«باليه معاصر» عن الشعب والسلطة رؤية جديدة لصراعات «روميو وجولييت»
بعد ستّ سنوات على تقديم عرضه «بياض الثلج» ضمن مهرجانات بيت الدين، يعود مصمم الرقص أنجولين برلجوكاج إلى مسرح القصر ذاته ليقدّم عرضاً ارتبط باسمه منذ عام 1990، «روميو وجولييت».
وعلى كثرة الاقتباسات المسرحية والتعبيرية والأوبرالية للنصّ الشكسبيري الأشهر، يُساورك فضولٌ حول القراءة الجديدة التي يمكن أن يأتي بها هذا العرض أو ذاك. فتقصد مهرجانات بيت الدين التي خصّصت لمحبي الرقص عرضين مختلفين، طابعاً وهويةً- أحدهما هندي شعبي (حفلة الافتتاح)، والثاني باليه معاصر (روميو وجولييت- الحفلة الثالثة)- مملوءين برغبة اكتشاف العرض الذي جال مسارح العالم من باريس إلى برلين وميلانو فنيويورك، وقارب الثلاثين عاماً من دون أن يترهّل أو يشيخ. وما إن ينطلق حتى تكتشف مشهداً تلو آخر قوّة هذا العمل الذي يُشارك فيه أربعة وعشرون راقصاً من فرقة برلجوكاج، يمزجون بين الباليه الكلاسيكي والرقص المعاصر وفنون القتال الشعبية... الأنواع التي تُشكّل خلفية برلجوكاج الفنية.
يعتمد العرض على سينوغرافيا متقشفة (ديكور أنكي بلال) لا يرى فيها المشاهد غير جدران جانبية وباب رئيس يتوسط المسرح وفجوات في الحائط تشبه جحور الفئران وعليّة من حديد تُبرزها الإضاءة أحياناً حين يتمشى الشرطي مع كلبه البوليسي الكبير ثم تُخفيها ليغدو التركيز متوجهاً فقط نحو الأجساد الراقصة على المسرح. فالتعبير الحركي- على إيقاع موسيقى سيرج بروكوفييف- يحلّ في العرض المأخوذ أصلاً عن نصّ سردي مكان اللغة، ويصير الأداة لنقل القصة بتلاوينها المختلفة.
درامياً، يتحرّر الكوريغراف الألباني الأصل من قَدَرية التراجيديا بالمعنى الإغريقي لكلمة «قَدَر»، مستعيناً بالواقع الذي يفرض على الإنسان أشخاصاً وأنظمة وقواعد ومحظورات تُسيّر حياته كما لو أنها أمور حتمية لا يمكن إنساناً أن يُغيّر شيئاً فيها. هكذا يبني برلجوكاج، المولود في فرنسا عام 1957، عرض «روميو وجولييت» على قراءة مغايرة بعض الشيء للنصّ المعروف، محمّلاً إيّاه بُعداً سياسياً معادياً للتوتاليتارية التي عانتها أوروبا الشرقية طويلاً.
وبدلاً من أن يكون بطلا القصة، روميو وجولييت، ضحية صراع أزلي بين عائلتيهما النبيلتين في مدينة فيرونا الإيطالية، يُصبح الصراع الطبقي (الاجتماعي- الاقتصادي- السياسي) هو العقبة أمام العاشقين المتيّمين. برلجوكاج يجعل من جولييت ابنة الطبقة النافذة، القوية، المتسلطة. أمّا روميو فهو من الشعب الممنوع من ممارسة حريّاته البديهية، حتى وإن كانت في أن يحبّ من يريد. لا شيء يسوقك إلى معرفة كلّ هذه التفاصيل سوى عاملين: الرقص (برلجوكاج) والملابس (تصميم إنكي بلال وفريد ستحال).
يخرج روميو وأصحابه الفقراء من أوكار تأخذ شكل فجوات أسفل الجدران كفئران تعيش تحت الأرض ولا تخرج إلاّ حينما تشعر بأنها في مأمن من أعين تتربّص بها. يرتدون ملابس خفيفة، ممزقة، بالية، غير أنها لا تُعيق حركتهم. فتراهم يرقصون بحرّية، يضحكون بشراهة، ويتحابّون بلا خوف. تشعر جولييت بأنها تنتمي إلى هذا العالم المريح أكثر من عالمها المقيّد. فنجدها تتشبّه بهم. ترتدي ملابس بيضاء خفيفة تكشف عريها فتبدو كيمامة صغيرة تطير مع النسمة. وتتضّح ضآلتها أمام وصيفتيها الطويلتين، بملابسهما السادو- مازوشية (الأبيض والأسود)، اللتين تلاحقانها كظلّها أينما ذهبت بغية منعها من لقاء روميو وإعادتها إلى القصر. ثمّ يأتي غريم روميو وشلّته (يرمزون إلى السلطة)، يرتدون ملابس معدنية سوداء تجعلهم أشبه بمدرعات لا يمكن أن تنحرف عن الخطّ المرسوم لها سلفاً. وفي العراك الذي يدور بين جماعة السلطة والشعب، تنكشف الفوارق بين الجماعتين، فيبدو الفريق الأول أقوى جسمانياً وأضخم حجماً، بينما الفريق الثاني أكثر خفّة وتحرراً. حركات الطبقة الشعبية تغدو أحياناً بهلوانية من فرط حيويتها، فيما تتحول الدقة المبالغ فيها عند ممثلي الطبقة العليا إلى حالة كوميدية تُثير الضحك في نفس المشاهد.
ينتهي العرض المبني على ثنائيات كثيرة «روميو/ جولييت»، «الشعب/ السلطة»، «القصر/ الجُحر»، «الحب/ الصراع»، «الحياة/ الموت» بالنهاية المعروفة للنص الشكسبيري. يموت روميو انتحاراً بعد اعتقاده بأن جولييت ماتت، لتفعل ما فعله بعد استفاقتها من خدرها. ويُعدّ مشهد الرقص الذي يجمع روميو المفجوع بحبيبته الميتة واحداً من أقوى المشاهد الراقصة في العرض وأجملها.
م. ح
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024