاضعة للسلطة السياسية او لمافيا الثقافة، وفتح المجال ثانياً لكلّ شاعر ان يقول ما يريد وكما يريد، وفق ما يمليه عليه حسّه الانساني. ولم يكن ثمة إصرار على الاصدار، بل قوة الاستمرار هي التي دفعتنا، وما زلنا تحت تأثيرها الى اليوم.
- قدّمتَ للقارئ العربي مختارات من شعر خايمي سابينس المكسيكي من اصول لبنانية. كيف اهتديت الى هذه القامة الأدبية؟
عند وصولي الى المكسيك، كنتُ أقرأ الشعر المكسكي بنهم، لأنني أعرف ان جوهر الحضارة لا نجده إلا في الفنون وأهمها الشِعر. ومرة قال لي صديق: عليك بقراءة خايمي سابينس، وهو من اصول لبنانية. ولمّا قرأته ووجدت في شعره صور الحياة المكسيكية المتنوعة، أُعجبت ببساطته وعمقه في آنٍ واحد. حاولت ان أجتمع به ولم يتسنّ لي ذلك لأنه كان مريضاً. وحدث أن كرّموه مرة في النادي اللبناني في العاصمة مكسيكو، وتعرفت إلى خوليو ابن الشاعر الذي رحّب بالفكرة كثيراً، لا بل شجّعني بإهدائي كل مجموعات الشاعر فاخترتُ نماذج ونقلتها وصدرت عن «دار نلسن» في بيروت في طبعتين.
- أوكتافيو باث حامل جائزة نوبل كان جارك على ما أعلم، فهل تعرفت إليه وماذا تخبرنا عنه؟
نعم، كان أوكتافيو يسكن في مبنى لا يبعد أكثر من دقائق سيراً على الأقدام. لكنني عجزتُ عن لقائه. حاولت مرتين. في المرّة الاولى عندما كتبتُ عنه في احدى الصحف اللبنانية نبذة بمناسبة حصوله على جائزة نوبل وأردتُ أن أعطيه نسخة، خصوصاً ان من ضمنها ترجمة لبعض قصائده. حملتُ الصحيفة ولكن حارس المبنى حيث يسكن أخبرني بأنه غير موجود، فعدتُ خائباً. أما المرة الثانية فعندما طلبتَ أنتَ مني ان أحمل له ترجمة لك لبعض قصائده. ذهبتُ مع النسخة التي حملتها معي من لبنان وتكرر مشهد اللقاء الاول. تركتُ النسخة عند حارس المبنى وكانت خيبة أخرى...
شعر أوكتافيو باث على عكس شعر سابينس، مشحون بالتجربة المعقدة والمتشابكة الأبعاد، جمع فيها ما عرفه من حضارات الشرق الاقصى وأوروبا حيث عمل سفيراً، وحضارة المكسيك القديمة قبل وصول الإسبان اليها.
- كيف يتوزّع الحب والمرأة وعاطفة الانسان في حياة قيصر عفيف؟
في حياة قيصر عفيف لا فصل بين العاطفة والفكر، ولا بين الجسد والروح. هذا الفصل ممكن في الذهن فقط، أما في الحياة فهذه كلها متلاحمة في الانسان الشخص الواحد. السؤال مبني على التجريد الذي يحمل في طيّاته خدعة. لا وجود للمرأة إلا في الفكر المجرد. ولو سألتني عن سلمى او ليلى، عن هند او دعد، لربما كان الجواب سهلاً ودقيقاً، أما المرأة بالمجرد فلا وجود لها في قاموسي. والحُب أيضاً تجريد لا وجود له في الواقع إلا اذا قرناه بشيء آخر، كأن نقول حب فلانة او حب لوحة ما....
- كيف ترى وطنك لبنان من داخل غربتك المكسيكية؟
لا أعرف ما اذا كانت الرؤية تتضح عن بُعد أم تتغبّش. لكن الوطن لا يختفي عن النظر. هو جزء مني أحمله كما لحمي وعظمي ولا خروج منه. لكنني كنتُ أراه جبلاً أخضر تكلّله الكرامة فصرتُ أراه صحراء تغمرها القمامة. كنتُ أراه شاطئاً يُغري بالمغامرة والاكتشاف فصرتُ أراه مغارة لصوص. كنتُ أراه تقاليد أفاخر بها العالم فصرتُ أراه عادات أخجل من الانتماء اليها. كنتُ أراه الوطن الافضل: افضل الجامعات والمدارس، افضل الشعر والموسيقى، افضل مسارات للعدالة والقوانين فصرتُ أراه الوطن الأسوأ. كنتُ أراه سيّد التجارة بين الامم فصرت أراه يتاجر بالأعراض والذمم. كنتُ أراه وطن العصافير فصرتُ أراه وطن البنادق... في اختصار، كنتُ أراه وطناً فصرتُ أراه منفى.
- هل تنوي الاستقرار في المكسيك؟
لا أعرف بالتحديد. ربما. لكنني تعلّمتُ على مدار العقود ان أكونَ مثل المياه. الماء يتّخذ شكل كلَ إناء، وحين ينساب لا تقف عقبة في طريقه. بنعومة يحفر في الصخور، يتسلق الأشجار والجدران ويصل حيث يحلو له الوصول. وأنا تعلمتُ أن أنساب مثله، أن أصغي الى ضابط الكلّ، فإذا شاء لي العودة أعود، وعندها لن تقف عقبة أمامي-
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024