تحميل المجلة الاكترونية عدد 1078

بحث

أهالي السجناء: قصص معاناة وذل وظلم بسبب أخطاء لم يقترفوها محكوم عليهم اجتماعياً

 يُعاقب السجين عادة على الجرم الذي اقترفه، ويقضي محكوميته في الحبس وفق الحكم الصادر بحقه، إذ يمكث في زنزانته بعيداً عن الناس والمجتمع وكل ما يقال ويحدث في الخارج بسببه. أما أهل السجين فيتحملون العواقب، ويُسجنون في مجتمعهم بأسلوب آخر على جرم لم يقترفوه... فوالدا السجين يُلامان على تربيتهما السيئة له، وإخوته يتلقون نظرات الذل بسببه، وأولاده وزوجته يعيشون الحرمان ويشعرون بالعار بسبب فعلته.

هذا باختصار حال أهل السجناء الذين يعانون ويتعذبون بسبب ولد عاق أو زوج مجرم أو أخ نصّاب... فكم من عائلة دُمرت، وكم من أطفال شرّدوا وأودعوا في دور الرعاية، وكم من امرأة تعرضت للذل والتشرد بسبب أخطاء ارتكبها الزوج أو الأب أو الأولاد؟
«لها» التقت عدداً من أهالي السجناء وسلطت الضوء على معاناتهم في هذا التحقيق.


أماني. ن: سجن زوجي أشعرني بالذل والإهانة ودمّر حياتي
أماني واحدة من السيدات اللواتي عانين وتعبن بسبب سجن أزواجهن، فهي وبعد دخول زوجها السجن بتهمة السرقة وحمل السلاح وبعض القضايا الأخرى المخالفة للقانون، شعرت بالقهر والذل والعوز وتعرضت لأبشع المواقف. أماني شابة في الخامسة والثلاثين من عمرها، جميلة، متعلمة، وموظفة في مؤسسة عامة، ولديها طفلان صغيران، الاول بعمر الست سنوات، والثاني في الخامسة من عمره.  تقول أماني: «لم أكن أفكر يوماً بأنني سأواجه كل هذه المواقف الصعبة، وأن حياتي ستتغير بسبب جرم لم أرتكبه. دخول زوجي السجن وضعني في سجن مختلف وقيدني بقيود لا أقوى على تحملها، وكأن زوجة السجين أو أهله عليهم تنفيذ الحكم معه وتحمل نتيجة ما قام هو به».
يوم تزوجت أماني لم تكن تعلم أن بحق زوجها مذكرة توقيف، وأنه ملاحق قضائياً، فهو كان قد أخبرها بأن لديه بعض المشاكل بسبب صحبة السوء وانتهى منها وأنه تاب ولن يعود اليها. لكن تبين لها بعد زواجهما وإنجابهما طفلين أن الواقع مختلف تماماً، وأنه لم يتخلَّ عن أي من خصاله السيئة، خصوصاً معاقرته الخمر وإدمانه الكذب وضروب الاحتيال. تروي أماني قصتها بحرقة وتقول: «في المرة الاولى تم القبض عليه لفترة قصيرة وأُخلي سبيله بسند إقامة، وبعدها بثلاث سنوات أُعيد احتجازه وسُجن مجدداً بعدما صدر بحقة حكم بالسجن مدة سنة. في البداية كان محتجزاً في بيروت وكنت أزوره باستمرار، وأرسل له الطعام كل يوم، ولكن عندما نُقل إلى سجن مدينة طرابلس لم يعد في امكاني زيارته، فدوام عملي الطويل ووجود ولدين معي من دون سند أو معيل أعاقا حركتي ومنعاني من زيارته».
