الخطأ الطبي: هاجس يؤرق الناس ويكتب قصصاً مأسوية
الخطأ الطبي من أسوأ المشكلات التي لا يخلو منها بلد في العالم. وهذا الخطأ قد يذهب بحياة الشخص المريض، أو بأحد أعضائه، نتيجة لإهمال الطبيب، أو التسرُّع في تقديره لطبيعة المرض، أو عدم الخبرة، أو غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها. والطبُّ مهنة إنسانية قبل أن يكون سبباً من أسباب الرزق، وهذه المهنة تتطلّب من الطبيب أن يكون حريصاً على صحة مريضه، فإذا أخطأ، ينبغي أن يحاسب على خطئه من الجهات المختصَّة، أو يتمّ إنصافه إذا كان الخطأ خارج نطاق مسؤوليته. والبلاد التي لا يُحاسب فيها الأطباء، ولا يُراقبون، هي البلاد التي تكثر فيها مآسي الأخطاء الطبية التي باتت هاجساً من الهواجس الصحية في جميع أنحاء العالم. في هذا التحقيق تسلّط «لها» الضوء على هذه المشكلة الحسّاسة. من خلال شهادات وآراء من مصر والسعودية وسورية.
في مصر: الخطأ الطبي من دون حلقة أخيرة..
مسلسل الكوارث الطبية في مصر لا يعترف بالحلقة الأخيرة، فهو مفتوح دائماً وبلا نهاية، وتزداد الحكايات المأسوية يوماً بعد آخر لضحايا كانوا يحلمون بالشفاء على يد الطبيب، لكنهم خرجوا من عيادته بكوارث جديدة زادتهم آلاماً ومعاناة. وهذه اتهامات الضحايا ودفاع الأطباء.
قصص مأسوية
ذهب لتلقي لعلاج بعد انفصال الشبكية فأُصيب بالعمى
إسماعيل سعيد عبدالعاطي، شاب في بداية الثلاثينيات من عمره، كان يستعد لحفلة زفافه ولا يرى في مستقبله سوى الأمل، وفي اليوم الذي قرر فيه نقل الأثاث إلى منزله، فوجئ بلصوص سرقوا منه كل شيء... نام مقهوراً فأُصيب بانفصال في شبكية العين، ومن يومها بدأت رحلة علاجه التي انتهت بالعمى.
قرر إسماعيل أن يذهب إلى أحد المستشفيات الخاصة الشهيرة في إحدى المناطق الراقية في مصر، وبالمساعدة المادية التي تلقّاها من أهله ورفاقه أجرى عملية جراحية، وأخبره الطبيب بضرورة عدم التعرض للشمس لمدة محددة. ويقول: «في كل مرة يفحصني الطبيب فيها، كنت أخبره بشعوري بوجود حجر ثقيل وصلب في عيني، لكنّه كان يطمئنني ويدعوني إلى عدم القلق».
استمر شعور إسماعيل بالألم ولم تنجح تبريرات الطبيب في طمأنته، فقصد مستشفى آخر، وبعد إجراء الفحوص والصور الشعاعية اللازمة، اكتشف أنه أُصيب بضمور في العصب البصري- السمعي، وهو ما يعني أن عينه اليمنى قد أُصيبت بالعمى الكلي، وقد تصل المضاعفات إلى شلل عام في الجسم كله.
لم يتحمّل أصدقاء إسماعيل فقدان صديقهم إحدى عينيه، فذهبوا إلى المستشفى للانتقام من الطبيب المُعالج، إلا أنه تصدّى لهم في اللحظة الأخيرة.
معاناة المرضى من ضحايا الأخطاء الطبية لا تتوقف عند خسارتهم الجسدية، بل تمتد إلى خسارات اجتماعية عدة، بحيث أصبح إسماعيل يواجَه بالرفض كلّما تقدّم إلى وظيفة، لأن عينه السليمة لا تتيح له الرؤية الكافية، فاضطر إلى العمل في مساعدة السائقين في جمع الرسوم في أحد مراكز المواصلات العامة، مما أثّر في عينه السليمة وسبب له «غشاوة» عليها، فاضطر الى الخضوع لجراحة جديدة.
رغم أن ضحايا الإهمال الطبي في مصر لا يلجأ معظمهم إلى القانون لتحصيل حقوقهم، قرر إسماعيل خوض هذه المغامرة، لكن حين ذهب إلى قسم الشرطة لتقديم بلاغ، نصحه بعض من حوله بأن «القضايا تأخذ وقتاً طويلاً في المحاكم»، فعاد إلى مدير المستشفى ليتفاوض معه، فدسّ له الأخير في جيبه عشرين جنيهاً وقال له «اشتكِ الطبيب المخطئ في نقابة الأطباء واستعوض الله». ينهي إسماعيل كلامه بحسرة قائلاً: «الطبيب دمّر مستقبلي».
كان يتمنى الشفاء من مرض جلدي فتعرض لتآكل في المفاصل
قصة أخرى رواها حاتم حسين، من محافظة كفر الشيخ، الذي ذهب الى أحد الأطباء للعلاج من مرض جلدي شهير معروف بـ«الثعلبة»، وبعد تلقيه جرعة كبيرة من الكورتيزون أصبح يعاني على أثرها تآكلاً في مفصلي الفخذين الأيمن والأيسر، وبالتالي تساقط شعر جسده، ورغم تقدمه بالعديد من البلاغات الرسمية وحصوله على تقرير مفصّل من الطب الشرعي، لم يسترد حقه بعد.
