تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

حين تقول مدن التاريخ: نحن هنا!

في فيلم The Monuments Men يقول فرانك ستوك الذي جسّد دوره جورج كلوني لجنوده: «يمكنكم أن تمحوا جيلاً كاملاً، أن تحرقوا بيوته وتسوّونها رمادًا، ولكنه سوف يجد دائمًا طريقًا للعودة.
أما حين تدمّرون تاريخه، فأنتم تدمرون إنجازاته، وكأنه لم يكن يومًا موجودًا». وإنجازات التاريخ لا تختصرها السطور المكتوبة والأحداث المنقولة، إنما مدنه القديمة التي تحضن الكثير من أسراره، تأخذنا إلى عوالم نقرأ في سطور أطلالها حكايات شعوب بنت، ندهش لعنادها أمام الأزمنة ومقاومة تقلّبات أمزجتها الطبيعية والانسانية.
وحول العالم مدن كثيرة اخترنا منها سبع، هي من بين أقدم مدن التاريخ. تضعك أطلالها وجهًا لوجه أمام عبقرية من صنعوا التاريخ، تسيرين على أرضيته المهجورة، تجولين بين روائعه الملموسة، يهمس إليك صمتها المزمن «هنا عاش شعب عظيم».


أكسوم، إثيوبيا
إنها مملكة أكسوم مقر النجاشي، أصحمة بن أبجر النجاشي، الذي أكرم وفادة المسلمين أيام رسول الله محمد (صلّى الله عليه وسلّم) وكان من بينهم ابنته رقية وزوجها عثمان بن عفان. ووفق ابن هشام فقد رفض الحاكم الإثيوبي تسليم المسلمين الفارين الى وفد من قريش ذهب ليلاحقهم. تأسست مملكة أكسوم عام 325 ق.م بقيادة السلالة السليمانية التي ترجع وفق بعض الأساطير إلى الملك سليمان وملكة سبأ.
وأكسوم مدينة في شرق إقليم تغراي في إثيوبيا تقع على سفح جبال عدوة، كانت مقر مملكة أكسوم من القرن الأول حتى القرن الثاني عشر. وهي مقر الكنيسة الحبشية، انضمت المدينة عام 1980 إلى لائحة مواقع التراث الإنساني، وتضم كنيسة مريم سيدة جبل صهيون، وتحتوي على تابوت العهد الذي يضم ألواح موسى التي تتضمن الوصايا العشر.
هنا في أطلال مملكة أكسوم تجولين بين مسلاّت عملاقة يصل ارتفاع إحداها إلى 35 مترًا، وأعمدة منقوش عليها كتابات لمجموعة متنوعة من اللغات، بما فيها اللغة الاثيوبية الجعزية، ومختلف اللهجات العربية، واللغة اليونانية القديمة... كلها شواهد على مملكة عاشت أزمنة ازدهار اندثر أصحابها ورعاياها، وبقيت بعض أعمالهم تذكّر أحفادهم بأن كان لهم ملك عظيم.

بالانك في المكسيك  
كانت بالانك أحد أهم المواقع الدينية في زمن إمبراطورية المايا الأولى. وتقع في جنوب المكسيك في منطقة سييرا دون خوان عند الحدود الشمالية لقمم شيباس الحُرجية وبالقرب من يوكاتان. يعود تاريخ هذه المنطقة إلى عام 100 ميلادية، غير أن المخطوطات التاريخية تشير إلى أن الوجود الحقيقي لهذه المنطقة يعود إلى القرن الرابع، وأسسها باهلوم كوك، أو كما كان يعرف جاغوار كيتزال، وهو أوّل من حكمها.
تتضمن بالانك العديد من المعالم الأثرية الرائعة، أهمها معبد المخطوطات والقصر. يصوّر المعبد مستويات الكون الثلاثة، السماء والأرض والعالم الآخر. أطلق علماء الآثار عليه هذا الاسم بعدما حلّوا لغز العبارات الهيروغليفية المكتوبة على الألواح الثلاثة الكبيرة المستندة إلى جدران المعبد. يقوم المعبد على قاعدة هرم مؤلف من تسع طبقات، ويبلغ ارتفاعه 25 مترًا.
في المعبد ناووس حجري يبلغ طوله ثلاثة أمتار، وعرضه مترين، ويحتوي على رفات الملك باكال، أحد ملوك بالانك، وتستريح عليه مجوهرات الملك المصنوعة من أحجار اليشب، وقناع جنائزي مرصّع باليشب أيضًا.