تعيش أماني بمفردها في مدينة بيروت وما من أحد يقف إلى جانبها في محنتها، فأهلها يسكنون في منطقة بعيدة عن العاصمة، وأهل زوجها تنكروا لها ورفضوا مساعدتها والاعتناء بولديها بعد سجن زوجها. تؤكد أماني: «بعد سجن زوجي فوجئت بإقدام شقيقته، وبأسلوب غير شرعي، على بيع سيارتنا المسجّلة باسمي واسم زوجي، واستيلائها على ثمنها بحجة تأمين مصاريف السجن، وحتى إيجار البيتين اللذين يملكهما زوجي سيطر أهله عليه. فجأة وجدت نفسي وحيدة مع ولديَّ ومجردة من كل حقوقي، لا أحد يقف إلى جانبي، أو حتى يسأل عن حاجاتي ومتطلبات ولديَّ. شعرت بالعوز والذل واضطررت لترك منزلي بعد شهرين من الحادثة والانتقال للسكن في غرفة واحدة، مما عرّضني للضيق والاختناق... كان الحمل ثقيلاً عليّ، فراتبي بالكاد يكفي لدفع إيجار الغرفة، وتسديد قسط مدرسة ابني، وراتب السيدة التي تهتم بابني الثاني لأنه كان حديث الولادة يومذاك ولا يمكنني وضعه في حضانة، اضافة الى مصاريف الأكل والشرب والطبابة. أُصبت بالإحباط والحزن والكآبة، وأحسست بأن جميع من حولي يريد ان ينهش لحمي، فكل من يعرف أن زوجي مسجون، كان يرمقني بنظرة دونية أو يلومني لأنني تزوجته أو ما زلت على ذمته. حتى في المخفر حيث كان زوجي موقوفاً، كنت أتعرض للمضايقات والتحرش اللفظي لكوني زوجة سجين، فبعضهم كان يطلب مني رقم هاتفي الخاص، وحاول آخرون التقرب مني بطريقة مبتذلة وكأن زوجة السجين يجب أن تكون سيئة الخُلق وقابلة للبيع والشراء... كنت أشعر بالذل والإهانة، وأتردد ألف مرة قبل الذهاب لزيارته أو لأخذ طعام إليه... نظرات الناس كانت تلاحقني، وتساؤلاتهم المبطنة تقتلني».
دخول زوج أماني السجن صدمها وعذّبها وغيّر كل مسار حياتها، وأشعرها بالقلق وعدم الاطمئنان، القلق على مستقبلها ومستقبل ولديها والحرج أمامهما، خصوصاً أن أهلها بعيدون عنها، ولا يستطيعون مساعدتها بشكل دائم. تقول أماني: «شعرت بالوحدة والخوف، لأنني بتُّ أعيش وحدي مع ولديَّ، وأواجه الأعباء المادية والاجتماعية والنفسية بمفردي. كان الصغيران يسألان عن والدهما باستمرار، وكنت أكذب عليهما وأقول إنه مسافر، وعندما يسألان لماذا لا يتصل بنا، لا أجد جواباً مقنعاً لهما. حاولت كثيراً تضليلهما، وكنت كلما اخبرني ابني بأن رفيقه في المدرسة حضر والده لاصطحابه الى المنزل، أو اشترى له شيئاً، أشعر بالحرج والغصة لحرمانهما من عاطفة الأب واشتياقهما اليه، مما دفعني الى فعل المستحيل حتى لا يسأل ولداي عن أبيهما».
استمر حال أماني على هذا المنوال ما يقارب السنة، وكانت خلالها تعمل وتواجه وتكافح كي تؤمّن حياتها وحياة ولديها بعيداً عن المشاكل والمضايقات. لم ترغب الانفصال عن زوجها خلال فترة سجنه خوفاً من ان يظن أنها استغلت ظروفه الصعبة لتنفصل عنه، خصوصاً أنها كانت تريد لولديها أباً صالحاً يربيهما ويتحمل مسؤوليتهما ويكون دائماً إلى جانبهما. تعترف أماني بأن حياتها وحياة ولديها دُمرت بسبب سجن زوجها، وتؤكد أنه يستحق العقاب الذي ناله، ولكن في الوقت نفسه تسأل ما ذنبها وذنب ولديها حتى تتحمل الوزر وتُحاكم من المجتمع! كان الجميع من حولها ينصحها بتركه، ويبرر لها بعضهم خيانته والبحث عن رجل آخر... توضح أماني: «شعرت بأنني في مهب الريح، الكل يريد استغلالي. أصبحت مديونة للبقال ولمالك المنزل والصيدلي... وملاحقة من بعض اصحاب النفوس الدنيئة الذين كانوا يبررون لي خيانة زوجي المسجون، ويظنون أنني امرأة سهلة. كنت أختنق وأشعر بالخوف والوحدة والضعف وقلة الحيلة، إلا أنني وبإيماني بالله قاومت كل العروض الدنيئة، وحافظت على سمعتي ومستقبل ولديّ».