فقدت طفلها بسبب جرعة التخدير الزائدة
أمّا نورا عبدالعزيز، فهي أم للطفل باسم علي، الذي توفي نتيجة خطأ طبي وهو لا يزال في عامه الأول. دخل باسم المستشفى لإجراء عملية لإزالة المياه البيضاء من عينه، وأثناء انتظارها ريثما تنتهي العملية التي قيل لها إنها لن تستغرق سوى دقائق، فوجئت بطلب نقل طفلها بالإسعاف إلى مستشفى الأقصر الدولي، لتكتشف هناك أنّه توفّي بسبب جرعة التخدير الزائدة التي حقنه بها الطبيب، مما عرّضه لهبوط حاد في الدورة الدموية.
خضعت لجراحة في القلب فأُصيبت بضمور في الأطراف
قصص ضحايا الإهمال الطبي لا تنتهي، فرغم تقدّم العلم وتوافر المعدّات الطبية الحديثة، انتشرت خلال العام الأخير فقط عشرات الحوادث التي تثير الرعب وتبعث على عدم الطمأنينة. مثلاً أصيب سبعة أشخاص بالعمى دفعة واحدة في مستشفى الرمد في طنطا، بسبب تلقيهم مصلاً خاطئاً في المستشفى، وقبلها بأشهر قليلة أُصيبت ربة منزل تُدعى هدى أحمد في الغربية بضمور في الأطراف، بعدما دخلت غرفة العمليات لتجري جراحة في القلب، فحدث لها تلوث في الدم وانسداد في شرايين أثناء العملية.
أيضاً، تكاد وفاة السيدات أثناء إجرائهن عمليات التخسيس تصبح ظاهرة، إذ انتشر عبر «فايسبوك» العديد من القصص لحالات دخلت غرف العمليات وهي تحلم بجسد أفضل فخرجت متوفاة، في الوقت الذي استحدث فيه بعض أهالي الضحايا صفحات لفضح جرائم أطباء تسببوا في وفاة مرضاهم، لكن بلا جدوى.
الدكتور خالد سمير: البعض يرى في الطبيب كبش فداء
أما الدكتور خالد سمير، عضو مجلس نقابة الأطباء، فيرى أن أساس الضجّة المجتمعية حول أخطاء الأطباء في مصر مشكلة ثقافية في المقام الأوّل، إذ إن الناس يرون في الطبيب «كبش فداء» لعدم رضاهم عن النتيجة، ولا يدركون أن مخاطر مهنة الطب ستمس الطبيب والناس معاً، وأن مرحلة علاج المريض يشارك فيها عدد كبير من أفراد الطاقم الطبي، بما فيه من أطباء وممرضين ومختبرات التحاليل وأقسام الأشعة وغيرها... ويضيف: «ثمة عوامل كثيرة تؤثر في الحالة الطبية، مثل التشخيص الخاطئ، أو حدوث خطأ في نتيجة التحاليل المخبرية، أو عدم وجود تعقيم كافٍ، أو غياب الأجهزة اللازمة، أو مهاجمة البكتيريا للمريض في حال ضعف مناعته، أو عدم استخدام الطرق الصحيحة في مكافحة العدوى من العمال أو المريض وزائريه، وغيرها من الأسباب التي لا حصر لها، والمريض لا يبحث عن الأسباب، لكنه يريد تحميل المسؤولية لأي أحد، وأكثر من 70 في المئة من شكاوى المرضى تكون فقط لعدم رضاهم عن النتيجة».
الدكتور سمير ينتقد أيضاً عدم وجود ثقافة صحية كافية في مصر، إذ يصل الأمر إلى إنشاء مستشفيات في أماكن ملوثة، كما ينتقد تخلّي وزارة الصحّة عن واجبها في تحديث الأجهزة، وتوفير المستلزمات الطبية في المستشفيات، وتقديم خدمة صحية لائقة، إذ إن 50 في المئة من الوفيات تحدث نتيجة قلّة التعقيم ونقص الأدوية.
وفي ختام حديثه، يحذّر الدكتور سمير من تخوّف الأطباء الجدد من المسؤولية الاجتماعية، ومن احتمالية حدوث الأخطاء، فأصبحوا يتجهون إلى تخصصات بعينها تعفيهم من المسؤولية، مما أدى الى ندرة التخصصات الحرجة، مثل الحضانات والجراحة، لذا أصبح الحل في تشارك المسؤولية التضامنية بين المستشفى والطبيب والمريض نفسه.
الدكتورة هنا إسماعيل: البعض يخاف كثيراً من الطبيبة المرأة رغم أن معظم الأخطاء يرتكبها الرجال
في جانب آخر، ترى الدكتورة هنا إسماعيل، طبيبة شابّة في الثلاثين من عمرها، أنّ كثيراً من المرضى في مصر يتخوّفون من الطبيبات، إذ يرون أن النساء لا يُجدن العمل مثل الرجال، رغم أن معظم الأخطاء يرتكبها الرجال. «هنا»، التي تخصّصت في قسم «الجراحة»، واجهت - وفق قولها - سخرية واستهزاء خفياً من كثير من المرضى أثناء عملها في مستشفى أسيوط الجامعي الحكومي، إذ كثيراً ما يستخف المريض بكونها سيّدة وصغيرة في السن، ويتوقع منها أن تُخطئ طبياً، ويبدي لها تشكيكه قائلاً: «يعني إنت هتعرفي وهتفهمي تعالجيني؟». وتضيف: «الثقافة الشعبية في مصر ترى أن الطبيبات يرتكبن الأخطاء ولا يستطعن القيام بمهمات الرجال نفسها، وهو ما ألقى على عاتق الطبيبات جهداً مضاعفاً لدحض هذه الفكرة الظالمة المأخوذة عنهن». وعن تقديرها لحجم الأخطاء الطبية التي يرتكبها الأطباء، قالت إن العدد ليس قليلاً، والسبب الشائع في تلك الحوادث هو الإجهاد غير العادي الذي يتعرض له الطبيب، الذي يحاول معالجة المريض في أسرع وقت ممكن ليُعاين الذي بعده، فينسى أحياناً أدوات طبية داخل الجسم، أو يجرح بدون قصد أعضاء داخلية فيتسبب للمريض بمشكلات أخرى.
