الشاعر محمد علي شمس الدين: تغيرت النظرة إلى الشعر مع اختلاف الأزمنة والأمكنة
يكتب الشاعر محمد علي شمس الدين القصيدة الهادئة، المشحونة بتفاعلات الحب والموت. قصيدة تأخذ كاتبها إلى مساحة القلق والطمأنينة، وتجعله يسير على خطى قلقة أكثر. يسير بينهما الشاعر بخطى الحروف والكلمات، ويتمسّك بالقصيدة، أو يدخل إلى واحتها ومنازلها الكثيرة، يتجوّل، يجلس ويمشي ويقعد، ويرى ما يريد من ذاته ومن العالم. قصيدته بمثابة المنزل المتكامل يكتبها، يسعى من خلالها إلى صوغ إقامته الدائمة. فماذا يقول الشاعر عن قصيدته وعن الشعر والحياة والمعنى الذي يؤسّس لحضور الحياة نفسها؟
- كيف تعرّف نفسك اليوم بعد تجربتك الشعرية، هل تغيّر التعريف، أم أنّك ما زلت في زمنك الذي رسم التعريف الثابت؟
لم يتغيّر التعريف، فالشاعر من أيّام الكهوف إلى عصر الإنترنت هو هو، الكائن البشريّ الذي يتفاعل مع الوجود بطريقة شعريّة ويكتب تفاعله بنصوص من اللغة تنطوي على التشبيه والاستعارة والرمز أكثر ممّا تنقل الواقع بموضوعيّته، فالشعر هو طريقة لقول الحقيقة تعتمد على اللمح والإشارة والمفاجأة، وهي تختلف عن طريقة المؤرّخ أو الفيلسوف أو الرياضيّ أو الروائي إلخ... كنت أتلقّى الوجود بطريقة شعريّة وما زلت أتلقاه هكذا. ما تغيّر هو الكتابة.
ربّما تغيّرت النظرة إلى الشعر مع اختلاف الأزمنة والأمكنة ومع التطوّر الثقافيّ ومع اقتحام التكنولوجيا حقول الحياة الحديثة، فكان الأقدمون على العموم، بخاصّة اليونان ومن ثمّ العرب ينظرون إلى الشعر على أنّه وليد السحر، وكان الشاعر في الجاهليّة يتّخذ زيّاً غرائبيّاً حين إلقائه قصيدته، كما يذكر كارل بروكلمان في كتابه «تاريخ الأدب العربي»، ويموج بصوته ويجعل هذا الصوت يمتدّ في المدى الصحراويّ، ولذلك ورد في القرآن الكريم ذكر كلمة «الهيام» (ألم تر أنّهم في كلّ وادٍ يهيمون)، يقصد الشعراء. الهيام في كل وادٍ معناه اتّباع الخيالات والأوهام والأساطير. كذلك الإغريقُ في العصور القديمة اعتبروا أنّ للشعر مُلهمه. مع التطوّر الحضاريّ بقي التعريف الكلاسيكي للشعر على أّنه هو وليد المحاكاة والوزن، وهذا هو تعريف أرسطو له، وكذلك تعريف ابن سينا والفارابي، وهما متأثّران بالنّظرة الفلسفيّة لأرسطو. الإضافة الجديدة مع العصور الحديثة ومنذ بودلير اعتبار الإيقاع الشعريّ المنتظم في الوزن غير ضروري واستُبدلت به الإيقاعات النثريّة حين طرح سؤالاً هو: هل يمكن اشتقاق قصيدة من النثر؟ الأمر الذي أدّى إلى وجود قصيدة النثر ورواجها حتى الآن. شخصيّاً، أرى أنّ الشعر هو جميع أشكاله وأنّه بثّ روح الإيقاع في كتلة اللغة، والإيقاع الذي أقصده يأتي الوزن كجزء منه لأنّه أشمل من الوزن وأعمق وأكثر غموضاً، يكاد الإيقاع في تعريفاته يكون مرتبطاً بميتافيزيق الحالة أو هو موسيقى المعنى، ويتغيّر تبعاً لأشكال القصائد. فليس ثمّة إيقاع واحد للشعر، وهو يتأثّر بتطوّر المدينة وتطوّر العلوم والتقنيّات واكتساب اللغة تعابير وأحوالاً جديدة ورموزاً وعلامات تزداد وتتغيّر يوماً بعد يوم.