معاناة أماني كانت كبيرة خلال سجن زوجها وبعد خروجه الى الحرية، فهي رغم حفاظها على سمعتها وتأمين عيش ولديها، فوجئت بعودة زوجها بأفكار سيئة دفعته مراراً لاتهامها بالخيانة لأنها لم تكن تزوره في سجن طرابلس... فلم يقدّر هذا الزوج معاناتها مع ولديها الصغيرين وظروف عملها الصعبة، وبدل أن يلوم أهله الذين تخلّوا عنها وعن ولديهما، وجّه اللوم اليها وأسمعها كلاماً جارحاً، مما اضطرها الى رفع دعوى طلاق والانفصال عنه. تشرح أماني: «لم يهتم لأمري ولا لأمر ولديه، وتنازل لي عنهما بالمحكمة، ورفض دفع نفقتهما ولم يرد رؤيتهما أو تحمل مسؤوليتهما».
تعيش أماني اليوم وحيدة مع ولديها في بيت متواضع، وتحاول تربيتهما وإبعادهما عن المشاكل وطريق السوء بكل ما أوتيت من قوة كي لا يكون مصيرهما كمصير والدهما، فهي ترفض الزواج وتعمل ليل نهار من أجل تعليمهما وتربيتهما تربية صالحة، وبالتالي تحاول نسيان المعاناة التي مرت بها. كما لا تنكر حال الضغط والكآبة التي كانت تتعرض لها أحياناً بسبب سجن زوجها، ولكنها اليوم سعيدة لأنها تخلصت منه بعدما كان سبب تعاستها ومصدر قلق لها ولولديها.

سمير .س: سجن أخيه قضى على حياة العائلة وسمعتها
سمير شاب في العقد الثاني من عمره، كان صغيراً جداً يوم اتُّهم شقيقه الأكبر مع مجموعة من الشبان بقتل رفيقهم بعدما اختلفوا معه لأسباب مادية. يقول سمير: «كنت في العاشرة من عمري، حين علمت أن أخي متهم بقتل صديقه، وأن حكماً بالإعدام صدر في حقه بعدما خضع هو ورفاقه لسلسلة جلسات محاكمة. كان اخي في الـ18 من عمره يوم أُدخل السجن، وهو اليوم في الخامسة والثلاثين، فحكم الإعدام لم يُنفذ بعد وننتظر بفارغ الصبر إلغاءه حتى يطمئن قلبنا على شقيقنا، فهو ما زال يصر على انه مظلوم وأن الحادثة وقعت من طريق الخطأ، ولكن ما من أحد يصدقه أو يصدقنا».
تتألف عائلة سمير من عشرة أفراد، خمسة أشقاء وثلاث شقيقات بالاضافة إلى والدهم ووالدتهم. كان الوالد يعمل ليل نهار في بيع الخضار من أجل تأمين قوت أولاده وتعليمهم وتربيتهم على الفضيلة وحب الخير، وكانت الوالدة تتفانى في خدمة أولادها. لم يفكر الوالدان يوماً بأن كارثة كهذه ستحل بهما، وأن ابنهما البكر الذي يجهدان لتربيته وتعليمه سيقوم بهذا الفعل الشائن. يقول سمير: «يوم تلقى والداي الخبر لم يصدقا وأُصيبا بصدمة كبيرة، فبكيا وانتحبا وحاولا بشتى الوسائل اخفاء الأمر عنا كي لا نتأثر، ولكن بدون جدوى لأن الخبر عُمّم في جميع وسائل الاعلام، وبات الكل يعرف ويسأل ويشير الينا بأصابع الاتهام. أذكر يومها أننا جميعاً شعرنا بالعار والخجل والخوف، وبتنا نهرب من نظرات الناس وأسئلتهم، وراح أبي يصرف كل ما يجنيه على المحاكم وأتعاب المحامين لإنقاذ أخي، مما عرّضه لعجز مالي، واضطره بالتالي لتغيير مدرستنا ونمط حياتنا، ورغم ذلك لم يفلح في تبرئة أخي من التهمة التي أُلصقت به، خصوصاً ان رفاقه اعترفوا بفعلتهم وأفادوا بأنه شاركهم في الجريمة».