الدكتور حسين عبدالهادي: نقابة الأطباء تسعى لإصدار قانون المسؤولية الطبية
من جانبهم، لا يرى الأطباء الصورة من الزاوية نفسها، ويُرجعون الأخطاء الطبية إلى أسباب عدة. يقول الدكتور حسين عبدالهادي، أمين اتحاد المهن الطبية: «ما من طبيب يتعمّد ارتكاب أي خطأ مهني أو طبي، وإنّما قد تحدث مضاعفات للمريض، أو يكون قد تعرّض لانتكاسة بسبب عدم التشخيص الصحيح للمرض، إضافة إلى ذلك، تتحمّل الدولة مسؤولية عدم توفير الأجهزة والمعدّات الضرورية التي تمكّن الأطباء من التشخيص السليم»... ويضيف: «على سبيل المثال، في مصر لدينا محافظات كاملة تفتقر الى أجهزة الأشعّة المقطعية، والآن تسعى نقابة الأطباء لإصدار قانون سُمّي بـ«المسؤولية الطبية»، لتصنيف مستويات الأخطاء وتحديد العقوبات اللازمة وفقاً لنوع الخطأ، إذ يفرّق هذا القانون بين المضاعفات الطبية التي لا دخل للطبيب بها، والخطأ الطبّي غير المتعمّد، وبين الإهمال الذي يعني التقاعس عن تقديم الخدمة الطبية».
في السعودية: إدانة 1237 طبيباً وفنياً بقضايا أخطاء طبية خلال عام
لا تزال قضايا الاخطاء الطبية في تزايد مستمر في السعودية على الرغم من الضوابط الصارمة المفروضة، اذ أوضحت الاحصاءات الرسمية في وزارة الصحة انها بلغت في عام واحد فقط 1759 قضية، منها 1237 إدانة لأطباء وممارسين صحيين. ويرى قانونيون أن التأمين على الاخطاء الطبية قد أدى الى استهتار الأطباء ولا مبالاتهم في تعاطيهم مع المهنة، فاقترحوا رفع سقف العقوبات والتشهير بالمخطئين.
الخولي: ارتفاع معدلات قضايا الأخطاء الطبية
يقول المستشار القانوني المحامي الدكتور عمر الخولي: «من الملاحظ أن الاخطاء الطبية في تزايد مستمر، رغم الصرامة التي تبديها هيئة التخصصات الطبية، ولعل ذلك يرجع الى التأمين على الأخطاء الطبية والذي أدى الى حال من الاستخفاف لدى الممارسين، ففي حال صدور حكم يلزم الممارسين بالتعويض، ستتحمله حكماً شركة التأمين».
ويضيف: «بالنسبة الى العقوبات الخاصة بالمخالفات فهي مرضية. أما العقوبات على الاخطاء الطبية فليست مرضية وذلك لربطها بالدية الشرعية، ومن المفترض أن يصدر قانون يحدد تعويضات كبيرة للمتضررين من الاخطاء الطبية للحد من تزايدها، وتقدّر الدية الشرعية بـ300 ألف ريال للرجل و 150 ألف ريال للمرأة».
احصاءات وزارة الصحة
كشف آخر احصاء صادر عن وزارة الصحة عام 2014 أن عدد الأطباء المدّعى عليهم في قضايا الأخطاء الطبية بلغ 1759 طبيباً من مختلف التخصصات، فيما بلغ عدد المدّعى عليهم من الممارسين الصحيين 1954 ، دين منهم 1237 طبيباً وممارساً. فيما بلغ عدد القضايا التي عرضت على الهيئات الصحية الشرعية نحو 2413 قضية.
وجاء تخصص النساء والولادة في المرتبة الأولى للقرارات الصادرة بـ 203 قرارات بنسبة 39%، يليه تخصص الجراحة العامة بـ115 قراراً، والأمراض الباطنية بـ 100 قرار.
أسباب الخطأ الطبي
يقول نائب مدير الإدارة الطبية في التأمينات الاجتماعية الدكتور فهد البسي : «هناك أخطاء يكون مصدرها التمريض، بسبب عدم إعطاء المعلومة الصحيحة للطبيب، أو عدم التواصل معه، اضافة الى أنَّ الخطأ الطبي يقع نتيجة إهمال الطبيب لمتابعة المريض، سواء بعد العملية أو بعد الكشف العيادي، وأنَّ خبرة الطبيب تشكل 50% في وقوع الخطأ الطبي، وأنَّ عدم الإفصاح عن الأمراض الثانوية له دور رئيس في تفاقم المشكلة».
ويشدَّد البسي على أهمية تقييم عمل الطبيب بشكل سنوي، مُرجعاً وقوع الأطباء في الأخطاء إلى العمل في ما تخصصوا فيه، مُشيراً إلى أنَّ كثرة هذه الأخطاء في المستشفيات الأهلية تعود إلى الاختيار غير السليم للأطباء، إلى جانب الاهتمام بالمردود المالي من دون النظر الى جودة العمل، وأوضح في الوقت نفسه أنَّه لا يمكن التشهير بالطبيب، وإنما بالمنشأة التي يعمل فيها.
أما رئيس اللجنة الوطنية الصحية في مجلس الغرف السعودية الدكتور سامي العبدالكريم فيلفت إلى أنَّ قلة خبرة الطبيب، سبب رئيس في وقوع الأخطاء الطبية في المملكة، مؤكداً صحة ما ذكره 70% من أفراد العينة، من أنَّ وقوع الأخطاء الطبية يعود إلى عدم إفصاح المريض عن الأمراض الثانوية التي يعانيها، ومُبيّناً أنَّ من الخطأ ألا يتم التشدّد في منح التراخيص الصحية للعاملين في المجال الصحي.
