الشاعرة ندى الحاج: ليس بالضرورة أن تكون ابنة الشاعر شاعرة
تكتب الشاعرة ندى الحاج القصيدة وتعيش ما تكتبه. الشعر هو كل حياتها. وفي قصيدتها يكمن سر البوح، وسر العاطفة والحب. شاعرة تكتب بكل جوارحها من أجل انعاش الوعي الشعري في داخلها وفي محيطها. تواصل نشاطها الشعري، وتبقى الكتابة هدفها الجميل، وملعبها الواسع الذي تتحرك في داخله ولا تريد الخروج منه مهما كلّف من وقت وشعور وانتظار.
ندى أنسي الحاج، ابنة الشاعر الراحل أنسي الحاج، تقول: «ليس بالضرورة أن تكون ابنة الشاعر شاعرة»، وتتحدث الى مجلة «لها» عن شجونها وولعها بالشعر، وتحضر ذكرى الغائب الشاعر أنسي الحاج في كلامها، فماذا تقول؟
- الشاعرة ندى أنسي الحاج، ابنة الشاعر الراحل أنسي الحاج، هل ابنة الشاعر شاعرة بالضرورة؟
ليس بالضرورة أن تكون ابنة الشاعر شاعرة. عندما كتبتُ قصيدتي الأولى في السابعة من عمري، لم يكن دافعي تقليد والدي، إنما أحسستُ بحاجة ماسّة الى الكتابة ملبيّةً رغبة قوية في داخلي. استمراري في الكتابة منذ الصغر حتى اليوم يعكس رحلتي ورجائي، وأنا في بحث دائم عن المعنى والطريق.
- كيف بدأتِ مع الشعر... وما هي العوامل أو الظروف التي أوصلتك الى الشعر والقصيدة؟
هناك عوامل عدة تداخلت لتجعل مني الإنسانة الشاعرة التي تكتب اليوم وتعيش ما تكتب. كلنا نعرف مدى تأثير الجو العائلي في تكوين الطفل، فكيف إذا تربّى في بيئة ثقافية ومسرحية وشعرية؟ والدتي ليلى الحاج كانت من أوائل الذين انتسبوا إلى مدرسة فرقة المسرح الحديث للمخرج منير أبو دبس في بيروت في ستينات القرن الماضي، وكانت تصطحبني معها في تجوالها عبر المحافظات اللبنانية خلال تقديم العروض وأنا لا أزال طفلة. وقد أُغرمتُ بأجواء المسرح الكلاسيكي المترجَم إلى اللغة العربية الفصحى، وكان والدي قد ترجم بعض تلك المسرحيات التي اشترك في تقديمها أهم الممثلين المبدعين الذين أسسوا للمسرح الجدّي في لبنان. كما كانت والدتي تحب الشعر وتقرأه لي في تلك المرحلة من طفولتي، وكنت بدوري أحوّل منزلنا إلى ديكور مسرحي أقدّم في إطاره نصوصاً من كتابتي أمام والدتي عند عودتها من مدرسة المسرح وأرقص الباليه على أنغام الموسيقى الكلاسيكية. هكذا تكوّنت شخصيتي وتكثّفت مشاعري وتحفّزَت ميولي نحو الكتابة والموسيقى والمسرح.
- كيف أثّر والدك الشاعر في نصك الشعري... وهل حاولتِ الإفلات من هذا التأثير؟
لم يؤثّر والدي في نصي الشعري مباشرة بل بأسلوب غير مباشر من حيث إنني تشرّبتُ أجواءه وتغذّيتُ من حضوره. كما تقصّد والدي ألا يؤثّر في أسلوبي الكتابي ولا حتى في شخصيتي بشكل عام، خصوصاً أنه يحترم فرديتي واستقلاليتي. كان يكفيني ذلك الخيط السحري الذي يربطني به، وتلك النظرة التي يغلّف بها أوراقي.