هذه الحادثة قلبت حياة أفراد عائلة سمير وأدخلتهم في مشاكل كبيرة، وجعلتهم يعيشون حالاً من القلق والترقب ويواجهون المجتمع بخجل وخوف، مثلاً كانت اخت سمير الكبرى مخطوبة فتركها خطيبها بسبب سمعة أخيها، وتعرض إخوته الصغار لسلسلة مضايقات من رفاقهم في المدرسة، إذ كانوا يصفونهم بـ«إخوة المجرم» وقد يكونون مجرمين مثله، وبات الجميع يخافون منهم ولا يلعبون معهم. حتى في الحيّ حيث يسكنون، منع بعض الأهالي أولادهم من اللعب معهم للأسباب عينها. أما والدة سمير فمرضت وعانت من مضايقات الجيران ولم يعد أحد يزورها، حتى أهلها باتوا يخجلون بها ولا يسألون عنها إلا عبر الهاتف. يقول سمير: «ليس من السهل أن يكون أحد أفراد العائلة مسجوناً، أو متهماً بجريمة قتل، لأن ذلك يدخل العائلة كلها إلى سجن آخر ومختلف كلياً عن الذي يعيش فيه السجين. فهو يسجن في زنزانة، أما نحن فنتقيد بالعادات والتقاليد الاجتماعية البالية. هو يعاقب بالسجن فقط، أما نحن فتأسرنا نظرات الناس وأسلوب تعاملهم معنا، وترهقنا قضيته وزيارته وتأمين حاجاته ومصروفه داخل السجن، فضلاً عن القلق الدائم الذي نعيشه فيما لو تمت الموافقة على تنفيذ حكم الإعدام في لبنان. هو ضاعت حياته في السجن، وتعثّرت في المقابل حياتنا خارج السجن لأننا اضطررنا لتغيير مدرستنا وبيتنا ومجتمعنا. لقد قُضي علينا اجتماعياً وحتى مادياً بسببه، وتعرضنا لسنوات طويلة لأبشع مواقف الذل والإهانة وما زلنا نعاني حتى اليوم».
والد سمير اليوم مريض جداً وقد يفاجئه الموت قبل أن يسعد بلقاء ابنه، فيما والدته تعاني أمراضاً عصبية عدة تجعلها تعيش بشكل دائم على المهدئات. أما إخوته فيحاول كل منهم شق طريقه بصعوبة وتأسيس عائلة سعيدة بعيداً عن سمعة أخيهم والعار الذي ألحقه بهم، فهم كلما ارادوا الارتباط بعائلة ما يتعرضون لسلسلة تساؤلات واستفسارات عن أخيهم ووضعه وسمعته، مما يضطرهم للابتعاد وتغيير المسار.
يحلم سمير اليوم بإيجاد وظيفة محترمة وبناء أسرة سعيدة بعيداً من الخوف والقلق والتوتر، ويتمنى ان يُلغى حكم الإعدام ويُخفف الحكم عن أخيه كي يستطيع الخروج من السجن ويكمل بقية عمره بسلام، لأنه وكما يقول يشعر بالندم والخوف والتعب.

