تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

مهرّج حلب مضرجاً بدمه ... وضحكات الأطفال

مهرّج حلب مضرجاً بدمه ... وضحكات الأطفال

كان يدعى أنس وكان لاسمه وقعه في ساحات مدينة حلب عندما كانت تسنح الفرص ويحل وقف لإطلاق القذائف والرصاص. وفي أيام القصف كان يحيي حفلاته في الملاجئ الآمنة. سمي مهرج حلب بعدما هجر المسارح منصرفاً إلى مرافقة الأطفال الذين يحاصرهم القصف والخوف ويضنيهم العوز وربما الجوع. لكنه كان مهرجاً حقيقياً، بارعاً وذكياً، يدرك كيف يجذب أنظار الأطفال والفتيان وحتى الكبار ويضحكهم مؤدياً شخصيات عدة وقصصاً صغيرة كوميدية غالباً، على رغم الألم الذي يعتمل في قلبه. لم يكن يهاب القذائف التي تطلقها الطائرات الروسية ولا براميل البارود الحارق التي تسقطها مروحيات النظام السوري، وكان يتنقل بين الأحياء والملاجئ في شرق حلب، ليلتقي الأطفال ويلاعبهم ويضحكهم ويزرع في قلوبهم القليل من البهجة ويوقظ في سريرتهم أملاً ولو ضئيلاً بالحياة، مقنعاً إياهم أن الفرح ما زال ممكناً في هذا العالم.

سقط أنس الباشا، مهرج حلب، تحت القصف السوري أو الروسي، ولا فرق أصلاً. ابن الرابعة والعشرين غدر به القصف فهوى مضرجاً بدمائه والأصباغ الملونة التي كان يضعها على وجهه ليصنع قناعه الجميل الذي يحبه الأطفال ويرتاحون إلى ملامحه. وكان أنس أنشأ منظمة «فضاء الأمل» التي تعنى بشؤون الأطفال فنياً واجتماعياً في حي المشهد داخل حلب الشرقية. لم تكن المنظمة تملك مالاً ولم تلق دعماً لكنها أصرت على كلمة الأمل من أجل زرع فسحة من الفرح في حياة الأطفال الذين كادوا ينسون طفولتهم.

شاهدت أنس الباشا مرات على الشاشات الصغيرة التي تنقل مآسي حلب في مناطق المعارضة، وبدا فناناً حقيقياً، يملك أصول الأداء ويجيد لعب الأدوار الصغيرة. يمثل بين الأطفال ويلتقط الصور معهم. وفي الآونة الأخيرة بات وجهاً من وجوه حلب. وكنت أتحين الفرصة للكتابة عنه وعن ظاهرته اللافتة. فإذا سقوطه شهيداً يكون هو المناسبة غير المنتظرة والحزينة.

لا أدري إن كان أنس قرأ مسرحية محمد الماغوط «المهرج» أو أدى فيها دور المهرج على الخشبة، هو الممثل البارع، لكنه ما كان ليصبح مهرجاً حزيناً أو يائساً ومقهوراً، فهو سعى إلى مواجهة الحرب وتحدي اليأس بما أتاحته له شخصية المهرج، ابن الأحياء الشعبية وسليل الحارات والحكايات البلدية.

سقط مهرج حلب، سقطت الابتسامة العريضة التي طالما لونت حياة أطفال حلب، سقط القناع الجميل عن وجه أنس الجميل الذي ملأته الجروح وخضبه الدم. لم يبق لأطفال حلب مهرج ولا لساحاتها وملاجئها. القتلة الذين يحصدون الأطفال بالعشرات لا يروق لهم أن يكون لهم مهرج يضحكهم ويسليهم ويواسيهم في أوقات الحزن والخوف.

لو كان بيكاسو على قيد الحياة لرسم حتماً مهرج حلب وضمّه إلى سلسلة المهرجين الذين حملتهم لوحاته الشهيرة. فالمهرج وإن بدا فناناً كوميدياً، فهو شخص يخفي وراء قناعه أوجاع البشر وآلامهم. وكم بدا أليماً سقوط مهرج حلب شهيداً بين الأنقاض مثله مثل الأطفال الذين سبقوه إلى أبواب الجنة.

نقلاً عن الشقيقة الحياة

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079