ميسا فيردي، كولورادو
في الجنوب الغربي من ولاية كولورادو، وعلى مساحة 211 كيلومترًا، يقع متنزّه ميسا فيردي الوطني، وميسا فيردي تعني «اللوحة الخضراء» باللغة الإسبانية. يقع المدخل الرئيسي على بُعد خمسة عشر كيلومترًا إلى الشرق من مدينة كورتيز، ويضم 4400 موقع تاريخي، سكن فيها بين القرنين السادس والرابع عشر هنود الأناسازي أسلاف قبائل بوابيلو الذين شيّدوا المباني والكهوف تحت منحدرات الوادي. ولذلك هي واحدة من عدد قليل من النماذج التي تذكّرنا نحن أبناء هذا العصر بنمط حياة الهنود الحمر سكان أميركا الأصليين.
يعود تاريخ تشييد المباني  الى ما بين 700 و1400 سنة. فيما القرى، فقد كان لكل واحدة شهرتها الخاصة، بعضها زراعية وبعضها حرفية وأخرى دينية... تحوّلت إلى متنزّه وطني في 29 حزيران/ يونيو عام 1906 وانضمت إلى لائحة موقع التراث العالمي لليونسكو في 6 أيلول/ سبتمبر عام 1978.
أهم عوامل الجذب في الحديقة، شرفة المنزل وقصر الهاوية اللذان يشكلان اثنين من الكهوف الرئيسية للحديقة. كما يضم المتنزّه متحفًا يتعرّف فيه الزوار على حياة الهنود الحمر في جبال كولورادو.

مروى، السودان
لا يُعرف الكثير عن أهرامات مروى، ربما السبب يعود إلى الشهرة التي عرفتها أهرامات مصر العملاقة. كانت منطقة مروى القلب النابض لواحدة من أغنى الممالك في أفريقيا «مملكة كوشية»، التي اشتهرت بتجارة الحديد.
كتب عنها الرومان والمستكشفون اليونان والمؤرخون، وتبعد عن العاصمة الخرطوم نحو 120 ميلاً الى الشمال الشرقي. تقف في صحرائها بقايا أهرامات شُيّدت فوق غرف مدافن، تضم رفاتًا إما أُحرقت، أو دُفنت من دون أن تُحنّط كما فعل المصريون الفراعنة.
وتعتبر النقوش التي وجدت على جدران الكنيسة مثيرة للاهتمام، وهي تذكر أسماء ملكات، Candaces، أو النوبي وبعض ملوكها. انضمت أهرامات مروى إلى قائمة التراث العالمي لليونيسكو عام 2011 .

باغان، ميانمار
تقع باغان في منطقة ماندالاي في ميانمار، وهي مدينة قديمة كانت بين القرنين التاسع والثالث عشر عاصمة المملكة باغان، المملكة الأولى التي وحّدت المناطق المحيطة لتصبح ميانمار. خلال ازدهار المملكة بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، تم تشييد أكثر من عشرة آلاف معبد في سهول باغان وحدها، والتي بقي منها 2200 معبد تعاند أمزجة الطبيعة وزمنها.
المناظر الطبيعية التي رميت فيها هذه المعابد تحبس الأنفاس لروعتها، التجوال فيها يشعرك بأنك تشاهدين فيلم «انديانا جونز ومعبد الهلاك» رغم أنه لم يصوّر هناك، فالسلطات المحلية لم تعط الإذن لأنها اعتبرت أن قصة الفيلم فيها إهانة، فما كان من منتجي العمل إلا أن صوّروه في سريلانكا مستحضرين الأماكن الشبيهة بمعالم باغان.
من المعابد التي لا بد من أن تدخلك في متاهة التاريخ وأساطيره، معبد ستوبا اللافت بهندسته المعمارية ودقة نحته.  في الأصل، جاءت هندسته على شكل كروي وسط مستطيل محاط بدرابزين الحجر (harmika).
وستوبا هو تمثيل للكون في الأساطير البوذية، يرمز مظهره الى جبل ميرو، في حين تمثّل قبّته محور العالم.  على النقيض من معبد ستوبا، فإن معبد هولوهو هيكل للتأمل والطقوس التعبدية جاءت هندسته بأسلوبين، الأول «وجه واحد» والثاني «أربعة وجوه». التصميم الأساس مدخل رئيسي واحد وأربعة مداخل رئيسية.
لا بد من أن تصيبك الدهشة عند التجوال بين أروقة هذه المعابد، ولكن ركوب المنطاد والتحليق فوقها سيتيحان لك مشاهد بانورامية عز نظيرها في العالم.