ليال . م: سجن زوجي علامة فارقة غيّرت مسار حياتي
ليال سيدة في العقد الرابع من عمرها، تزوجت منذ سنوات من شاب مسؤول عن شركة للمقاولات، عاشت معه في البدء حياة مليئة بالحب والفرح والاستقرار، لكن بعد مرور عامين على زواجهما تعرض زوجها لنكسة مالية، وبما انه المدير المسؤول عن الشركة، رفع أحد العملاء دعوى قضائية ضده وتمت محاكمته، وسُجن لحين تأمين مستحقات المدعي. تقول ليال: «لم افكر يوماً بأنني سأتعرض أنا الانسانة المتعلمة والمثقفة والمدللة لدى أهلي لهذا الموقف. تفاجأت كثيراً وكانت صدمتي كبيرة يوم أخبرني صديق زوجي بأن الأخير تم القبض عليه وأُدخل السجن. كنت يومها حاملاً في الشهر السابع، لا أعرف كيف أتصرف وماذا أفعل لكي أنقذه. أخبرت أهله فخافوا وابتعدوا وتنصلوا من القضية، فيما أهلي لم يحركوا ساكناً وفضّلوا البقاء بعيداً عن المشاكل لأنهم غير معتادين عليها. يومها شعرت بالخوف والوحدة وبأن السماء أطبقت على الأرض وقُضي عليّ. خفت على مستقبلي ومستقبل طفلي الذي لم يولد بعد، كما خفت على زوجي من حياة السجون ومعاناتها، فهو كان يعيش برفاهية وغير معتاد على الذل والإهانة. في البداية أُودع زوجي في سجن العدلية ونقل بعدها إلى سجن رومية. كانت هذه المرحلة علامة فارقة في حياتي وبداية لسلسلة عذابات ما زلت أعاني آثارها الى اليوم».
تعترف ليال بأنها شعرت بالقهر والعوز، واضطرت لبيع مجوهراتها كي تصرف على نفسها وتؤمّن نفقات السجن، فهي لم تكن تعمل وبحاجة الى مصاريف شخصية لها ولزوجها. تقول ليال: «كنت اذهب كل يوم إلى السجن لآخذ له الطعام، وأتعرض للذل والإهانة. وأهل السجين يُعامَلون كأنهم مجرمون، ويُفتش في أغراضهم بطريقة غير لائقة. أما أثناء المقابلة بين السجين وأهله فلا يمكن التحدث بأشياء خاصة، لأن المواجهة تكون من خلف القضبان، وجميع الأهالي يلتقون مع السجناء في الموعد نفسه، فتنتفي الخصوصية بين السجين وزوجته أو أهله».
حياة ليال انقلبت بعد دخول زوجها السجن وباتت تعيش في قلق دائم، وتشعر بنظرة المجتمع الدونية إليها وإلى زوجها، حتى من أقرب الناس اليها، فأهله لم يعودوا يعاملونها باحترام، وكأنها هي السبب في سجنه، علماً أنها لم تكن تعرف شيئاً عن مشاكله المالية، وأهلها ابتعدوا عنها وفضلوا عدم التدخل، أما المقربون منها فباتوا يعاملونها بحذر، رغم انها لم تخبر جميع الناس بحقيقة سجن زوجها، فكانت كلما سألها أحدهم عنه تخجل وتقول انه خارج البلاد. حتى والد زوجها كان يتأفف عندما تلحّ عليه ليكفل ابنه ويساعده في الخروج من أزمته. تقول ليال: «تعرضت لأبشع أنواع الذل واضطررت للتوقيع في المحكمة بأن جميع أملاكي ستكون بتصرفها في حال لم يتم تأمين المبلغ للمدعي، لأنهم كانوا يظنون أن زوجي قد أودع أمواله باسمي. هذا الوضع أشعرني بالخوف والقلق، وبت لا أعرف النوم والراحة طوال مدة سجنه. كانت تجربة صعبة جداً في حياتي، وما زالت آثارها متراكمة في نفسي، بحيث لا أشعر بالأمان والاستقرار وأحاول دائماً أن أحمي نفسي ومستقبل ابني. خرج زوجي من السجن بعد شهر بسند إقامة وتم بعد فترة سجنه للمرة الثانية، وكان أثناء وجوده في المنزل يتعرض للتهديد وملاحقة عملاء الشركة له. هذه المواقف المتلاحقه أرعبتني وولّدت لدي خوفاً وقلقاً دائماً».