ويضيف د. العبدالكريم أنَّ عدم محاسبة الطبيب على أخطائه يزيد من تماديه في الخطأ، ويؤكد صحة ارتكاب 85% من الأطباء غير السعوديين للأخطاء الطبية، رافضاً تحميل المستشفيات الأهلية مسؤولية وقوع الأخطاء الطبية بنسبة 60%، ومقدراً نسبة انتشار الأخطاء الطبية بين الأطباء السعوديين بحوالى 10%.
توفيت والجنين أثناء الولادة
تحولت فرحة السيد ن. خ باستقبال مولوده البكر، إلى حزن عميق بوفاة زوجته ح. آ. م البالغة من العمر 32 عاماً في مستشفى الولادة والأطفال في الدمام. يقول الزوج المفجوع إنه نقل زوجته الى المستشفى لكي تضع مولودها، وتركها هناك حيث لا يسمح للزوج بالدخول الى المستشفى إلا في أوقات الزيارة، مبيناً أنه تلقى اتصالاً من المستشفى صباح اليوم التالي يطلب منه الحضور الى المستشفى للتوقيع على إقرار بالموافقة على إجراء عملية استئصال للرحم نظراً الى تعرض زوجته لنزيف حاد، وموضحاً: «وقَّعت على الإقرار وأبلغوني بأن العملية ضرورية للحفاظ على حياتها، وبقيت في قسم انتظار الرجال أترقب سماع أي خبر عنها، لأتفاجأ بعد ذلك بممرضة تبلغني بأن زوجتي توفيت وعليّ أن أتسلم جثتها».
لم يتلقَّ ن. خ جواباً من أحد حين حاول الاستفسار عن سبب الوفاة، ويقول: «لم يتيحوا لي الفرصة لأتحدث أصلاً، وفي اليوم التالي فوجئت برسالة تصلني من طريق أحد أقاربي، وفحواها أن زوجتي تعرضت في غرفة التوليد لإهمال نتيجة مشاجرة حدثت بين الأطباء المشرفين على حالتها، عمدوا على أثرها إلى شفط الجنين ليخرج جزء من رحمها معه، فأُصيبت بنزيف حاد لم يتمكنوا من إيقافه، وبعدها أُجريت لها جراحة قيصرية لاستئصال الرحم، وفي أثنائها توقف قلبها عن الخفقان وتوفيت».
ويؤكد الخاطر أنه ينوي التقدم بشكوى ضد المستشفى في مديرية الشؤون الصحية للوقوف على حقيقة ما حدث، خصوصاً أنه لم يتلقَّ أي تفسير لما حصل لزوجته من أحد الأطباء أو الممرضين الذين أشرفوا على حالتها، مبيناً أن مولوده توفي في غرفة العناية المركزة.
ومن جهة اخرى، أرجع المتحدث الإعلامي لمديرية الشؤون الصحية في المنطقة الشرقية خالد العصيمي، سبب الوفاة إلى جلطة في السائل الأميني وما استتبع ذلك من مضاعفات، منوهاً إلى أنه كان هناك اتفاق على الإجراءات التي تم اتخاذها من جانب الاستشاريين ذوي الخبرة لإنقاذ حياة المريضة ح. آ. م... ومبيناً أن المريضة استُقبلت في قسم إسعاف النساء وهي تشكو من آلام الولادة ونزول السائل الأميني، ونُقلت إلى غرفة الولادة، لكن بعد ثلاث ساعات، بدا عليها الإرهاق وضيق التنفس مما استدعى نقلها إلى غرفة العمليات لمساعدتها على الولادة، تحت إشراف استشاريي النساء والولادة والتخدير والعناية المركزة، فخرج الجنين وهو يعاني نقصاً في الأوكسجين، وتم إسعافه ووضعه في العناية المركزة، وظهر أيضاً على المريضة تغيُّر في العلامات الحيوية وأُصيبت بنزيف حاد فقدت على أثره الوعي، واتخذت الإجراءات اللازمة لإنقاذ حياتها، لكن بلا جدوى».
مواطن يتهم مستشفى خاصاً بالتسبب في وفاة زوجته أثناء الوضع
يقول الزوج المكلوم ع. ع: «دهمت آلام المخاض زوجتي ت. خ. لتنذر بخروج طفلنا السادس إلى الحياة، ما دفعني الى الذهاب بها إلى المستشفى رغم أنها ما زالت في بداية شهرها التاسع، ولعل إحساسها بما سيحصل لها كان سبباً في رغبتها بمغادرة المستشفى لجلب مستلزمات الطفل والعودة مرة أخرى، لكن لم تنجح كل محاولاتها للخروج من المستشفى، فالطبيبة التي عاينتها أكدت أن زوجتي ستلد ولا مجال لخروجها من المستشفى أو حتى الدخول الى دورة المياه».
يضيف عماد: «دخلت زوجتي فوراً إلى غرفة الولادة برفقة والدتها، وهناك حاولت الطبيبة جاهدة توليدها، وقد تلقت حقنتي طلق اصطناعي، ومضت ساعات عدة ولم تلد، ووفق ما تقول والدتها التي كانت ترافقها أن الطبيبة تسببت لها بنزيف، استدعى نقلها إلى غرفة الولادة، فتم ذلك ووضعت طفلها تميم... بعدها تم إدخال ت. خ إلى غرفة الإنعاش، حيث كانت تنتظرها والدتها، ولكنها لم تكن بخير وكانت تنزف بشدة ولا تقوى على الكلام. وعندما ذهبت إلى المستشفى، فوجئت بزوجتي فاقدة الوعي، فحاولت التحدث مع الطبيبة ولم أفلح في ذلك. وفي المساء أُغلقت أبواب الغرفة وأخلي القسم من الأطباء والإداريين ما اضطرني الى اقتحام الغرفة، لأجد اثنين من عمال النظافة يزيلان آثار الدماء على الأرض، ليخفيا بذلك أي دليل على خضوع زوجتي لعملية جراحية لمحاولة إنقاذها، مما يؤكد وفاتها حين شاهدتها للمرة الأولى... عندها ولّى العاملان هاربين من الخوف، واستدعى أمن المستشفى الشرطة بسبب الغضب الشديد الذي انتابني، وتم سوقي إلى مركز شرطة الكعكية، وسجلت أن سبب وفاة زوجتي جنائي، لكن الضابط أخبرني بأنه يتوجب عليّ تقديم شكوى إضافية في الشؤون الصحية».