- هل ترين أنك تكملين ما كتبه والدك، بمعنى أن هناك الكثير مما كان سيكتبه؟
لا أكمل ما كتبه أبي. فالشعر لا يتمّ توارثه، ولا سيّما أنه وليد الحرية، يعكس فرادة كاتبه وأصالة تجربته، وهو ليس مهنة يتم تداولها بالوراثة. كل شاعر يحمل بصماته الخاصة به والتي يكتب من خلالها فصول حكايته ونظرته إلى الحياة والكون. لكن بما أنني شاعرة فمن الطبيعي أن أكون امتداداً لوالدي الشاعر مع اختلافي عنه ونقاط التقائي به في بعض النواحي الشخصية والفكرية والشعرية.
- كيف تفسرين معنى الشعر في حياتك. ولماذا تكتبين؟
الشعر بالنسبة إليّ هو حياتي الداخلية والوجه الحقيقي لمكامن روحي التي تبحث عن المعنى وتحفر في الوجدان تائقةً إلى الماورائيات في رحلة صوفية عميقة. كتابتي للقصيدة هي لقاء الوعي باللاوعي في نقطة العين الثالثة، هي نفاذ البصيرة في الكلمات ومنها، وتزاوج المجهول والمعلوم في رحلة وجودية نحو الله... هي انصهار الآفاق الأفقية والعمودية بألوان قوس قزح.
- كيف يمكن اختصار تجربتك الشعرية، وما هي القضية أو الحالة أو الهدف الذي قادك لكتابة القصيدة؟
الشعر يحمل قضيته في ذاته. هو يختصر الإنسان وما يدور حواليه وفي الأفلاك وما وراءها. لم أحدد هدفاً أكتب من أجله الشعر، ولم أختر أن أكون شاعرة. الشعر هو الذي اختارني ويملي عليّ نفَسه ويحملني بين جناحيه كي أحلّق إلى أبعد ما يمكن نحو الفضاءات الشاسعة لأكتشفها وأكتشف ذاتي. هو مرآتي وكينونتي.
- هل يمكن شعر المرأة أن يكون أكثر شفافية من شعر الرجل؟ أقصد هل الأنوثة في الشعر تتقدم على الذكورة؟
الشفافية عنصر أساس في الشعر كما في كل أنواع الإبداع. لا أفرّق بين شعر المرأة وشعر الرجل. الشعر واحدٌ، وجوهره الإنسان الذي يختزن الذكورة والأنوثة معاً، الفراغ والامتلاء، المعنى والمبنى، الإيجابي والسلبي، البحر والصحراء، الأرض والسماء، وكل ما في الكون من مرئي وغير مرئي. الشاعر يختزن العناصر ويخترقها بكيانه العابر للزمن.
- متى تكتبين، وما هي طقوس الكتابة لديك؟
أكتب عندما أكون حاضرة لوليمة اللقاء مع الذات، حين تنضج فيها التجربة وتركن إليها الكلمات المتأهّبة لدهشة الاكتشاف. الطقس الوحيد للكتابة لديّ هو الاختمار والعزلة الضروريان للصفاء والإصغاء الكامل الى خلجات الروح والقلب الحَرّى. غالباً ما يكون الليل نديمي والسكون منزلي لأستقبل حضرة الشعر.
- في العودة الى ذكرى الراحل والدك، كيف تتعاملين مع هذه الذكرى التي يقترب موعدها؟
تصادف ذكرى رحيل والدي في 18 شباط/فبراير، وقد توفي عام 2014. هو لا يغيب لحظة عن حياتي كي أتذكّره، بل يرافقني في كل نفَس فأكلّمه في صمتي وفي ضجيج الحياة وهو بالتأكيد يسمعني. كان صديقي وقد ترك أثراً عميقاً في كل من عرفه وعايشه وقرأه وسمعه، فكيف لي أن أنسى كل ما عشته معه منذ أن وُلدت، مروراً بهذه اللحظة وإلى الأبد.
