تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

روندا... هنا تسكن ثرثرات الأندلس

روندا ...  هذه المدينة الإسبانية مغلّفة بعوالم الأندلس وأخيلته المطبوعة في ذاكرتنا نحن أبناء الشرق، نستحضر طارق بن زياد وهو يفتح إسبانيا ناحتًا في صفحات التاريخ أمجاد العرب .
وكيف لا ! فروندا الأندلسية   بكل تفاصيلها، تدخلك في متاهات من الجمال الإنساني المتماهي بطبيعتها الخلابة الحابسة للأنفاس بالمعنى الحرفي للعبارة وأنت تقفين عند برج « ألاميدا ديل تاخو » تتمسيكن بدرابزين حديدي، والفراغ تحت قدميك يتحدّاك بجاذبية ليست أرضية، بل بصرية لريف منبسط يبدو بلا نهاية .


ولعل هذا الجمال الساكن في الريف الإسباني– الأندلسي جعلها ملهمة الشعراء والأدباء في التاريخ المعاصر. ففي القرن التاسع عشر بدأ نقل الصور الرومنطيقية عنها في رواية ألكسندر دوماس De Paris a Cadix  فيما أرنست همنغواي الذي عاش في هذه البلدة إبّان الحرب الأهلية الاسبانية فقد  برع، رغم بشاعة واقع الحرب، في نقل رومنطيقية الثورة ضد الطغيان، في روايته «لمن تُقرع الأجراس»، حيث معالم روندا حاضرة في أحداث الرواية. 
وروندا هذه البلدة الصغيرة الأندلسية الطافية على هضبة داخلية، لمقاطعة مالاقا يعود اسمها إلى أنها محاطة بالجبال، يخترقها نهر غوادلفين الذي ينساب عبر مضيق جبلي سحيق « إل تيخو» بعمق 170 مترًا وطول 500 متر، مقسمًا المدينة قسمين، البلدة القديمة والبلدة العصرية، شيّدت بينهما ثلاثة جسور تربط أواصرهما، وكأنها تلمح الى أن العبور إلى المستقبل يتطلب منا تصفح الماضي ومدّ الجسور بينهما.


قصر
« ديل راي مورو » وهمس جدران  

التاريخ : العرب كانوا هنا
مجرد عبور  جسر « بوينتو نوفو» تدركين السحر الذي تمارسه روندا على زائرها  منذ القرن التاسع عشر. ففي كل ركن من زوايا المدينة القديمة، تشعرين بأن الجدران تهمس لك بقصص صعود نجم الأندلس وأفوله، قيام ثورة واندثارها، ولكن الثابت فيها روائع معمارية تحاكي جمال الطبيعة الساكن في عالم أندلسي.
فقصر «ديل ري مورو» أي «قصر الملك المغاربي»، ورغم اسمه، ليس مغاربيًا. يعود إلى القرن الثامن عشر، ممثلاً ملكًا مسلمًا، اتخذ اسمه بسبب لوحة من السيراميك منحوتة على واجهته، وقد صمم حدائقه الأندلسية رسام المناظر الطبيعية جان كلود نيكولا فوريستيير، على شكل شرفات تطفو فوق وادي«تاخو» مما يتيح مشاهد خلابة  للجبال المحيطة بالبلدة.
 ومن هذه الحدائق الغنّاء تتوجهين نحو المنجم الذي يعود إلى القرن الرابع عشر، نزولاً عبر سلّم نُحت في الصخر مؤلف من حوالى 200 خطوة تدخلك في ظلام دامس بين ثرثرة جدران تتحدث عن ملك مسلم اسمه أبو مالك أمر بحفر هذا السلّم- الدهليز، وتقول الأسطورة إن هذا الملك أراد أن يخبئ فيه ذهبه، ولكن الأرجح أنه أراد من هذا المنجم مدّ المدينة بالمياه أثناء الحصار من خلال رفعها عبر السلم، الذي ربما كان ممرًا سريًا لهروب الملك. قد تشعرين بهذه الأسطورة أثناء عبورك بين غرف لها أسماء غامضة أغربها «سالا دي سيركريتوس» أي صالة الأسرار، وهي غرفة تمتص الصوت، إذ لن يسمعك أحد في الجزء الآخر من هذه الغرفة إذا ما تكلّمت، وإن بصوت مرتفع.
ينتهي السلّم برميك عند ضفة نهر غوادليفين، حيث  خرير مياهه الأزرق المخضوضر، ينضح بهدوء رائع لا تخترقه سوى زقزقة الطيور وصفيق أجنحتها.

ومن القصر إلى الحمّامات العربية حفظت بشكل جيد،  تعود إلى القرن الثالث عشر وتتألف من ثلاث غرف مقبّبة تخترقها فتحات جاءت على شكل نجوم. تعكس هذه الحمّامات نمط حياة العرب الذين حكموا الأندلس على مدى أكثر من 700 عام. فهدف هذه الحمّامات لم يكن النظافة وحسب، وإنما كان السكان العرب يقصدونها لتنقية الجسم والعقل، كما كانت مكانًا  للتفاعل الاجتماعي والأعمال التجارية أيضًا.

فيما مئذنة سان سيباستيان، التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر، وهي المئذنة  الوحيدة الباقية من تاريخ العرب في روندا،  يعود اسمها الى مصلّى مخصص لسان سيباستيان، الذي شيّد على موقع المسجد وتتألف من ثلاث طبقات: الطبقة السفلية من الحجر مع باب من حدوة حصان، الطبقة الأولى من الآجر ، أما الطبقة العلوية فقد بنيت بعد الاجتياح الأوروبي وتضم  جرسًا.