- وهل تغيّر أو تحوّل تعريف الشعر برأيك؟ هل يخضع الشعر لتعريف محدّد وثابت؟
إنّ تعريفي للشعر هو التالي: الشعر جرح من أقدم جروح الغيب.
جرح لأنّه «كلمة»، و«كلم» في ابن منظور تعني: جرح من أقدم، يعني أنه قديم بقدم الإنسان، تجد الشعر محفوراً في الكهوف القديمة وفي رُقَم الطين وفي الملاحم. وهو موجود في أغاني القبائل البدائيّة.
وهذا التعريف ينقل الشعر من حيّز الفهم النّقدي المدرسي إلى حيّز ميتامدرسي، أي يلامس حقيقة الشعر ولا يتوقّف عند ظاهره أو شكله. إنّ كلّ صفات القصيدة التي ذكرها ابن الأثير وحازم القرطجني وعبدالقاهر الجرجاني في «أسرار الإعجاز» يمكن أن تلحق بنصّ نثريّ أو قصيدة موزونة، بمعنى أنّ الوزن وحده غير كافٍ لتحديد الشعر، وهذا ما قاله القدماء أيضاً، حتّى أنّ الخروج على الأوزان مارسه شعراء فُحول عرب، ممّا دعا شاعراً متواضعاً كأبي العتاهية إلى أن يقول اتجاه ما سُئل عنه حول أوزان ابتكرها أو إيقاعات أضافها: قال أنا أكبر من العروض، ونسب ما يفعله إلى ما يصغي إليه من أصوات غريبة قد تكون بعض أصوات الجنّ أو الغيب.
يعرّف فريد الدين العطار النيسابوري العشق بأنّه الجنون في القلب، وأنا أستطيع أن أقول إنّ الشعر هو الجنون في اللغة، في ما هي كما يقول هايدغر: بيت الكائن.
- سؤال مكرّر لكنّه متجدّد: لماذا تكتب؟
أكتب لكي أحقّق كينونتي لأنّني أحسّ بأنّني من دون الكتابة كائن هامشيّ أو تقريباً لا شيء. كتابتي هي وجودي.
ذلك أنّه حين بدأ وعيي يتكوّن، وبدأ الطفل يغدو فتىً، كانت ثمّة أصوات تتردّد في أذني مثل أصوات الريح والمطر والطيور والحيوانات، وكان أيضاً صوت المؤذّن يجرح الفجر، ما جعلني أختزن هذه الأصوات كما أختزن مشاهد كثيرة من أحوال الطبيعة كسقوط ورقة من الشجرة على الأرض ونموّ ثمرة ومشاهد الغيوم وهي تتحرّك والخِراف وهي تثغو، كنت أشبه ما يكون بقيثارة وتعزف عليّ هذه الأشياء، وحين بدأ وعيي يتكوّن بشكل أكثف بدأ عالم آخر يتغلغل إلى ذاتي من روافد الكتب الكثيرة القديمة والحديثة التي قرأتها باكراً. جمعت مثلاً وأنا في الثالثة عشرة بين أبي العلاء المعري وأبي حيّان التوحيدي في «المقابسات» وأضفت إليهما قراءتي لألبير كامو في كتابه «الغريب». صار لديّ من خلال الوجود الذي احتككت به حسيّاً وفكريّاً، هذا الوجود المزدوج، رغبة بل حاجة للتعبير عمّا أعانيه من غموض الوجود، ولم يعد يكفي أيّ شرح ليجعلني على طمأنينة، الجواب على هذا القلق لم يأتِ إلّا من سبيل واحد هو الكتابة، وقد بدأت الكتابة وأنا صغير بين الثانية عشرة والثالثة عشرة بكتابة بعض الأمثال والحكايات الصغيرة وفيها غرابة وسورياليّة طفليّة، ثمّ وجدت أنّني بحاجة الى تعبير آخر لماذا لا أسمّيه الشعر. هكذا جاءت الكتابة تلبية لحاجة وجوديّة ومن دونها كان يكون وجودي ناقصاً أو منحرفاً.
