بعدما قطع الأطباء الأمل... ضحكة شريف قيس تنقذه من الموت
دراسات عدة تناولت تأثير المزاج والإيجابية في حالة مريض السرطان وتعافيه منه. من هذه الدراسات ما أثبت فعلاً ان المزاجية تعتبر خط الدفاع الاساسي في مواجهة المرض والسلاح الأكثر فاعلية.
فبقدر ما ننظر إلى الأمور بإيجابية وتفاؤل، تزيد قدرتنا على مكافحة المرض عامةً والسرطان خاصةً. يبدو الشاب شريف قيس، المثال الأبرز على ذلك بعدما واجه المرض بضحكته ومرحه وإيجابيته.
صفات كثيرة يحسده عليها كثر وتمكّن بفضلها وبفضل كم هائل من الأمل يحمله في قلبه من اللحظة الأولى التي عرف فيها بإصابته بالمرض، من التصدي له بكل شجاعة ليتابع المشوار ويكون قدوة للآخرين بفضل تجربته الفريدة.
في لحظات صعبة، فقد الاطباء أنفسهم الأمل في شفائه، من دون أن يعرفوا أن شريف اتخذ قراراً من اللحظة الأولى بألاّ يترك المرض يتغلّب عليه. فكان سلاحه الأمل ليصل إلى بر الأمان.
بكل بساطة وثقة، يؤكد شريف أن حبّه للحياة وإيجابيته والأمل الكبير الذي يحمله في قلبه...هي العناصر التي لعبت الدور الأساس في إنقاذه من الموت ودفعه ليتغلّب على المرض رغم الصعوبات والتحديات التي وضعته في مواجهة مع الموت، وفي أوقات فقد الاطباء أنفسهم فيها الأمل بشفائه وعودته ليتابع حياته بين أحبائه.
عن مشاعره في ذلك الوقت يقول شريف: «لم أخف من الموت ولو للحظة، وقررت خوض التحدي لأنني أعشق التحدي بكل بساطة. فمن البداية رأيت في المرض التحدي الذي يجب أن أواجهه، لأنها مسألة حياة أو موت.
عندما اكتشفت المرض، كانت أمامي بضعة أسابيع للبقاء على قيد الحياة، لأن المرض كان في مرحلة متقدمة. وها أنا اليوم حي أكثر من أي وقت مضى وأعشق الحياة بكل ما فيها. لم أرَ يوماً شيئاً سلبياً، ولم أفكر إلا بالشفاء في كل مراحل المرض منذ لحظة تشخيصه إلى اليوم. شعرت بأنني بقوة إرادتي يمكن أن أساعد كثيرين».
هكذا بدأت رحلة شريف مع المرض ...
بدأت قصة شريف بمجرد ألم خفيف شعر به في فخذه فيما كان في سويسرا. لم يُعر الأمر أهمية، تحمّل الألم، وعندما عاد إلى لبنان أجرى صورة شعاعية لم تُظهر شيئاً، لكن مع الوقت أصبح الألم يزداد أكثر فأكثر من دون أن تُبيّن الفحوص وجود مشكلة معينة.
حتى أن بعض الاطباء شخّصوا المشكلة على أنها ناتجة من فيروس عادي، ووصفوا له مسكنات الألم للتغلب على الفيروس. لكن الوضع زاد سوءاً مع الوقت بحسب شريف، فـ»بدلاً من أن يخف الألم، صار يزيد حتى أصبح أكثر بـ 4 أو 5 أضعاف وبشكل بات من الصعب تحمّله.
حتى أنه امتد إلى ذراعي ولم تعد الأدوية تفيد شيئاً. لم أعد قادراً على النوم ليلاً من شدة الألم الذي ترافق لاحقاً مع ألم غريب في الرأس لا يُحتمل وارتفاع في الحرارة.
ولأنني لم أعد أقوى على تحمّل هذه الآلام أكثر، قررت التوجه إلى طبيب آخر، لكنه كان طبيباً اختصاصياً في العضلات فعجز عن تشخيص الحالة ونصحني بالتوجه إلى طبيب صحة عامة طلب مني إجراء فحوص للدم وصور، ولكن النتيجة كانت دائماً بتشخيص المرض على انه ناتج من فيروس.
كنت أتألم بشكل غير طبيعي ولا أنام، وعندما أخبرني آخر طبيب أنه فيروس ثُرت غضباً وطلبت منه إجراء المزيد من الفحوص الدقيقة للتأكد من النتيجة، خصوصاً أنني كنت قد قرأت في فحوص الدم أن معدلات الكريات البيض لدي مرتفعة جداً.