أنغكور، كمبوديا
من منا لم تشاهد فيلم Lara Croft Tomb Raider الذي لعبت بطولته أنجلينا جولي، ومن منا لم تدهشها المدينة المهجورة التي جالت فيها جولي وصالت، هذه المدينة ليست استوديو ابتدعها الخيال الهوليوودي وإنما مدينة واقعية في كمبوديا، كل تفاصيلها وألوانها ومنحوتاتها موجودة وبصورة أكثر روعةً مما عكسته كاميرا هوليوود.
سيري على خطى أنجلينا جولي بين أطلال إمبراطورية الخمير، وتقمصي المطاردات الهوليوودية التي حدثت في هذه المدينة، وتظللي بجذور الشجرة التي تخفي تحتها الكنز.
وإذا كانت جولي قد دخلت المدينة بسيارة رباعية الدفع عبر البوابة الجنوبية، فأنت ستدخلين إليها، إما عبر التوك- توك أو بدراجة هوائية وعلى يمينك ويسارك المنحوتات الحجرية، من دون أن يدهمك أحد بخديعة ترميك في بطن الكنز. 
ومهما كانت مشاهد الأكشن لأنجلينا جولي، فإن جمال المدينة يجعلك ربما تتفوقين في مخيلتك على الخيال الهوليوودي وتبتكرين أسطورتك الخاصة، فأنغكور عاصمة الإمبراطورية الخميرية القديمة، وتعدّ رائعة من روائع الهندسة المعمارية، مما يجعلها تستحق المكوث فيها خمسة أيام للاستمتاع بالتحف الفنية المحتشدة فيها والمتماهية مع جمالها الطبيعي.
ولعل معلَم أنغكور فات Angkor vat المهيب وبايون والمدينة المحصّنة أنغكور توم من المعالم الأثرية التي لا يمكن تفويت التجوال بينها. عند دخول الموقع، يجدر الحصول على إذن لتمضية يوم أو ثلاثة أو أسبوع، حيث يمكن المكوث في سيام ريب Siem Reap وهي بلدة صغيرة مزدهرة تضم مجموعة كبيرة من الفنادق والمقاهي التي يزداد عددها يومًا بعد يوم. أما السوق المغلق فالتجوال فيه مغامرة جميلة تدخلك في عالم كمبوديا الساحر.

بوروبودور، إندونيسيا
بوروبودور مجمع بوذي يقع وسط جزيرة جاوا في إندونيسيا، شيّد في القرن التاسع في عهد سلالة سيليندرا، وتهيمن عليه الأبراج البوذية والأقواس والمنحوتات المعقّدة وهرم عملاق. على الرغم من أنه ليس مشهورًا كما بقية المعالم البوذية الأخرى في شرق آسيا، فهو أكبر مجمع بوذي في العالم وفقًا لموسوعة «غينيس» العالمية، وهو على قائمة موقع التراث العالمي لليونسكو.
يتألف مجمع بوروبودور من أربع قاعات متتالية في الشكل الهندسي، وتبلغ مساحتها 5 كيلومترات وتغلفها منحوتات ونقوش فريدة من نوعها نُحتت على الحجر البركاني الرمادي لتسرد حوادث مختلفة من حياة بوذا. تنم دقّتها عن شغف مبتكريها بفن النحت والزخرفة. وبنظرة بانورامية عبر المنطاد إلى هذا المجمع، تكتشفين تماهيه بالطبيعة الخلابة التي رُمي وسطها الأخضر بكل تموجاته منبثقًا من الجبال البركانية، والغابات المحيطة مما يجعل زيارة الجزيرة، والمدينة الأثرية التي تحضنها أكثر من مغامرة في عوالم الأساطير القديمة.