- خسارة الأب بالنسبة الى الابن لا تعوض وتترك أثراً بالغاً في النفس... فكيف اذا كان الأب شاعراً وتفتقده الشاعرة ابنته. كيف تقرئين هذا الغياب، أو هذه الخسارة الكبرى؟
بالطبع، الخسارة كبيرة ككل فقدان يصيب أي ابن أو ابنة بغياب الأب. شعرتُ بأن والدي رحل باكراً وكان لا يزال في عزّ عطائه وغزارة قلمه المتجدّد وحكمته المتوقّدة. لكنه ترك الكثير للأجيال القادمة بعد عطاء أدبي امتد إلى أكثر من خمسين عاماً، فتح خلالها آفاقاً ثقافية واسعة ستحفر بصماتها المبدعة في لوحة الزمن بلا عودة. أنسي الحاج رؤيوي تخطّى حدود الزمان والمكان. أما أنا فلا أؤمن بالموت على أنه نهاية، بل هو باب يُقفَل في عالم المحسوس ليُفتَح من كوّة الغياب على مساحة المطلَق. أنسي لا يزال أباً لابنة تفتقده كثيراً وتدرك أنه منارة أدبية وشعرية لن تنطفئ أبداً.
- ماذا تفعلين لحفظ تراث الوالد، هل من أعمال ونشاطات معينة لتكريمه في غيابه؟
تراث والدي كبير وغنيّ. بعد رحيله وتسليم بيتنا المستأجَر الى أصحابه - هذا البيت الذي تربيتُ فيه مع شقيقي - حرصتُ على أن أحافظ على مكتبته التي كانت أعزّ ما يملك، وعلى أغراضه الشخصية وأوراقه ومسوداته. كما أنني جمعتُ كتاباته التي كان ينوي نشرها قبل رحيله وأصدرتها في كتاب بعنوان «كان هذا سهواً» عن دار نوفل، وذلك في ذكرى غيابه الثانية عام 2016. وقد أطلقنا الكتاب في مسرح المدينة في بيروت باسم مؤسسة أنسي الحاج التي أنشأتُها مع شقيقي لويس. كما أصدرنا «سي دي» بعنوان «أنسي الحاج يكتب ويقرأ» يتضمّن قصائد لوالدي مختارة من كتبه يقرأها ممثلون محترفون إلى جانب والدي الذي قرأ بصوته أيضاً. والـ«سي دي» من إنتاج موزار شاهين.
أحلم بمركز ثقافي صغير يحمل اسم أنسي الحاج ويحوي مكتبته وأغراضه الشخصية ومجموعة اللوحات التشكيلية التي كان يحيط نفسه بها. مركز يستقبل محبّي الشاعر ضمن إطار تفاعلي شعري وثقافي يحيي الزمن الجميل ويروي عطش التائقين إلى أدب أنسي الحاج. هذا وقد صدرت بعد رحيله الكتب والدراسات والترجمات التي تتناول شعره، ونحن في انتظار المزيد. كما تنوي المؤسسة إعادة نشر كتبه السابقة لتلبّي حاجة المريدين الذين يبحثون عنها. وقد أعمل على إصدار مقالات ونصوص أدبية قديمة له ونشرها في كتب عدّة. قامت جهات ثقافية متنوعة بتكريمه، مع العلم أن الدعم المعنوي واللوجستي يجب أن يصدر من الدولة، التي يُفترَض بها أن تُخلّد مبدعيها بالحفاظ على ذكراهم حيّةً وتنشيط أعمالهم بالتحفيز على إبقاء الشعلة مستعِرة.
- كيف تفسرين الحب وتتعاملين معه بعد تجربتك في الحياة والشعر، وخصوصاً بعد غياب شاعر الحب أنسي الحاج؟
الحُب لا يُفسَّر، وهو الذي يجرفني ويَهديني! الحب سرّ من أسرار الوجود، وهو يتكفّل بتطويرنا ويعلّمنا اكتشاف كنه الحياة. لماذا نولد ونكبر ونموت إن لم يكن الهدف هو الحب؟ قد نشقى ونسعد بسببه، ولكن تخطّي الذات في الحالتين هو الذي يرتقي بنا الى درجات الوعي العليا وليس التعلّق بظواهر الأمور. الحب يحوِّل الباطن ظاهراً والظاهر باطناً فيخلق إنساناً جديداً لا يلبث أن يتخطّى نفسه في كل مرّة ليلامس حريته الداخلية، ألا وهي جوهر كيانه. علّمتني التجربة أن الحب الحقيقي هو الذي يتخلّى عن أنانيته الضيقة ليرفرف في فضاءات أرحب.-
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | تشرين الثاني 2024