بين الأحكام المسبقة والنظرة الدونية...الافتقار إلى ثقافة تقبّل الآخر!
لا تزال، حتى يومنا هذا تهيمن النّظرة الدّونيّة إلى الآخر «المختلف» إلى أقصى الحدود، وتتجلّى بوضوح من خلال النّظرات المحيّرة وإطلاق الأحكام المسبقة وتفادي الاختلاط...
غالباً ما تقف الإعاقة الجسديّة حاجزاً في طريق تحقيق الأحلام، لا بل في نيل أبسط الحقوق، ألا وهو المعاملة بالمثل، فالبشر سواسية في الحقوق والواجبات، وإن اختلفت الطّاقات والقدرات!
بيد أننا في نهاية المطاف، ننفر من حيث ندري أو لا ندري، من «منظر» لا تألفه العين دوماً، أو «مشهد» يؤلم القلب ويؤنّب الضمير.
لقد خُلقنا مختلفين بعضنا عن بعض! ولو أنّ البشر متشابهون، لكان الكون مملاً للغاية! فالاختلاف في الشّكل الخارجي مجرّد شكليّات، ويبقى الأهمّ هو الجوهر. ولعلّ المثل المناسب الذي ينطبق في هذه الحالة هو «أتعرف فلاناً؟ نعم. «هل عاشرته؟ لا. إذاً، أنت لا تعرفه! «فالحكم المسبق على الشّخص بسبب شكله الخارجيّ والتّغاضي عن مضمونه، آفة منتشرة بكثرة في مجتمعاتنا التي تزعم المساواة والانفتاح والمنطقيّة والعقلانيّة، ولكنّها لا تمتّ إليها بصلة.
إنّ ذوي الإعاقات أو ذوي الاحتياجات الخاصّة يشكّلون قسماً من مجتمعاتنا، وهم بالتالي شركاء في الوطن، وما علينا سوى تعلّم «ثقافة تقبّل الآخر».
هذا الآخر الذي يتساوى معنا في الحقوق والواجبات، الآخر الذي يستطيع أن يكون عضواً منتجاً في المجتمع، الآخر الذي يتخطّى حاجز الإعاقة ويرى من المنظار الإيجابيّ...
تتحدّث الاختصاصيّة في علم الاجتماع ساندرا جبّور عن النظرة إلى الآخرين، ومدى تقبّل المجتمع للأشخاص المختلفين، وتشير إلى أبرز التحدّيات التي قد يواجهها من يعاني إعاقة معيّنة. وبدورها، تتطرّق الاختصاصيّة في علم التّربية رولا صدقة إلى أسس التربية السليمة والعوامل التي تؤثّر في تقبّل الآخر رغم اختلافه عنّا... كما نستعرض حالات إنسانيّة موجودة بيننا لنتعرّف على خبراتها في الانخراط في المجتمع.
تقبّل الآخر
لا يختلف اثنان على أهمية الشّكل الخارجيّ والدّور الإيجابيّ الذي يلعبه الانطباع الأوّل في تكوين العلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة. تقول جبّور: «كثيرة هي الأمور التي تحدّد حكمنا البدائيّ على الأشخاص منذ اللّقاء الأوّل، مثل الشّكل الخارجيّ وملامح الوجه ونظرات العينين، بالإضافة طبعاً إلى الصّوت والتصرّفات وطريقة اللّباس، مما يكوّن انطباعاً عن شخصيّة المرء ويُعرّف عنه باختصار. فلا شكّ في أن رؤية شخص «مختلف» من حيث معايير الشّكل المتعارف عليها إجمالاً، تخلق نوعاً من «الصّدمة» عند الآخر. إلاّ أنّ طريقة التّعاطي مع هذه «الصّدمة» هي ما يميّز النّاس عن بعضهم البعض. فصحيح أنّ الاختلاف خارجيّ، لكن ما على الشّخص إلا محاكاة المضمون والحكم على «الإنسان»، واكتشاف قدراته واختبار مؤهّلاته والاطّلاع على أوجه التّشابه في ما بينهما للوصول إلى نقطة تفاهم مشتركة، تُبنى على أساسها العلاقة الإنسانيّة المتساوية».
