نصيحة الأب لابنه تسببت في قتله
لم يكن المسكين يتخيل أن نصيحة صادقة يوجهها لابنه، أملاً في إصلاح أحواله، سيدفع ثمنها حياته التي قضى منها ثلاثة عقود في تربيته، بعدما كانت كلماته بمثابة قطع من الجمر أشعلت نيراناً في قلب الابن، وصنعت منه شيطاناً تناسى في لحظة كل شيء، فأجهز على والده، وعندما أدرك فعلته حاول التخلص من حياته على الفور.
كان في مقدور الرجل الصمت الذي التزمه طويلاً، لكن حالته الصحية المتدهورة يوماً بعد يوم أجبرته على الكلام، فالغد لن يكون أبداً مثل الأمس، وعلى هذا الشاب الذي يقف متفرجاً كالأبله على سنوات عمره الضائعة، التحرك قبل فوات الأوان ليلحق ما تبقى من قطار العمر.
كلمات الحقيقة
تحدث الرجل وليته لم يبُح بشيء، فكلماته كانت كالسيف المُصلت على رقبته في لحظة كانت صادقة، وتحولت فجأة إلى بركان من الغضب عندما وجد ابنه يوجه اليه إهانة في ما يقول، وهو عبء على كهل في السبعين من عمره، بدلاً من أن يكون يد العون له.
صفارات سيارة إسعاف تنطلق وسط حالة من الزحام المسيطر على شوارع المنطقة الشعبية، تحاول القفز فوق سيارات بدت كأنها لا تتحرك، في محاولة لتلبية استغاثة وردت من أهالي حي حدائق القبة في شرق القاهرة، لإنقاذ شاب ووالده كانا على مقربة من الموت.
توقفت سيارة الإسعاف في أسفل المبنى الذي صدرت منه الاستغاثة، لكن في الأعلى كانت تعلو صرخات لا تتوقف، معلنةً حالة من الحزن ارتسمت على وجوه الجميع، الذين تجمعوا في مشهد بدا وكأنه وداع.
الوداع
داخل المنزل كان المسعف يتوقف بصحبة زميله، وناقلة رفضت أن تحمل الأب وتركته مضرجاً بدمائه بعدما فارق الحياة، في حين نقلت الابن الذي ما زال قلبه ينبض، ليظل شاهداً على ذنب لن تغفره له الأيام.
المشاهد والأحداث فرضت حضور رجال الشرطة لمعاينة جثة مزقتها الطعنات، وسؤال مصاب نقل منذ لحظات إلى أحد المستشفيات لتلقّي إسعافات كانت كفيلة بإنقاذ حياته من ثلاث طعنات مزقت صدره من دون أن تتمكن منه.
«زكي نصار، 75 سنة، موظف بالمعاش، عثر عليه جثة هامدة في شقته، وكان يرتدي كامل ملابسه، وبمعاينة الجثة عثر فيها على طعنة نافذة في الصدر من الجهة اليسرى، تبين أنها كانت السبب في وفاته»... بهذه الكلمات بدأ المقدّم سمير مجدي، رئيس مباحث حدائق القبة، تحرير المحضر الخاص بجريمة القتل التي شهدتها المنطقة قبل أن يبدأ جمع التفاصيل لتحديد الأسباب المؤدية اليها.
رجل مسالم
زكي رجل بسيط، يعرفه أهل المنطقة بطيبته وأخلاقه الحميدة التي لا يختلف عليها اثنان، فالرجل عاش طوال عمره في سلام مع نفسه قبل أن يعيشه مع الآخرين، لا يمتلك من الدنيا سوى زوجة صالحة وابنة خلوقة، أكرمها المولى برجل كان هدية السماء لها... وابن كان مصدر شقاء الرجل وتعاسته.
محمد، 30 سنة، حاصل على إجازة في الحقوق، ومنذ ذلك الوقت يقعد في المنزل بجوار والده بلا عمل، ليس لأنه لا يجد الفرصة المناسبة، وإنما لعدم رغبته في إرهاق نفسه بالبحث عن أي عمل يخوّله أن يصبح محامياً يتفاخر به والده العجوز، كما كان يحلم وما زال، لكن بلا أمل في تحقيق الحلم.
عدم المبالاة
اكتفى محمد بجلوسه في المنزل يأكل ويشرب ويأخذ مصروفاً من والده كما لو كان طفلاً صغيراً، ينفقه في المقهى حين الخروج مع أمثاله من العاطلين، لا يبالي بما يضيعه من وقت، ولا يشغل تفكيره بالبحث عن أي فرصة عمل تحفظ له ماء وجهه أمام نفسه قبل أن تكون أمام والده ووالدته.
بدأ الرجل يشعر بالضيق من حال ابنه الذي لا يجد مبرراً لبقائه بقربه، فرغم أنه في العقد الثامن من عمره، يتمنى لو يسمحون له بالعودة لممارسة وظيفته مرة أخرى.
قرر زكي الخروج عن صمته، وبدأ يطالب ابنه بالبحث عن عمل، خاصة أنه أكمل ثلاثة عقود من دون أن يؤسس منزلاً أو يختار شريكة تُكمل معه مشوار الحياة.
لحظة صدق
في لحظة صدق، قال الأب لابنه: «اليوم أنا موجود وغداً سأرحل، وستجد نفسك بمفردك تتسول قوت يومك، فما الذي يجعلك تصبر على حالك ولا تتحرك لإنقاذ نفسك، غداً ستكون بمفردك، وستندم حين لا ينفع الندم... تملك مؤهلات علمية تجعل منك رجلاً محترماً فلا تدع الفرصة تفوتك».
خرجت كلمات الأب كالسّهام، وأثارت جنون الابن، الذي لم يفهم أن والده لا يريد له إلا الخير، وتحول في لحظة غضب إلى شخص آخر، فانطلق في طريقه يبحث عن أي شيء يُسكت به هذا الأب المسكين... فاستلّ سكيناً من المطبخ وسدد له طعنة قاتلة كانت كفيلة بإسكاته الى الأبد، لا لشيء سوى أنه أراد أن يراه محامياً، يعلو صوته في قاعات المحاكم وهو يدافع عن الأبرياء، فينجح في اقتناص البراءة لهم.
ثوب القاتل
خلع الابن زي المحاماة وارتدى ثوب القاتل، بعدما لوّث يديه بدماء طاهرة لم تقدّم له إلا الخير طيلة حياته، وجاء اليوم الذي رد له الجميل بطعنة قاتلة اخترقت قلبه، وسط صرخات الأم التي وقفت تلطم وجهها لا تدري ماذا تفعل.
أدرك محمد أنه أضاع كل شيء وأنهى بتهوره أجمل أيام عمره، فسدّد بالسكين نفسه ثلاث طعنات الى صدره، لكن القدر أراد له الحياة التي سلبها من والده ليظل يتعذب بذنب ما فعله.
في المستشفى أُجريت الإسعافات اللازمة للقاتل قبل أن يُسمح له بالمغادرة إلى حيث يقبع خلف القضبان، بعدما اعترف بجريمته النكراء.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024