في هذه الحالة قد يكون السبب خللاً في جهاز المناعة، كما يمكن ان يكون أكثر خطورة كـ«اللوكيميا» التي كنت أفكر باحتمال إصابتي بها.
عندها طلب الطبيب المزيد من الفحوص الدقيقة، وعندما رأيت طبيبتين تدخلان إلى غرفتي في المستشفى وقد ظهرت على وجهيهما علامات تُنذر بوجود مشكلة، قلت لهما مباشرةً إنني مصاب بسرطان الدم، فأكدتا لي ذلك». إلا أن هذا الخبر، وعلى الرغم من مدى صعوبته لشاب في مثل سن شريف مفعم بالحيوية ويضج بالحياة، لم يسبب له مشاعر الخوف واليأس، بل أشعره فقط بالانزعاج من الوقت الجميل من حياته الذي قد يضيّعه في مكافحة المرض.» أعشق الحياة وأحبها بفرحها وسعادتها، وهذا بالنسبة إليّ هو العلاج الأكثر فاعلية للتغلّب على المرض. قد يدوم العلاج فترة طويلة، ولم أنزعج إلا لأنه سيعطّل حياتي ولن أتمكن خلال هذه الفترة من أن أعيشها كما أحب. لذلك أعتبرته مضيعة للوقت من دون أن أخشى الموت».
بداية التحدي بقرار الحياة أو الموت
منذ اللحظة التي عرف فيها شريف أنه مصاب بسرطان الدم، اتخذ قرار خوض التحدي ومواجهة المرض بكل قواه من دون تهاون.
فهو يعشق الحياة وكان يعلم جيداً أن اليأس والاستسلام سيقودانه إلى الموت. ومع اتخاذه هذا القرار، لجأ أولاً إلى حلق شعره كاملاً مما أثر فيه فراح يضحك وهو ينظر إلى نفسه في المرآة بمظهره الجديد. فبالنسبة اليه، كانت هذه خطوة مهمة لا بد من القيام بها ليستبق الأمور ولا تتغلب عليه مشاعر اليأس عند رؤية شعره يتساقط مع بدء مرحلة العلاج.
عن ذلك يقول شريف: «لم أشأ أن أؤمّن للمرض اللذة بأن يُسقط شعري. اشتريت قبعات مميزة تحمل معاني القوة والسلام لأنني أردت أن أشعر بالقوة في مواجهة المرض. وبعد يومين بدأت بالعلاج الكيماوي فيما اعتبرته مجرد مزاح ويمكن التغلب عليه بسهولة.
كنت أفكر بأنه مجرد دواء كباقي الأدوية. وكنت أضحك كثيراً لأعالج نفسي. كما كنت أعتمر القبّعات المميزة وأضع الوشاحات حتى لا أرى شفقة الناس التي يمكن أن تجعلني أضعف. فنظرة الناس إلينا هي التي تقوّينا أو تضعفنا، لكننا نحن بأنفسنا يمكن أن نحددها ونختار كيف يمكن ان تكون بحسب تصرفاتنا وحالتنا».
المزيد من القوة والتمسك بالحياة بفضل المحبين
مما لا شك فيه أن للمحيط دوراً مهماً دائماً في دعم المريض وجعله أكثر اندفاعاً في مواجهة المرض. وعلى الرغم من أن شريف كان قوياً منذ طفولته، إلا انه يعترف بأن الاشخاص الذين من حوله ومحبيّه مدّوه بالقوة، إضافة إلى معنوياته المرتفعة أصلاً.
فأفراد عائلته وأصدقاؤه وأحباؤه أعطوه سبباً إضافياً ليعيش ويتمسك بالحياة، ولولاهم لما كان هناك أي معنى لحياته، بحسب قوله. «عندما شعرت بمحبة كل من حولي، صرت اكثر تمسكاً بالحياة.
لا شك في أن العذابات كانت كثيرة خلال المرض، لكنني كنت سعيداً لأنني أظهر قوتي للجميع وأقوّي نفسي بذلك. فقد استمررت بالخروج والمرح كما هي عادتي حتى لا أتأثر بالمرض ولا أدعه يتغلّب عليّ. لكنني أعترف بأنني في مرحلة من المراحل شعرت بالتعب من كثرة الجهود التي كنت أقوم بها في مكافحتي للمرض وحتى لا أضعف أمامه.