أما صدقة فترى أنّ «التّربية في البيت والبيئة الحاضنة والموروثات الاجتماعيّة والأفكار النمطيّة السّائدة والخبرات المكتسبة، من شأنها أن تحدّد بلا شكّ طريقة التّعامل مع الآخرين. إذ لا يمكن «اقتلاع» الشّخص من محيط ترعرع فيه ومن مفاهيم غُرست في عقله، وهي وليدة سنين من المقاربات الاجتماعيّة والنفسيّة». فالنّظرة إلى الآخرين، إيجابيّة كانت أو سلبيّة، متأتيّة من عناصر متشابكة، في محاولة لإيجاد قنوات تواصل إنسانيّ.
ردود فعل اجتماعيّة!
قلائل هم النّاس الذين يجرؤون على الاعتراف بعدم الرّاحة قرب الأشخاص المختلفين عنهم! ولعلّ ذلك يتعلّق بالطّبيعة البشريّة الهشّة والسطحيّة. تقول جبّور: «نصادف في حياتنا اليوميّة أناساً من مختلف الأشكال والسلوكيّات والآراء والمبادئ والانتماءات والمعتقدات والتقاليد، ونحاول التأقلم قدر المستطاع مع أوجه الاختلاف، والبحث عن النقاط المشتركة التي قد تجمعنا. وهذا في الحالات المثاليّة! أمّا واقع الحال، فغالباً ما يتجلّى في الشّفقة أو النّفور أو التسرّع في الحكم أو حتى الخوف. وفي الحالات القصوى، قد يصل بنا الأمر إلى التعصّب والعنصريّة وعدم الانفتاح في التّفكير والرغبة في الابتعاد». فمن حيث ندري أو لا ندري، تكون ردود فعلنا قاسية تجاه الأشخاص المختلفين عنّا شكلياً، من خلال تصرّفاتنا المتهوّرة أو نظراتنا السطحيّة أو أقوالنا الظّالمة أو أفعالنا القاسية. تُرجع صدقة هذه التصرّفات اللاعقلانيّة «إلى التأثّر بالمظهر الخارجيّ الذي يقف عائقاً أمام الانفتاح والحوار والمشاركة والمساعدة. فالتّفكير السّطحي يقودنا إلى أرجحيّة عدم تكافؤ الفرص، وإلى ربط الإعاقة الجسديّة بالإعاقة العقليّة في كلّ الأحوال، لأنّ الأحكام المسبقة والأفكار الرجعيّة والتصرّفات اللامنطقيّة، تُخضع الكلام للبراهين، وتؤكّد عدم المقدرة على تقبّل الاختلاف، وإن ظاهرياً».
وتضيف جبّور: «إنّ الأحكام المسبقة مجموعة آراء يبنيها الشّخص في غياب المعلومات الظّاهريّة أو الباطنيّة، أو حتى الممارسة العمليّة والفعليّة الكافية. فهي نتيجة موروثات اجتماعيّة وثقافيّة لم يطرأ عليها أيّ تغيير رغم مرور الزّمن. وغالباً ما تتجلى هذه الأحكام بالتّعميم المتسرّع».
قد يصعب على البعض تقبّل فكرة مصادقة شخص من بشرة ذات لون مختلف Colored Skin، أو شخص يضع الأوشام، أو الـpiercings على الوجه أو على الجسم، أو حتّى شخص على كرسيّ مدولب. فكيف بالحري إذا كان الاختلاف عيباً خلقياً أو تشوّهاً أو حالة مرضيّة أو حتى نتيجة حادث؟ فالأشخاص المكفوفون أو المقعدون أو الذّين يعانون التقزّم، وحتّى الذين يعانون تصبّغات داكنة في البشرة Pigmentations أو المصابون بالمهاق Albinism، غالباً ما يكونون «محطّ الأنظار» وإن بطريقة سلبيّة، من خلال نظرات تتفاوت بين الشّفقة أو الخوف أو التقزّز والانزعاج... لمجرّد الاختلاف في الشّكل! وهنا تتّضح ملامح الجهل الاجتماعي وعدم الانفتاح في التفكير واللاعقلانيّة في التّعامل، بحيث يتأثّر الفرد بالمظهر ويتوقف عنده ويتعامل مع الآخر على أساسه.