تجربة ليال مع سجن زوجها كانت مؤلمة وصعبة لأنها غيّرت نظرتها إلى الحياة، فهي لم تعد تعيش الاستقرار ولا الفرح وباتت حزينة وكئيبة ووحيدة رغم وجود ابنها في حياتها. لقد فضلت ليال الانفصال عن زوجها بعد سلسلة مشاكل واجهتها بسبب سلوكه وسجنه وعدم قدرته على حمايتها وولدها. تعترف ليال بأنها ظُلمت بسبب ذنب لم تقترفه، وأن حياتها دُمرت بعد سجن زوجها وعدم شعوره بالمسؤولية أمام عائلته، فهو ألقى كل حمله عليها وجعلها تتحمل جزءاً من أخطائه بدون أن يفكر بها وبسمعة عائلته. هي اليوم تعيش مع ابنها عند أهلها وتشعر بالانكسار والكآبة وتحاول النهوض بذاتها من جديد. تقول ليال إن هذه التجربة علمتها الكثير، وتختتم حديثها بالقول: «هذه التجربة علمتني أن لا أحد يساعد أحداً في المحن، والجميع يهرب من المشاكل، فلا أهل ولا دولة ولا أصدقاء يمكنهم مساعدة قريب السجين، لذلك عليه أن يكون قوياً ويحمي نفسه بنفسه، فهو متهم بنظر المجتمع وحتى بنظر أهله».

زينب. ح: سجن أخي أدخل العائلة في دوامة رعب لا نهاية لها
زينب سيدة في العقد الخامس من عمرها فوجئت هي وجميع إخوتها العام الماضي باتهام شقيقها بجريمة قتل صديقته، وهم منذ تلك الفترة يعيشون في دوامة رعب لا يعرفون كيفية الخروج منها. تقول زينب: «عندما حضرت الشرطة وألقت القبض على أخي، شعرنا بأن كارثة حلّت بنا، لأن أخي شاب مسالم ولا يقوى على إيذاء نملة، وهو على علاقة جيدة بصديقته ولا يمكنه قتلها، كما انه أب لثلاثة أولاد ويعمل جاهداً على تربيتهما وتعليمهما. لقد تعبت من الحديث عن الجريمة وعن مصيبة أخي، ومللت وإخوتي التنقل بين محام وآخر لننقذ أخانا من حبل المشنقة، ولكن بدون جدى، فكل الأدلة ضده وهذا ما يقلقنا. لقد غيرت هذه الحادثة حياتنا جميعاً، بدءاً منه هو، إذ فور انتشار الخبر تخلت زوجته عنه وحاولت أخذ أولادها معها، أما والدي ووالدتي فتعبا صحياً ولم يعودا يقويان على تحمل مشكلته أو ذكر أي شيء عنه، فالكل بات ينظر اليهما نظرة دونية أو بشفقة بعدما كانا يفتخران بنا وبتربيتنا، حتى نحن لم نسلم من كلام الناس والأهل والجيران، خصوصاً بعد نشر تفاصيل الجريمة في وسائل الإعلام، اصبحنا نهرب من الناس وأسئلتهم، ونأبى الاحتكاك بغير المقربين منا».
معاناة زينب وأهلها لم تتوقف عند هذا الحد، بل تعدته إلى الأمور المادية، فهم يضطرون شهرياً لدفع مبالغ كبيرة لتأمين طعام لائق لابنهم السجين، ويجرون سلسلة من المعاملات كي يستطيعوا زيارته، إضافة إلى أتعاب المحامين ومتابعة الجلسات التي تتأخر كثيراً. تقول زينب: «سجن أخي قلب حياة العائلة كلها وبتنا لا نعرف طعم الراحة والفرح والاستقرار بسببه، ونشعر جميعنا بأننا مسجونون معه، إذ نفكر بحياته داخل السجن، وبحكم الإعدام الذي ينتظره فيما لو صدر الحكم النهائي بحقه. نحن جميعاً كإخوة متكاتفون مع أخينا، لكن زوجته وأهلها تخلوا عنه وابتعدوا عن مشاكل هم بغنى عنها».
تبكي زينب أخاها بحرقة وتقول إن سجن فرد في العائلة يدخل العائلة كلها في سجن لا خلاص منه، ويعرضها لحكم المجتمع القاسي الذي تحكمه العادات والتقاليد، فنحن اليوم نعاني جميعاً وندفع ثمن جريمة أخينا التي لم يرتكبها، ونؤمن بصدق كلامه ولكن ليس لدينا دليل قوي على ذلك. تتمنى زينب ان تحدث تطورات ايجابية في قضية أخيها ويُخلى سبيله ويتحررون هم أيضاً من سجنهم الكبير، فهم لن يرتاحوا ولن يشعروا بالاستقرار ما دام أخوهم في السجن وحبل المشنقة يقترب من عنقه.

