بين بعثية 'تحت رمال بابل' وعبثية 'سطوح' الجزائر لغز دفين ولغة سينمائية رفيعة
جلست إلى جانب الناقد الفني المصري طارق الشناوي في الليلة الختامية أو "ليلة النتائج" في مهرجان أبو ظبي السينمائي، الدورة السابعة. سألته : "ما أجمل فيلم شاهدته في المهرجان هذا العام ؟" أجاب فوراً : "أجمل الأفلام لم تصوّر بعد، كذلك أسوأها". باقة أفلام وعروض كثيفة ومتداخلة. دخلت في إحدى المرات إلى الصالة متأخرة ودون بطاقة وسط العتمة لمشاهدة فيلم بعنوان The Double. طوال الفيلم كنت أحاول مُطابقة هذا العنوان مع الأحداث. لكنني فشلت واتضح لاحقاً بأنني دخلتُ صالة أخرى وكنت أتابع فيلم "رصيف أورسيه". رغم أنني كنت سأقتنع لو أن عنوان Double The- قبل إعلان فوز بطله بجائزة أفضل ممثل - كان لفيلم Enemy الذي عرض ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة. الفيلم ثري بالنجوم، جاك غالينهال بدور أستاذ التاريخ عن الفوضى والديكتاتوريات الذي يلقى شبيهه إلى جانب ميلاني لوران وإيزابيلا روسيليني. وهذا الفيلم العميق بالفعل وبالصدفة مقتبس عن رواية بعنوان The Double لخوسيه ساراماغو. خرجت من هذا الفيلم بحكمة أفلام المهرجان : "الفوضى هي نظام لم يعرف لغزه" ...
"لمسة خطيئة" تنتزع اللؤلؤة السوداء
بعيداً عن سينما المرأة والإثارة والتشويق والسلاح التي اعتادها المشاهد العربي، تنافست أفلام روائية ووثائقية، عربية وغير عربية من الصين والهند والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والأرجنتين والفيليبين ... انتزع الفيلم الصيني "لمسة الخطيئة" جائزة اللؤلؤة السوداء في المهرجان عن فئة الأفلام الروائية الطويلة، عن الإستئثار "غير البشري" والثأر الأحمر. أما أفضل مخرج وفيلم من العالم العربي عن الفئة نفسها، فلا يخلوان من الدم والانتقام ...
مرزاق علواش البعد الجسدي عن الهاوية
عنون مدير المهرجان علي الجابري كلمته الإفتتاحية ب"مسيرة متصاعدة وارتقاء إلى الأعلى". بينما القمة التي نظر إليها المخرج الجزائري مرزاق علواش كانت فيض الفوضى. ارتفع الحضيض وتفاقمت جرعة المعاناة، تنامت العشوائية حتى طافت على "سطوح" جزائرية من "حي السيدة الأفريقية" إلى "حي بلكور" و"حي باب الواد" ...
من منظار سوداوي وقاتم، تناول علواش - الذي نال جائزة مجلة "فارايتي" هذه الدورة - الحياة غير المؤهلة للعيش في وطنه الأم من خلال فيلمه الروائي الطويل "السطوح". تعرّض للنقد اللاذع بعد عرض فيلمه لكنه أشار إلى أنه ليس مسؤولاً لدى وزارة السياحة لكشف مواقع غير مشوّهة. لم تنزل كاميرته الأرض إلاّ نادراً، بل ارتفع إلى 5 سطوح جزائرية تدور فيها قصصاً مثيرة للذعر والإشمئزاز متعلقة بتجار الدين والصراع العائلي والقيَمي القمعي. لكن مقابلته بين العشوائية الحياتية والثوابت الدينية كالصلوات الخمس كانت مرفوضة جداً... وإن أقامها رئيس تنظيم سياسي ديني يدعو إلى "الجهاد" أو التزم بها "شيخ" يبدي نفوره الشديد من صور عارية فيما يدخل إلى منزله امرأة متزوجة يعالجها من المس بلمساته. ومع ذلك، نال علواش جائزة أفضل مخرج. ولعل عبارة "ما يتحابوش" على لسان فرقة تعزف على أحد سطوحه كانت نغمة الحياة الجزائرية على إيقاع القتل والعنف والانتحار الذي يشكل البعد الجسدي عن الهاوية. الهاوية التي أرتآها علواش من الأعلى. وإن كان فيلم عربي آخر قد حاكى العشوائيات المعيشية، فهو حتماً "فرش وغطا" لمخرج "مايكروفون"، المصري أحمد عبدالله الذي تنافس مع علواش عن الفئة نفسها.