انعكاسات سلبيّة
تؤكد جبّور: «إزاء النّظرات الغريبة تلك، يشعر الشّخص المختلف بأنّه مُضطهد ومظلوم بسبب شكله فحسب، فيحسّ بالغبن وبعدم تقدير قدراته الفعليّة ومواهبه ومؤهّلاته، فيُصاب بالإحباط ويستسلم لفكرة التفرقة والنمطيّة السّائدة، ولا يعود ينسجم مع محيطه، بسبب عدم التّوافق الاجتماعيّ، ما يخلق نفوراً نفسياً من البيئة المحيطة به، ويؤدّي إلى حالات انعزال بسبب نظرة المجتمع السلبيّة والتحقيريّة وترجمتها بأبشع الطّرق الاستفزازيّة والسطحيّة».
وتضيف صدقة: «لا نستطيع التحكّم في طريقة تربية الآخرين أو حتى بالبيئة التي نشأوا فيها، لكنّنا نستطيع دمج الشّخص ذي الحالة الخاصّة، منذ الصّغر، في المدرسة والمجتمع، عبر تدارك حاجاته الخاصّة واحترام مشاعره ومراعاة وضعه الخاص، ليكبر متساوياً في الحقوق والواجبات، في مجتمع لا يميّز أو يفرّق ويضع الحواجز نصب الأعين. ذلك أنّ من المهم إيجاد قنوات تواصل لزيادة الرّوابط الاجتماعيّة وتشديد التّقارب بين مختلف فئات المجتمع الواحد. ويبدأ الأمر في البيت والمدرسة، مروراً بمكان العمل والمجتمع المصغّر، وصولاً إلى نطاق الوطن».
وتقول جبّور: «إنّ التشبّث بالأفكار النمطيّة والمفاهيم الرجعيّة من شأنه أن يخلق هوّة كبيرة في المجتمعات، وينعكس سلباً على الشّخص الذّي يكون بأمسّ الحاجة إلى تقبّل الآخرين له. فالاختلاف الجسديّ أو الإعاقة الجسديّة لا ترتبط مطلقاً بالإعاقة العقليّة ولا تحدّ من القدرات النفسيّة والإنتاجيّة والإبداعيّة والعلميّة والعمليّة للشخص، وإنما على العكس! إذ قد يتفوّق الشّخص «المختلف» في مجال معيّن، إذا لاقى الدّعم والتّشجيع». كما أنّ كلّ هذه الحالات ليست «أمراضاً مُعدية» يجب تجنّبها مخافة الإصابة بها! فلا بدّ من محاورة الشّخص والتقرّب منه والإصغاء اليه ومناقشته قبل الحكم عليه. ذلك أنّ الثّقافة والعلم، لا بل التميّز والإبداع حتى، ليسا حكراً على الأشخاص الذين يشبهوننا.
انتصار على الواقع!
إنّ قائمة الأبطال الذين رفضوا الاستسلام للواقع المرير طويلة، وإن كانوا غير مشهورين. ولكن نذكر على سبيل المثال بعض الأسماء المعروفة التي أبدعت في مجالات مختلفة رغم «الاختلاف» أو المرض أو الإعاقة: فالفنان العالميّ ستيفي واندر كان أعمى ولا يزال صيته ذائعاً حتّى يومنا هذا في مجال الغناء والإحساس المرهف. كما أنّ الطّبيب اللبنانيّ جميل زغيب الذّي يعاني مرض تصلّب الشّرايين ما زال مصّراً على محاربة المرض عبر مزاولة مهنته وتأليف الرّوايات رغم حالته الصّعبة. والشّاب الرياضي مايكل حدّاد تحدّى إصابته بالشّلل النّصفي وهو يتسلّق الجبال لنشر الوعي بين الرأي العام... فكلّ واحد منا يعاني نقصاً في مكان ما أو اختلافاً معيّناً. لكنّ سر النّجاح هو الإيمان بالقدرات والاندماج مع الآخرين والشعور بالاستقلاليّة والمسؤوليّة في آنٍ معاً.
أمّا الذين يعانون إعاقات عقليّة أو أمراضاً خلقيّة تؤثّر فيهم، فهم أيضاً قادرون على الإنتاج، على طريقتهم الخاصة. فغالباً ما نلاحظ إبداعاتهم في المجالات الحرفيّة والفنيّة، وهم قادرون على العيش بتناغم داخل المجتمع، مع أفراد عائلاتهم أو في مؤسّسات خاصة ترعاهم وتنمّي قدراتهم وتُصقل مواهبهم.