- إلى أين وصلت بالبوح الشعري، إلى أين أوصلك الشعر؟
وصلت إلى ديوان «النازلون على الريح» وقصائده في معظمها تأتي تحت عنوان مجاز، كما أنّني في «شيرازيات» جديدة أضفت تسع قصائد إلى الطبعة الأولى من «الشيرازيّات». وأمّا الوصول فلا وصول لأنّ الشعر هو الطريق إلى الشعر.
تطوّر نظريّ للغاية من الشعر مع تطوّر مراحل التجربة في البدايات، أقول لك كتبت بعض القصائد في أيام الصّبا، ودافعي هو التعبير عن الموت وعن مصدر الأشياء والحياة، وعن أسرار ما يحيط بي في الطبيعة، وكان الدافع هو موت صديق صغير لي في القرية حيث كنّا نعيش، وهي قرية بيت ياحون في الجنوب اللبناني. كان اسم هذا الفتى نجيب، وكان أحْول لكنّه صاحب مخيّلة عجيبة، يقول لي مثلاً إنّه رأى على صخرة العروس فتاة خضراء الشعر ولها جوانح، وحين اقترب منها طارت. أثّر فيّ هذا الصبيّ وجعلني عرضة للخيال. نجيب هذا مات وهو صبيّ بقذيفة أتت من ناحية الحدود. كما أنّني كتبت قصائد حبّ مبكّرة لأنّني أحببت فتاة ذات وجه قمريّ جميل. المفارقة هي أنّه بعد خمسين عاماً وبعدما رحلت هذه الفتاة إلى بلاد بعيدة، واسمها نوال، حدث أن التقيت بها صدفة فلم أعرفها. حطّمها الزمن.
- الكتابة في حياتك هل هي فعلٌ صعب المنال، وكيف تفسر معنى الكتابة في أيّامك؟
الكتابة هي في منطقة حائرة بين القصد والإلزام، أي أنّها ليست تداعيات محض آليّة كما هي ليست إرادة تامّة. إنّها في المنطقة الوسط بين الجبر والتفويض. في النتيجة أنا مصارع للكلمات في حلبة صعبة. وفي هذا الصراع لا بدّ من دم وضحايا وانتصار.
وربّما سألت نفسي هل الكتابة عمليّة تعويض عن إحباط عمليّ في الحياة، أي هل الكتّاب هم فئة من الفاشلين حياتيّاً؟ ثمّ هل الكتّاب هم فئة من صيّادي فراشات الوهم والأحلام؟ بالتأكيد لا أستطيع أن أعتبر الكتابة استجابة لضرورة نفعيّة، بل هي سلوك للمخيّلة أساسه رفض واقع مهما كان، أي لنفترض أنّ شاعراً صدف أن كان أميراً أو ملكاً أو تاجراً ثرياً، فإنّ ذلك لا يملأ شغور الكلمات. وكما أنّ الكتابة ليست استجابة طبقيّة فهي أيضاً هبة الضعفاء والفقراء والمشرّدين، إنّها سمة إنسانيّة.
- أين أنت من الحبّ؟
الحبّ موجود لكنّه فقد أشياء واكتسب أشياء. ما زال الحبّ ملاذاً وخلاصاً. لعلّه القشّة الأخيرة للغرقى، فكلما اشتدّت الضغوط الآليّة والحروب أصبح الحبّ ملجأً وقد يصبح طريقة. وأنا شاعر حبّ بالمعنى الصوفيّ للكلمة.
- كيف يمكن الشاعر أن ينأى برهافته وسْط الجنون الذي يسيطر على تفاصيل كثيرة في الحياة؟
لا يستطيع أن ينأى لكنّه يكيّف الجنون. وقد يبتكر له مضادّات لأنّ الشعر مخيّلة أيضاً.
- كتبت كثيراً للمرأة، ماذا تقول عن المرأة اليوم؟
ما زالت المرأة من أجمل معطيات الوجود.
- سؤال الجمال، ماذا تجيب عنه؟
قد يكون الجمال هو أن تقول كلّ ما قيل وسيقال في الجمال.
- هل أنت شاعر ظالم، مظلوم أم شاعر حزين؟
أنا شاعر قلق. لست حزيناً ولا مغتبطاً بل حائر.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024