أحمد عبدالله وإعادة التدوير
يفترض أن هذا الفيلم يسرد مشوار سجين سابق لم تتضح تهمته. إنها البطولة السينمائية المطلقة للممثل المصري آسر ياسين. يؤدي دور "السجين المصري" دون اسم كسائر الممثلين. لا حوارات بارزة في الفيلم بل أناشيد صوفية، بل تتنقل الكاميرا في أحياء القاهرة الشعبية مواكبة خطوات سجين بات طليقاً إثر الهجمات التي تعرّضت لها السجون في مصر بداية اندلاع ثورة 25 يناير 2011 حتى موته في "عزبة الزبالين" بطلقة نار طائشة. ولعل الفيلم بعينه كان بحاجة إلى عملية تدوير حقيقية للحس ّ التسجيلي غير المتناغم مع الروائي لكي لا يخرج هو وأبطاله من المهرجان بخفي حنين. لقد كتب الكثير عن الموت المجاني للبطل، هذه العبارة التي تتردّد كثيراً أخيراً في المشهد العربي. فهل من موت مجاني فعلاً وحالة وفاة إن سنحت الفرصة ؟ من يحدّد ؟ هل كان المواطن المصري - الذي وثق المصري شريف القطشة موته دهساً في فيلمه الوثائقي "القيادة في القاهرة" (حصد جائزة أفضل فيلم عربي) - مجانياً ؟ هل أصبحنا نعيش لحظات مجانية إلى هذه الدرجة فعلاً ؟ إنها العشوائية المنظمة التي برزت بشكل صارخ وصامت في أفلام المهرجان هذه الدورة.
فيلم مصري آخر أو تجربة روائية أولى تألقت في فئة "آفاق جديدة"، بجائزة ودونها بوجود الممثل المصري خالد أبو النجا والنجمة القديرة لبلبة في فيلم "فيلا 69" والمهرجان. فاز هذا الفيلم للمخرجة المصرية أيتن أمين بجائزة لجنة التحكيم الخاصة لفيلم من العالم العربي.
"الإنتفاضة العراقية" 1991 ورصاصة غير طائشة
عاد "إبن بابل" مجدداً ليكشف المزيد عن مرحلة مهمة من تاريخ العراق الحديث، ولينهي فيلمه بموت بطل عراقي آخر أحيا ذكراه برؤيته الإخراجية. هذا لقب المخرج العراقي محمد جبارة الدراجي الذي يُعرف بأنه لا يشارك في مسابقة مهرجان سينمائي دون أن يحقق فوزاً. قد يكون مفاجئاً لمكانة الفيلم العربي الفنية العالمية ومنتظراً في آن واحد، لكنه فوز في النهاية لما أراد بثه من رسائل قد تكون مغلفة بأحداث الأمس لكن ناطقة بلسان سلطوية الحاضر. فكما يقال "وحدهُ الرجل الميت من شهد نهاية الحرب" أو نهاية حكم الديكتاتور. يعتبر فيلمه "تحت رمال بابل" (أفضل فيلم روائي طويل لهذه الدورة) امتداداً زمنياً سابقاً لفيلمه "ابن بابل" حيث تبحث الأم العراقية عن ابنها "ابراهيم" في المقابر الجماعية بصحبة حفيدها "أحمد". بعد أربع سنوات، أحضر الدراجي الإجابة إلى المشهد السينمائي وكشف مصير الإبن الذي تعتقله وحدة في الجيش العراقي بعد انسحابها من الكويت عام 1991، وهو في طريق العودة إلى الوطن والعائلة. بين التسجيل الروائي والوثائقي، قصّ الدراجي الحكاية العراقية المؤلمة مجدداً بصوته أحياناً وشهادات أحياء الإنتفاضة العراقية الدفينة حتى الصمت الأخير الناتج عن رصاصة غير طائشة في حفرة نبشها الأبطال لأنفسهم كعقاب لمن يجرؤ على الحرية أو الحياة أو يضلّ طريقاً عاد منه "القائد المجيد" مهزوماً.
فيلمان من كردستان العراق
تحت إدارة المخرج الكردي هينر سليم مجدداً، تألقت الممثلة الإيرانية المثيرة للجدل غولشيفتي فاراهاني في فيلم My Sweet Pepper Land بدور المُدرّسة عازفة الهانغ. في كردستان العراق تدور القصة. تحاول المعلمة غوفند التصدي للرجعية في منطقة يساوي فيها الذكر والأثنى عشرة أطفال فقط لا معادلة واحد + واحد = 2. الرجعية التي كادت تقتلها على يد أشقائها لرفضها أن تكون تحت وصايتهم الذكورية ونزعتها الإنسانية لتحيا بحرية وتلقى حبها غير آبهة بسنها بل بدقات قلبها. حصد هذا الفيلم جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فئة الأفلام الروائية الطويلة. أما المخرج هشام زمان، فلم يخلو فيلمه من جريمة الشرف في "قبل سقوط الثلج". "فيلم طريق" عراقي آخر ب"آفاق جديدة" استحق جائزة أفضل فيلم في العالم العربي.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024