وتشدّد جبّور على «ضرورة التّوعية المستدامة لتكون ردود الفعل مضبوطة والتعابير لبقة والنظرات محترمة. إذ يكفي الشّخص المختلف التحديات اليوميّة التي عليه أن يخوضها ليعيش، فلا داعي لزيادة «الطّين بلّة» والتسرّع في الحكم والتّعميم بأنّ «التخلّف» هو مصدر الاختلاف في الشّكل».
ياسمينا حدّاد شابّة في الثّامنة والعشرين من العمر، تعاني مشكلة التقزّم Dwarfism. أنهت دراستها الجامعيّة وحازت شهادة في علم النفس التربوي Educational Psychology وتعيش حياتها الطبيعيّة مع أهلها ورفاقها في المجتمع، كما تساعد أهلها في إدارة مؤسّستهم. تؤكّد ياسمينا أنها تمارس مختلف نشاطاتها وهواياتها المتعدّدة مثل السّباحة والتّصوير، بالإضافة إلى العمل التطوّعي والانخراط في الجمعيّات غير الحكوميّة. كما تحبّ التمثيل كثيراً والسّهر مع الأصدقاء. تقول إنّها متصالحة مع وضعها، ولا ترى ما يثير الرّيبة في الأمر، فقد اعتادت النّظرات المستغرِبة، وخاصة من الصّغار والغرباء. إذ تتفاوت ردود الفعل للوهلة الأولى بين الدّهشة أو البكاء أو حتى الضّحك والإشارة بالإصبع. تحبّ أن يتعرّف اليها الناس ليعرفوا أنّ الاختلاف هو فقط في المظهر، في الطّول وشكل الرّأس. تعيش ياسمينا حياتها الطبيعيّة مع أصدقائها «العاديين» وتشجّع الذّين يعانون التقزّم على التّواصل مع الآخرين، وهي ناشطة في هذا المجال عبر مختلف وسائل التواصل والإعلام. وتشير إلى أنّ الصّعوبة الوحيدة التي قد تواجهها هي في بلوغ غرض عالٍ مثلاً، أو حمل شيء ثقيل أو محاولة القيادة... لكنها أمور سطحيّة. تحزن للوضع الاجتماعيّ المتخلّف الذي قد يمنع أصدقاءها من الانخراط في سوق العمل بسبب نظرة الناس الفضولية، وتقول: «الدّنيا ليست بالطّول بل بالعقل!»
سميرة أنطون سيّدة في الخمسين من العمر، وقد عانت مرضاً في صغرها أثّر في نموّها العقليّ وأبطأ حركتها بعض الشّيء. لها خمسة إخوة وأخوات، وتتنقّل ما بين بيتها ومؤسّسة خاصّة تُعنى بحاجاتها. لكنّها متفائلة على الدّوام وفرحة ونشيطة في العمل. تقول إنها تحبّ اللّعب مع أبناء إخوتها والأطفال عموماً وتساعد في الأعمال المنزليّة، كما تهوى العمل الحرفيّ وتبرع في الغناء والرّقص. من جهة أخرى، يؤكّد إخوتها إنها، على غرار أيّ شخص آخر، قادرة على القيام بمختلف المهام البسيطة وقضاء حاجاتها اليوميّة وما زالت تتمتّع بحقوقها المدنيّة كمواطنة عادية متساوية معهم. لكنّهم ينزعجون من النّظرات الظّالمة والتّسميات الخاطئة. فهي لا تشكّل خطراً على أحد وتفهم كل ما يُقال لها وتنفّذ الأوامر. يشيرون إلى أنّ ذاكرتها قويّة للغاية ولا تنسى شيئاً، كما أنها قادرة على التنقّل بين النّاس بلا إزعاج أو مُداراة خاصة. يُجمع المحيطون بها على حبّها للحياة وابتسامتها الدّائمة ويتفاءلون خيراً بوجودها، كما يستمتع أطفالهم باللّعب والغناء معها. وأمّا الغرباء، فقد يُدهشون بداية ويرتبكون من وجودها، لكنهم سرعان ما يتعرّفون اليها ويلمسون طيبة قلبها ويفهمون أنّها مختلفة بعض الشّيء ولكنها في النّهاية إنسان مثلهم وعندها مشاعر وأحاسيس وحسّ إداركيّ.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024