أسوار إيكزاخارا Xijara، وتقع  شرق المدينة القديمة،  شُيّدت في القرن الحادي عشر، خلال حقبة ملوك الطوائف دي روندا. وقد أعيد ترميمها بشكل جيد. وتنقسم  بوابة إيكزاخارا الرئيسة الى ثلاثة أقواس، اثنان منها معقودان بشكل كامل وواحد جاء على شكل  حدوة حصان.

أما قصر «جيغانتيه» أو قصر العملاق فهو قصر أحد ملوك المسلمين  يضم فناء جميلاً مزينًا بفن الأرابيسك ويعود تاريخ تشييده إلى القرن الرابع عشر.


حلبة مصارعة الثيران
تعتبر حلبة مصارعة الثيران في روندا واحدة من بين أقدم حلبات مصارعة الثيران في إسبانيا، وهي من أجمل الحلبات في العالم تم بناؤها عام 1785. يبلغ قطرها 66 مترًا ويحيط بها ممر مؤلف من حلقتين من الحجر.
نظّم مصارعة الثيران الأولى في الأول من أيار/ مايو عام 1785، بيدرو روميرو روندا وبيبي هيللو، ولا تزال نشطة إلى اليوم. وتحظى زيارة هذه الحلبة بشعبية كبيرة بين المسافرين ولا بد من أن تخوضي هذه التجربة إذا كنت من أصحاب القلوب القوية. فمصارعة الثيران جزء من الثقافة الإسبانية، وتكادين تلاحظين فخر الإسبان بها في كل  زاوية في روندا، على الإطارات، على جدران الحانات، على الملصقات في الشوارع والتماثيل ... فهي حاضرة في أحاديث السكان.

الجسور الثلاثة « بوينتي نوفو » و « بوينتي دي سان ميشال » و « جسر العرب »
إنها الجسور التي تربط الماضي بالحاضر، وعبورها لا بد منه، والتوقف المستقطع فيها، هو استراحة بين سطور التاريخ المنتشر بصمت في  روندا. ويعتبر جسر «بوينتي نوفو» الجسر الأكثر جذبًا  في المدينة، علّق فوق هوة مثيرة للإعجاب ليصل  البلدة القديمة بجزئها الحديث. بدأ بناء الجسر عام 1751، وأشرف على بنائه خوان أنطونيو دياز ماتشوكا واستغرقت الأعمال فيه 42 سنة، شيّد  من الحجر ويتكون من ثلاثة أقواس. هناك غرفة فوق القوس المركزي وقد تمّ استعمالها لمجموعة متنوعة من الأغراض، بما في ذلك سجن، خلال  الحرب الأهلية 1936-1939، فقد كان كلا الطرفين القوميين والجمهوريين، يستعملها لتعذيب المعارضين، من طريق الرمي من النوافذ إلى الصخور في الجزء السفلي من الخندق.
ويقال إن أرنست همنغواي الذي واكب الحرب الأهلية الاسبانية وعاش فترة في روندا، استوحى بعض تفاصيل روايته «لمن تقرع الأجراس» من أحداث هذا الجسر.
تضم هذه الغرفة راهنًا معرضًا يصف تاريخ الجسر وكيفية بنائه. فيما يحوي الجسر القديم أو جسر العرب أيضا قوسًا واحدًا، يبلغ ارتفاعه 31 مترًا وقد تعرّض للكثير من الدمار بسبب فيضان النهر.
أما جسر بوينتي دي سان ميغيل أو جسر سان ميشيل، و هو أصغر  الجسور الثلاثة ويضم قوسًا واحدًا يبلغ ارتفاعه  12 مترًا، فبناه في الأصل المسلمون ولكن بشكله الحالي يعود تاريخه إلى 1961.

البلدة القديمة وسحر التاريخ
من الجسور توجهي إلى البلدة القديمة لاكيداد، فهي روح روندا مع الساحات التاريخية وشوارع المشاة الضيقة والمنازل البيضاء الساحرة. تحضن لاكيداد La Cuidad سحر العالم الأوروبي القديم بمحاذاة أسوار المدن العربية القديمة، و لاسيما  شمال أفريقيا.
هنا في هذه البلدة  سوف تجدين أكثر المعالم الثقافية في المدينة. من بينها بلازا ديكيسا دي بارسينت، أي  دوقة بارسينت، وكانت تعرف في الماضي بوسط المدينة التجاري في العصر الإسلامي. فهنا ستعيشين في أجواء إسبانية منكّهة بتاريخ العرب الذي اندثر ربما من ذاكرة الإسبان لكنه بقي في التاريخ المسكون بين تفاصيل روندا.
وكنيسة سانتا ماريا لا مايور التي كانت في الأصل مسجدًا،  وقد احتفظت بأربع قباب مغربية النمط إلا أن هندستها الداخلية جاءت على النمط القوطي.
هنا في البلدة القديمة ما عليك سوى الجلوس في أحد المقاهي المنتشرة وتذوق المقبلات الأندلسية التقليدية (سالموريجو، التورتيا، البونديجاس ...) والاستمتاع بهذه المدينة الرائعة التي حضنت التاريخ بكل تناقضاته، جماله وقسوته، ولكنها بقيت تعيش في أحضان طبيعة وديعة بقدر ما هي خاطفة للأنفاس، آخذة بالأبصار نحو جمال إسباني لا يشيخ.

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078