رأي علم الاجتماع
ترى الدكتورة والباحثة الاجتماعية دولة خضر خنافر أن الدخول إلى السجن له اسباب كثيرة وتحكمه ظروف مختلفة، فمنهم من يدخل السجن بتهمة سرقة، أو بسبب اعتداء على أحد الاشخاص، أو لارتكابه جريمة قتل أو اغتصاب أو لمشاركته في تظاهرة احتجاج على الاوضاع المتردية والفساد. فهؤلاء كلهم دخلوا السجن ولكن النظرة اليهم تختلف باختلاف الجرم الذي اقترفوه، وكذلك نظرة الناس إلى أهلهم تُبنى على أساس أن الأهل يتحملون جزءاً من مسؤولية سلوك أولادهم. أما الأهل فيشعرون ببعض المسؤولية والذنب عما اقترفه ابنهم من جرم، وبأنهم لم يحسنوا تربيته فيحاولون الابتعاد عن المجتمع الذي لا يرحم الشاذين والمخالفين لقيم الجماعة وقوانينها.
أما بالنسبة الى النظرة الدونية التي يوجهها المجتمع الى أهل السجين، فتقول: «صحيح ان الأهل مسؤولون عن تنشئة أولادهم على القيم الصحيحة والسليمة، وأن المجتمع ينظر اليهم بدونية إذا ارتكب أحد أبنائهم جرماً، وكأنهم شركاء في الجريمة، ولكنني اعتبر أن القانون لا يلاحقهم إلا اذا كان من ارتكب الجرم قاصراً، أما إذا كان راشداً فيتحمل وحده مسؤولية فعله، وتكون مسؤولية الاهل غير مباشرة والقانون لا يحاسبهم، وقد يحقق معهم لمزيد من المعلومات حول الشخص المعني لا أكثر».
أما كيف يفسر علم النفس هذه الظاهرة ولماذا تصبح عائلة السجين في قفص الاتهام وتحاكم من الجميع رغم ان من اقترف الجريمة او الجنحة هو الشخص نفسه، فترى أن الاهل غير مسؤولين بصورة مباشرة عن سلوك ابنهم، ولا الاولاد مسؤولون عن سلوك أهلهم، ولكن الاهل مسؤولون بصورة غير مباشرة، لأنهم لم يحققوا التوازن في شخصية الابن الذي لم تكن علاقته مع الاهل وبالأخص مع الاب سليمة، فيصبح غير مسؤول عن اعماله ولا يشعر بضرورة الحساب الذاتي. وعليه فعائلة السجين تتحمل المسؤولية عن فعلته نتيجة تربيتهم الخاطئة له وعدم توجيهه الى الطريق الصحيح. كما أن القانون لا يحاسب العائلة أو يحاكمها الا اذا كان لها دور مباشر في الجريمة، كأن تكون قد حرضت على الجريمة او دفعته أو شاركته في تنفيذها».
وترى خنافر أن الناس يخافون من أهل السجين ويبتعدون عنهم وينظرون اليهم نظرة دونية علماً انهم ضحايا، لأن الاهل كما ذكرنا يتحملون جزءاً من المسؤولية عن انحراف اولادهم وجرائمهم، فقد يكون هذا الشخص قد تعرض لحرمان عاطفي من أحد الوالدين، وهذا ما دفعه الى الجنوح وارتكاب الجريمة. أما ان نتخذ موقفاً سلبياً من الاهل ونبتعد عنهم ونخاف منهم، فهذا سلوك غير مبرر، ومن الضروري أن نتعاطف معهم. وتختتم خنافر حديثها بالقول اننا وفي هذه الحالة بالذات لا نبرّئ المجتمع من هذا الوضع، فهو المسؤول عن عدم اندماج المنحرف فيه، وعدم تكيفه معه وانعزاله الاجتماعي. وفي النهاية، يعتبر هذا الشخص ضحية الظروف والاهل والمجتمع.

المجلة الالكترونية

العدد 1078  |  تشرين الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1078