لم يكن ع. ع قد امتص الصدمة ليصعق بعد أيام باتصال من مركز شرطة المنصور يخبره بضرورة مراجعة القسم هو وأبناؤه الخمسة لوجود شكوى ضدهم من إدارة المستشفى تتهمهم بالاعتداء على الفريق الطبي وإتلاف الأجهزة الطبية فيها، إضافة إلى علمه بأن إدارة المستشفى تطالبه بتسديد 900 ألف ريال تعادل قيمة الأجهزة المتضررة، مؤكداً أنهم يحاولون بذلك الضغط عليه للتنازل عن شكواه ضدهم.
من جهة أخرى، باشرت اللجنة التي أمر بتشكيلها مدير صحة مكة المكرمة الدكتور مصطفى بلجون التحقيق مع الفريق الطبي الذي أجرى العملية الجراحية للسيدة ت. خ وتسبب في وفاتها، على حد قول أسرتها.
وأوضح متحدث الصحة في المنطقة عبدالوهاب شلبي أن التوجيهات صدرت بتشكيل لجنة من مستشفى الولادة والأطفال في مكة المكرمة جهة الاختصاص للوقوف على الحالة وملف المتوفاة ومعرفة السبب الحقيقي في الحادثة، مؤكداً أن الشؤون الصحية أوقفت سفر الطبيبة حتى الانتهاء من التحقيقات.
التأمين والتعويض
يشير الدكتور فهد العنزي، المتخصص في مجال التأمين، الى أنّه من الصعب تقديم إحصاء موضوعي عن الأخطاء الطبية، وذلك بسبب إحجام نسبة كبيرة ممَّن يتعرضون لهذه الأخطاء أو من ورثهم عن التقدّم بالشكاوى، خاصةً في حالات الوفاة... مبيّناً أنَّه لا يُعرف على وجه الدقة حجم التعويضات في هذا المجال. وإن كانت إحدى كبريات شركات التأمين قد أعلنت عن دفعها تعويضات تقدر بنحو 20 مليون ريال، إلاَّ أنَّ هذه التعويضات لا تُعدّ مؤشراً دقيقاً في قياس نسبة الأخطاء الطبية، موضحاً أنَّ حجم التعويضات التي حكمت بها اللجان الطبية الشرعية متواضع جداً، ومرجعاً ذلك لأسباب عدَّة، منها أنَّ مبلغ الدية المعمول به في السابق كان زهيداً جداً، ولم يكن يتماشى مع المتغيرات الاقتصادية».
ويضيف: «من بين الأسباب أيضاً، أنَّ مفهوم التعويض المعمول به في اللجان الطبية الشرعية وشموليته لأضرار معينة بحاجة إلى مراجعة دقيقة، خصوصاً في ما يتعلق بالأضرار المعنوية والنفسية التي تطاول من وقع ضحية الأخطاء الطبية، وعلى وجه التحديد أولئك الذين تعرضوا لتشوهات جسدية نتيجة هذه الأخطاء، حيث يجب ألا يقتصر الحكم على التعويض على الوفاة أو فقد المنفعة، بل من الضروري أن يشمل التعويض الأضرار المعنوية التي تطاول ضحايا الأخطاء الطبية».
ويؤكد العنزي أنَّ التأمين على الأخطاء الطبية لا يقضي على الأخطاء، ولكنه يساعد في الحد منها، لأنَّ شركات التأمين ستتشدَّد في شروط التغطية التأمينية على الأطباء والممارسين الصحيين، موضحاً أنَّ الهدف من التأمين على الأخطاء الطبية هو ضمان تعويضات مجزية وسريعة للمتضررين من حصول هذه الأخطاء وذويهم، كما أنَّ التأمين يُشكل حافزاً مهماً لضمان عدم تردد اللجان الطبية في الحكم على مرتكبي الأخطاء الطبية في حال كانت بعض جوانب مسألة الإدانة خاضعة لسلطتها التقديرية.
ويختتم حديثه بالقول: «إذا تكرر الخطأ من الطبيب، فإنَّ النتيجة الطبيعية هي رفع القسط التأميني أو التشدّد في شروط تغطية الخطر الذي تمَّ التأمين عليه في السابق، موضحاً أنَّ نسبة رفع مبلغ القسط من جانب شركة التأمين تخضع هنا لاعتبارات عدة، منها عدد الأطباء في المستشفى، ومصلحة الشركة في الإبقاء على العلاقة مع المستشفى أو المركز الصحي، مُبيّناً أنَّ التأمين إذا حصل بين الشركة والطبيب مباشرة، ستكون نسبة رفع مبلغ القسط عالية جداً، مُشيراً إلى أنَّ التأمين على الأخطاء الطبية أمرٌ في مصلحة المريض والطبيب والمستشفى، ومؤكداً أنَّ التأمين يساعد الأطباء على غرس الثقة في عملهم ويجنّبهم الخوف أو التردد في علاج المرضى».