لم أكن أهدأ وكنت أصر على متابعة حياتي بشكل طبيعي، وفيما زال ألم ساقي وكنت قوياً من الناحية النفسية، إلا أنني تعبت ثم بدأت ألاحظ ان قدراتي الفكرية تراجعت ولم أعد قادراً على التركيز، وقد أزعجني ذلك كثيراً. مرضت كثيراً لأن مناعتي كانت ضعيفة وقد دفعت ثمن إصراري على المواجهة بكل قواي غالياً حتى وصلت إلى حافة الموت مراراً.
رغم نصائح الأطباء الدائمة لي بأن أهدأ وأرتاح، كنت دائماً أصر على المرح والضحك والخروج ومتابعة حياتي وكأن شيئاً لم يكن حتى لا يتغلّب عليّ المرض، وهذا ما أتعبني أكثر».
إصرار على المواجهة رغم التحديات الصعبة
يذكر شريف من ضمن التحديات التي واجهته في مرحلة المرض يوم عانى نزفاً حاداً في يوم العيد، فأمكنه تحمّل حالته والألم حتى لا يفسد على العائلة فرحتها ليلة العيد. قرر عندها أن يؤجل استشارة الطبيب، وفي اليوم التالي توجهت العائلة إلى الجبل واستمر النزف بقوة.
بدأ التعب والإرهاق يغزوان ملامحه فيما بقيت الابتسامة على وجهه حتى لا يظهر للآخرين انزعاجه. لكن عندما ارتفعت حرارته إلى الـ 40 وانخفض مستوى ضغط الدم لديه بشكل كبير، ساءت حالته كثيراً. وبحسب الأطباء، لو تأخر شريف ساعات قليلة بعد لكان فارق الحياة.
أما المرة الثانية التي واجه فيها الموت فكانت عند إجرائه عملية زرع نقي العظام. فقد أُدخل عندها إلى المستشفى ووُضع في غرفة معزولة ليبقى فيها 40 يوماً.
خضع لعلاج كيماوي قوي يقضي على نقي العظام وتمت الاستعانة بمتبرع. عندها ظهرت صعوبات في تأمين المتبرع المناسب بما أن دم أفراد العائلة لم يكن مناسباً بنسبة 100 في المئة مما زاد الأمور تعقيداً.
إذ يجب أن يكون الدم متقارباً بنسبة 100 في المئة لرفع معدلات نجاح العملية، ولم يكن معتمداً الاستعانة بمتبرع يتقارب دمه مع المريض بنسبة 50 في المئة فقط إلا منذ فترة قصيرة ولا تعتبر النتيجة مضمونة.
ويقول شريف: «قررت المحاولة، وأُخذت الخلايا الجذعية من دم أخي (19 عاماً) وإن لم يكن دمه مطابقاً بنسبة 100 في المئة.
وصحيح ان نسبة الشفاء في هذه العملية الدقيقة هي 80 في المئة، إلا أن المشكلة تكمن في المضاعفات التي تحصل بعدها، خصوصاً أنها تتطلب خفض المناعة إلى أدنى المستويات. والمشكلة الكبرى ايضاً في أن دم المتبرع قد لا يتناسب مع دم المريض.
شخصياً، عانيت نوعين من المضاعفات الأكثر صعوبة التي تترافق معها. فبعدما خضعت للعملية وكنت سأخرج قريباً، شعرت بعدم الارتياح وأُصبت بعارض في الكليتين، فصار وزني يزيد 3 كيلوغرامات كل يوم وتسمّم دمي وشعرت وكأني سأموت، وقرأت أن نسبة الوفاة على أثر هذه الحالة هي 80 أو 90 في المئة.
تجمّع الماء في جسمي وكانت حالتي صعبة للغاية حتى أن الاطباء أنفسهم رأوا في شفائي معجزة أمام كثرة الحالات التي عاينوها. لكن قوة إرادتي ساعدتني مرة أخرى وأنا مقتنع بأنها اساسية للتغلب على المرض، إلى جانب الإيجابية والتفاؤل.
لذلك لم أفقد الامل ولو للحظة. بالنسبة إليّ، يكفي أن نترك وميض أمل في قلوبنا لنتمكن من تخطي أصعب الحالات. فعلى الرغم من ان احتمال شفائي لم يتخطّ الـ 10 في المئة حينها فقد شُفيت.
وحتى بعد هذه الحالة أُصبت مجدداً بمرض آخر مع مضاعفات صعبة وبقيت شهرين في المستشفى بدلاً من 40 يوماً، لكنني استمررت في الضحك والمُزاح وسماع الموسيقى.