مدينة جبيل، لبنان
مدينة جبيل من أقدم المدن التي سكنها الإنسان ولا تزال مأهولة، ويعود تاريخ تشييدها إلى 5 آلاف سنة، وهي من المواقع القليلة التي استمرّ عمرانها منذ إنشائها حتى اليوم. تأسّست جبيل بداية كقرية لصيّادي السمك على التلّ المشرف على البحر جنوب غرب الموقع خلال الألف السادس قبل الميلاد، وارتقت إلى مصاف المدن أواخر الألف الرابع ق.م.، فأصبحت لها شوارعها وساحاتها ومبانيها العامة وأسوارها، وبالتالي أصبحت حاضرة.
يرتبط اسم جبيل بالأبجدية الفينيقية، التي صدّرتها نحو العالم، لتشكل أصل الابجديات المعاصرة، ووجدت هذه الكتابة على ناووس حيرام، أحد ملوك المدينة، وقد نشرها ملكها قدموس. وجبيل اليوم المدينة المستريحة على الشاطئ، منها أبحرت السفن المصنوعة من خشب الأرز في عباب البحر الأبيض المتوسط منذ آلاف السنين، وفيها من سحر التاريخ الذي يكاد  يكون حاضرًا في كل تفاصيلها.
عند التجوال فيها تشعرين بأنك وسط عوالم تاريخية تقلّبين صفحاتها من دون أن تملّي من قراءة سطورها. ففيها تصالحت الحضارات الفينيقية والرومانية والبيزنيطة والعربية إلى حد الانسجام. ودخلت جبيل ضمن قائمة التراث العالمي لليونيسكو عام 1984.
ويمكن القول إن جبيل تقسم قسمين: المدينة العصرية والمدينة العتيقة الممتدة على شاطئ البحر الأبيض المتوسّط، والتي تنبثق منها القلعة البحريّة في مواجهة القلعة البرّية التي تتضمن متحفًا.
وبين الماء والبرّ كل السحر. فعند مرفأ الصيادين تنتشر المطاعم التي تقدّم المطبخ اللبناني، وأشهرها مطعم «بيبيه» الذي زاره عبر العقود مشاهير العالم من ملوك ورؤساء دول ونجوم سينما، ما جعله مقصد زوار المدينة يستحضرون تلك الأيام الجميلة في الصور المعلّقة على جدران المطعم.
أما البيوت المتوّجة بالقرميد والمتميزة بالعمارة اللبنانية التقليدية، فتلفتك حدائقها الصغيرة وأسوارها التي تتدلى منها الزهور ناثرةً عطر الياسمين والقرنفل والورد.
تسكن بين أسوار المدينة العتيقة لغة التسامح الديني حيث تحضن أجراس الكنائس مئذنة مسجد السلطان عبدالمجيد الذي شُيّد في العهد الأيوبي على أنقاض مسجد بُني في عهد الخلفاء الراشدين، وأُعيد ترميمه في العهد العثماني.
وأمسيات جبيل تجربة فريدة، فمع غروب الشمس تتسرّب إلى أزقة المدينة العتيقة أنغام الموسيقى التي تصدح في الأجواء، وتزدحم المقاهي بالروّاد الذين يتناولون العشاء ويرتشفون القهوة استعدادًا للسهر في النوادي الليلية التي تحوّل الأروقة إلى كرنفال من السهر... كل يغني فيه على ليلاه حتى طلوع الفجر.

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078