قرارات وإدانات
خطأ التخدير الذي سبّب وفاة طا. ج أدى إلى فتح باب الأخطاء الطبية في المستشفيات السعودية على مصراعيه، علماً أنها واحدة من أكثر من 2500 حالة وفاة سنوياً يُشكك في حصولها نتيجة خطأ طبي.
ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة عن عدد المتضررين من أخطاء الأطباء، كشف وكيل وزارة الصحة للتخطيط والتطوير السابق الدكتور محمد خشيم، في تصريحات صحافية في حينها، أن «مجموع القرارات الخاصة بإدانة أخطاء طبية وصل إلى 670 حالة في 2009، فيما بلغ عدد القرارات الصادرة بها إدانة للحق الخاص 51 والحق العام 130، من خلال 18 هيئة صحية شرعية». وكانت تحقيقات وزارة الصحة قد كشفت عن وفاة 129 شخصاً نتيجة الأخطاء الطبية خلال عام واحد.
وتطرقت الوزارة في تقريرها السنوي الى أن الحالات المعروضة على مراكز الطب الشرعي العام الماضي بلغت 2502 حالة، وجرى تشريح 555 جثة، وبلغت الحالات المعروضة على الهيئات الصحية 1356 حالة، وصدر فيها 650 قراراً من الهيئات الصحية، لافتةً إلى أن عدد الجلسات وصل الى 1598 جلسة.
واحتلت جدّة المقدِّمة بـ 287 حالة معروضة، وصدر فيها 108 قرارات من الهيئة الصحية في جدّة، تلتها الرياض بـ 280 حالة معروضة، وصدر فيها 130 قراراً من الهيئة الصحية في الرياض.
ويؤكد المراقبون أن الأخطاء الطبية التي تشهدها المستشفيات السعودية أكبر بكثير من الإحصاءات الرسمية التي تصدرها وزارة الصحة، لأن كثيراً من الحالات التي يقع فيها خطأ طبي لا تُسجل نتيجة عدم شكوى المتضررين.
ويعتبر الدكتور محمد الخازن العميد المشارك في كلية العلوم الطبية التطبيقية في جامعة الملك سعود الصحية، أن المشكلة تكمن في انعدام الرقابة ودقة رصد الأخطاء الطبية، مؤكداً أن «الجزء الأكبر من المشكلة يعود إلى أن أخطاء كثيرة تقع ولا تُرصد». ويتابع: «في دراسة أُجريت على إحدى المدن الطبية الكبيرة، اتضح أن 41% فقط من الأطباء يلتزمون بتحديد آلام المريض بشكل دقيق، وأن 32% فقط من ملفات المرضى مرتبة بشكل جيد، وأن أغلب الأطباء لا يسجلون تاريخ دخول المريض ولا المرض الذي يعانيه، أو الإسعافات الأولية التي أُجريت له، ولا يصححون حتى الأخطاء الكتابية».
ويطالب الخازن بنظام طبي صارم ودقيق، يمكن أن يكشف الخطأ من دون أن يكون هناك داع لوجود شكوى، مع إصدار تشريعات تجعل العقوبة في حق الطبيب المخطئ صارمة. ويقول: «يجب ألا ننتظر حتى يتقدم ذوو المريض بشكوى. يجب أن تكون هناك متابعة ومراقبة لكل الإجراءات الطبية التي يتم اتخاذها»... مستدركاً: «لكن الرقابة لدينا ضعيفة جداً، كما أن العقوبات التي تتخذ بحق الطبيب المخطئ ضعيفة، فعندما يُغرّم الاستشاري بـ 2000 ريال، بينما يتجاوز راتبه الـ70 ألفاً، فهو لن يهتم بهذه الغرامة البسيطة. لذا، لا بد من أن تُضاعف تلك الغرامات لكي تشكل رادعاً أكبر».
كما يطالب بأن تكون الرقابة والمحاسبة شديدة، مؤكداً أن «هناك مجاملات واضحة في الهيئات الطبية الرقابية، فهي تضم أطباء يجاملون زملاءهم. أما القاضي فلا يملك الخبرة الطبية الكافية ولا يعرف الإجراءات التي تُتخذ، ويقتصر دوره على تحديد الغرامة فقط».
وتترافق الأخطاء الطبية التي تشهدها المملكة مع التأخر في بت القضايا المنظورة في اللجنة الطبية الشرعية، والتي يمكن أن تطول أشهراً عدة.
ويؤيد الدكتور ناصر العود ، أستاذ الخدمة الاجتماعية في جامعه الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، إنشاء محكمة للقضايا الطبية، ويقول: «إن الأرقام كبيرة جداً بحكم التقدم الطبي في السعودية. صحيح أن الأخطاء الطبية طبيعية وموجودة، ولكن يجب أن تكون أقل بكثير من ذلك، فوفاة 129 شخصاً بأخطاء طبية أمر خطير، فما بالك بالأخطاء الأقل؟ كما أن هناك أخطاء كثيرة لا يفصح عنها»... ويتابع: «يجب أن تُستحدث لجنة طبية محايدة من خارج منظومة الصحة، للتأكد من الإجراءات الطبية، لأن هناك الكثير من الممارسات غير المقبولة من الأطباء. نحن بحاجة إلى محكمة طبية تبت في الأخطاء بسرعة» .
أسباب الخطأ الطبي وتداعياته
ويلخص العود أسباب الأخطاء بسوء إعداد الأطباء وعدم المراقبة، مضيفاً أن «الأخطاء متوقعة في ظل ممارسة الكثير من الأطباء العمل في أكثر من مكان وهوسهم بالعمل في القطاع الخاص بحثاً عن المزيد من المال. فما تدفعه المراكز الخاصة أضعاف ما تدفعه المراكز الحكومية. لذا بات الأطباء يعملون أكثر من المعتاد للحصول على رواتب أكبر. وهناك أخطاء تحصل من الإجراءات التجميلية، مثل تصغير المعدة أو التقشير، وهي إجراءات لها خطورتها، ولا حاجة ضرورية لها. فالخطأ الطبي وارد هنا بقوة، في ظل إغراءات شركات التأمين التي تدفع قيمة تلك العمليات».