كنت أنام وأحلم بالبحر والسماء فيدخل الفرح إلى قلبي وحياتي. كنت ألعب بالـPLAYSTATION مع العاملين في المستشفى لتمضية الوقت، حتى في الاوقات التي كنت أتألم فيها. ولكثرة الأمل الذي بقي في قلبي، كثر يقصدونني للاستفادة من هذه الإيجابية التي أتمتع بها.
أعترف بأنني في المرة الأخيرة التي مرضت فيها بعد العملية شعرت وكأن الموت قريب عندما أُصبت بـ»ذات الرئة» وكاد ذلك أن يقتلني مما هزّني بشدة وأثر فيّ... وكأنها كانت صفعة. شعرت بمدى ضعفي فقررت ان أتحرك وأنتفض لأنهض مجدداً فشُفيت خلال يومين وعرفت أهمية الإصرار والإرادة».
اليوم ... بعد رحلة مع المرض
صحيح أن الضحكة لم تفارق وجه شريف في أصعب لحظات المرض، إنما كأي مريض يواجه السرطان، من الطبيعي أن يذكر مرحلة ما قبل المرض وما بعده لما ينجم عنه من تغييرات لديه أو في حياته وشخصيته حتى.
فبحسب شريف: «قيمي في الحياة تغيّرت، وكذلك أولوياتي، فمنها ما ترسّخ أكثر فأكثر. اليوم لم يعد المال يعني لي أو يهمني. أكتفي بالقليل منه طبعاً، لكن يهمني أكثر أن أعطي. كل ما أرغب به اليوم هو ان أؤسس عائلة وأن نعيش حياة متواضعة وننعم بالصحة.
لطالما أحببت أن اساعد الآخرين، لكن حماستي لذلك زادت الآن أكثر من اي وقت مضى. احب العطاء ولو بضحكة وابتسامة فأُعطي الامل لمن أجلس معهم وأنشر الفرح حولي.
وأعتقد بأنني نجحت في مواجهة المرض أكثر لأنني كنت مقتنعاً بأن الموعد لم يحن بعد، وبأن الله يريد أن يبعث برسالة من خلالي لأساعد الآخرين... كنت اعرف أنني لن أموت وسأقف على قدميّ لأنشر الفرح والامل لدى الآخرين، وأُركز على دور الإيجابية في التغلب على المرض.
وها أنا أعمل حالياً على إطلاق جمعية Revive التي أؤسسها مع 5 أشخاص كانوا مصابين بالسرطان، وهدفنا تشجيع الآخرين ورفع معنوياتهم وتقوية إرادتهم.
نريد ان ننشر رسالة عن الجمال والحياة وتوعية الأهل بأهمية وجودهم في اللحظات الصعبة حتى يبقى المريض متمسكاً بالحياة ولا يفقد الأمل. أُلقي اليوم محاضرات حول تعليم الثقة بالنفس والاستمتاع بالحياة والاستفادة من كل لحظة منها والايجابية.
أساعد المرضى وأدعمهم من أطفال وراشدين وأُعزّز معنوياتهم ليتغلبوا على المرض».
كتاب محوره الأمل
أراد شريف أن ينشر رسالة الفرح والحياة والأمل فتترسخ في نفوس كثيرين، بكل ما يُتاح له من وسائل. لهذا أوجز قصته في كتاب I am living legend ومحوره الأمل والتفاؤل.
كتب قصته مع فلسفته في الحياة مشدداً على أهمية الحب والسعادة، فهي من العناصر الأساسية التي تعلّمها في رحلته مع المرض. لذلك يدعو في كتابه إلى الاستفادة من كل لحظة في الحياة وإلى العيش بسعادة قصوى... «كتبت قصتي بعد المرة الأخيرة التي مرضت فيها عندما شعرت أنني كدت أموت لولا إصراري. أردت أن أؤلّف كتاباً عن الإرادة وحب الحياة والإيجابية.
خلال 13 ساعة شعرت بوحي غريب ولم أتوقف للحظة عن الكتابة. تذكرت فيها معاناتي كلّها وضحكتي ومرحي والايام الحلوة وتلك الصعبة وكم تعلّمت منها.
كانت كل المعلومات موجودة لدي ولم أشأ إلا التعبير عنها. حتى أن الكتاب أتى بأقسام عدة وفصول تلقائية، لكنني طورته لاحقاً ودعّمته بأقوال لأشخاص اعتُبروا رموزاً للسلام والأمل والتفاؤل».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024