وينتقد العود الإجراءات النظامية التي تراقب عمل الأطباء، ويطالب بأن يكون هناك تدقيق فيها، ويقول: «لا بد من أن يشتكي المريض لكي تشكل لجنة لدراسة حالته، وهذا خطأ. فلماذا لا تكون هناك لجنة في الأساس، مهمتها مراجعة الإجراءات الطبية، وتحديد هل يحتاج المريض فعلاً الى جراحة أم لا. فالأطباء يستفيدون من العمليات لأنها تُسجل في سجلهم الوظيفي وعلى ضوئها يترقّون إلى رتبة استشاري، لهذا نراهم يبالغون في إجراء عمليات قد لا يكون لها داع. فهناك ممارسات غير أخلاقية موجودة تؤدي إلى أخطاء طبية».
وكانت وزارة الصحة السعودية قد كشفت عن نيتها إعادة النظر في الدية المقدّرة شرعاً، والعمل على زيادتها، فيما ستقوم هي بالادعاء على المخطئ. كما أكدت وزارة الصحة في جلسة الحوار الوطني الثامن للحوار الفكري الذي عُقد في نجران، أنها تعمل على إلزام جميع المنشآت السعودية بمعايير الجودة والتعليم الطبي المستمر للكوادر الصحية والتدريب على المهارات الإكلينيكية، وتطبيق برنامج لقياس الأداء ومؤشراته، واعتماد أساليب العلاج المتعارف عليها واستحداث لجان الجودة والمعايير الصحية في وزارة الصحة والاستمرار في عقد الندوات وورش العمل لرفع المستوى الصحي للعاملين في المجال الصحي. ولا تقتصر الأخطاء الطبية على المملكة وحدها، إذ تكشف إحصاءات عالمية أن هذا النوع من الأخطاء منتشر في جميع أنحاء العالم. ففي بريطانيا، أشارت مجلة متخصصة في الشؤون الطبية إلى أن عدد المتوفين نتيجة هذه الأخطاء وصل إلى 10 آلاف وفاة. أما في الولايات المتحدة الأميركية فبلغ عدد المتوفين بسبب هذه الأخطاء، سنوياً، حوالى 98 ألفاً، وهي أرقام سببت حالة من الذعر بين الأميركيين. إذ إن هذه النسبة تفوق مجموع عدد المتوفين نتيجة حوادث السيارات والطائرات والانتحار والتسمم أو الغرق.
مريم: قضية الفتاة التي حرّكت الرأي العام في سورية
تحولت قصة مريم إلى قضية رأي عام في سورية، فهي لا تزال ضحية الخطأ الطبي الأشهر حتى اليوم، ربما لأن الإعلام قد تداولها بكثرة، أو ربما لأن والدها طبيب واستطاع أن يوصل الحقيقة الى الناس، أو لأن عمر مريم الصغير كان له تأثير في انتشارها.
في البداية ، يقول الدكتور صومي والد مريم: «في شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، دخلت مريم المستشفى لإجراء جراحة هي عبارة عن استئصال ندبة من الثديين كان قد خلّفها عمل جراحي سابق. دخلت مريم غرفة العمليات في تمام الرابعة والنصف بعد الظهر، وكان جو الغرفة بارداً جداً، وبقيت تنتظر نصف ساعة مجيء الطبيب، ولدى وصوله عقّمها بمادة «البوفيدون» الشديدة البرودة لحوالى خمس دقائق وهي تقف على الأرض حافية القدمين، ورغم قولها للطبيب «سأموت من البرد»، حقنها بـ «سيروم» بارد، من دون أن يغطي جسدها جيداً.
وبعد 45 دقيقة على بدء التخدير، أرسل الطبيب الجرّاح بطلبي الى غرفة العمليات، ليأخذ رأيي بتقطيب الجرح بعد العملية، لكنني فوجئت بطبيب التخدير يقوم بتدليك قلب ابنتي لإنعاشه، عندها أدركت أن قلب مريم قد توقف، فأُخضعت من ثم لصدمة كهربائية، أعادتها إلى الحياة من جديد، ونُقلت بعدها إلى غرفة العناية المشددة.
دخلت مريم في غيبوبة دامت حوالى الشهرين، واستيقظت منها، لكن مع تضرر دماغي واضح، ناجم عن الصدمة الباردة التي تعرضت لها خلال العمل الجراحي، فهي اليوم لا تستطيع التركيز، ولا حتى الجلوس أو المشي، مع وجود تشوهات في الأصابع ورسغي اليدين.
أثارت قضية مريم الكثير من الانزعاج لدى الرأي العام، وأُنشئ العديد من الصفحات الداعمة لها، عدا عن الجمعيات الإنسانية التي دعمت التحرك للحد من مشكلة الأخطاء الطبية.
إيمان حبيشة: خطأ طبّي أوصلني الى الموت، وطبيب آخر أعادني الى الحياة
بدأت قصتي عندما شُخّصت آلامي بأنها التهاب حاد في المرارة، وأن حالتي تستدعي تدخلاً جراحياً. وبالفعل خضعت لجراحة تنظيرية لاستئصال المرارة، وبعد يومين من العملية عدت إلى المنزل، وكان الطبيب قد طلب مني شرب الكثير من السوائل، فامتثلت لأوامره، لكن أموري كانت تسوء يوماً بعد يوم، فعانيت انتفاخاً في البطن، وأُصبت من ثم بانهيار عصبي وهبوط حاد في ضغط الدم، مما اضطرني للعودة الى المستشفى من جديد. وعند إجراء صورة شعاعية للبطن، تبين وجود ثقب في الاثني عشر، وأن السوائل التي كنت أشربها لم تكن تدخل معدتي أصلاً، وأن قوة كهرباء الليزر التي استُخدمت في استئصال المرارة ثقبت الاثني عشر والمعدة أيضاً... مما استلزم إجراء جراحة ثانية في بطني لترميم المعدة، فأجريتها لكنها لم تنجح. وبعد شهر على مكوثي في المستشفى، خضعت لجراحة أخرى، وكان مصيرها الفشل أيضاً، إذ بدأت معدتي تتمزق، هذا فضلاً عن التكاليف الباهظة التي تكبّدناها لقاء تلك العمليات وهدر وقتي في المستشفى.
بعد مرور شهر، خضعت لعمل جراحي ثالث، دخلت على أثره في شبه غيبوبة، بحيث لم أعد أقوى على تذكر شيء من ماضيّ، عندها فقد الأطباء الأمل بشفائي، وراحوا يحقنونني بالمخدر بشكل دائم حتى لا أشعر بالآلام، وانتظر الجميع موتي البطيء.
تم تشكيل لجنة أطباء قرروا في نتيجتها أنني أحتاج الى عملية استئصال للمعدة، لكن نقيب أطباء حلب الذي كان ضمن اللجنة لم يوافق على الاستئصال، ورشح الطبيب الكيالي ليجري لي عملية جديدة، لكن الأخير رفض بشدة بسبب تدهور وضعي الصحي، ولخوفه من أن أموت أثناء خضوعي للجراحة ويكون هو المسؤول الوحيد عن كل ما حدث لي منذ البداية... لكن نقيب الأطباء أصر على رأيه، فوافق الطبيب بشرط انتقالي الى مستشفى آخر، وكان له ما أراد، وبالفعل أجرى لي العملية التي كلفتنا أموالاً طائلة، وبعدما وقّع زوجي على تعهد بتحمل مسؤولية قرار إجراء العمل الجراحي والنتائج المترتبة عليه.
بقيت في المستشفى 15 يوماً، بدأت بعدها أحوالي بالتحسن، وعادت إليّ ذاكرتي، ثم طلب مني الطبيب أن أتناول الطعام بتدرج بعد شهور على فقداني الشهية، وكانت العملية ناجحة مئة في المئة، فترميم المعدة تم كما يجب وتخلص الطبيب من الجزء المتضرر منها، وعدت الى منزلي بعد عشرة أيام وعشت حياة طبيعية، حتى أنني لم أحتج الى أخذ أدوية بشكل دائم.
وبعد عودتي إلى الحياة، رفعت قضية ضد الطبيب الأول الذي كان سبباً في كل ما حدث لي، وقد تخلّى عني بعدما أكد للجميع أنني سأموت لا محالة، لكن وضعي المادي السيئ منعني من استكمال الدعوى، والحصول على حقي القانوني.
حلا رسلان: سوء التقطيب خلّف خللاً في حركة أًصابع يدي
مشكلتي مع الخطأ الطبي لم تأت من عمل جراحي أو من مرض عضال، بل إنها ناتجة من قطب جراحية إسعافية في يدي، وهذه هي قصتي: «تعرضت لإصابة بالغة في معصم يدي بعد دخول قطع زجاجية فيها، مما أدى إلى قطع الأوتار والعصب، فحدث خلل في وظائف العصب الزندي، ونزفت الكثير من الدماء، فتم إسعافي ودخلت إلى المستشفى، حيث قطّبوا الأوتار المقطوعة قطباً عدة، وختموا الجرح بقطب خارجية. لكن بعد فترة وجيزة، اكتشفت أن القطب لم تكن ناجحة، وذلك بسبب الورم الذي برز مكان القطب والألم الشديد المصاحب له، والأهم هو الخلل في حركة الأصابع والناتج من ضعف في العصب الزندي، مما جعلني أستعين بطبيب مختص آخر لأجد حلاً لمشكلتي».
لكن ما هو رأي الطب؟
يرى الطبيب غسان فندي أن الطب مهنة إنسانية أكسبتها السنين الطويلة مزايا ومواصفات حكمت على ممارسها بأن يكون متواضعاً ورحيماً ويقدم أفضل ما لديه. وكل مهنة عرضة للاختلاط، لكن المشكلة هي في التفريق بين الخطأ والاختلاط، والأخطاء والاختلاطات الطبية أمر واقع، تتراوح نسبه عالمياً.
وفي سورية عند حدوث الخطأ الطبي تتشكل لجنة طبية مختصة، يكون دورها التحكيم بين الطرفين عن العمل الطبي المقدم، وهل وقع خطأ ما! وبالتالي يكون للنقابة صلاحيات تُنفّذ عبر مجلس مسلكي بأن تفرض غرامة مالية زهيدة على الطبيب المخالف، أو تسحب الشهادة منه مدى الحياة، وهذا الأمر يرتبط بدرجة الخطأ الطبي.
لكن المخجل، لا بل المزعج في الأمر، أن تصبح القضايا الطبية وأسرار المرضى بين أيدي إعلام غير ملتزم، والمبدأ يقضي بأن تكون القضية في يد القضاء الذي يعطي لكل حقه، فالإعلام غير الملتزم يسبب مشاكل للكوادر الطبية ويخلق نوعاً من عدم الطمأنينة في قلوب الناس.
وأحياناً يظهر الطبيب ضعيفاً لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فهناك سر طبي تضطر المحكمة أحياناً الى تأجيل التحدث به، إذ لا يجوز البوح بتلك الأسرار إلا بأمر من القضاء، وذلك حفاظاً على أسرار المهنة وأسرار المريض، بحيث لا تبقى في أروقة المحاكم والنقابة.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024