بين وادي رام والبتراء تسكن كل أسرار التاريخ
لم أتخيل يومًا أنني سأقود على رمال متحرّكة، وأخوض عوالم الصحراء بكل تفاصيلها، أترجّح بين صراع الحر ونسائم الصبا، وهي تكسر حرارة الشمس . هذه خلاصة رحلتي إلى أربع من أجمل المناطق في الأردن، البحر الميت ووادي رام والعقبة والبتراء .
لكل واحدة من هذه المناطق سحرها الخاص الذي يرميك بين عوالم الافتراض، فخلال يومين لا ثالث لهما عشت مغامرة قيادة سيارة فورد رباعية الدفع بمختلف أنماطها . فمن الأردن أطلقت شركة « فورد » مجموعتها الجديدة من الشاحنات والسيارات الرباعية الدفع في الشرق الأوسط .
وتحت شعار « لورانس العرب » ، دعت مجموعة من الصحافيين من الشرق الأوسط لخوض تجربة فريدة من نوعها، وسط الصحراء الأردنية، لنعيش تجربة لورانس العرب قبل 100 عام، حين عبر مدة شهرين الصحراء ليحتل العقبة .
اليوم الأول من حياة البحر الميت إلى سحر وادي رام
من فندق «كمبنسكي عشتار» في البحر الميت انطلقنا، بسيارات فورد الرباعية الدفع. جلست إلى جانب السائقة زميلة الرحلة، محاولةً اكتشاف مميزات السيارة، وأهمها بالنسبة إلينا نحن جيل القرن الواحد والعشرين الوايفاي والتكنولوجيا الرقمية، فجعلْ الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي يواكبوننا في كل خطواتنا أثناء رحلاتنا صار ضرورة، بعضنا يفعلها لإثارة الغيرة، ويفعلها بعضنا الآخر ليشارك محبيه صور مشاهد يمتّع ناظريه بها. وسيارة فورد توفر هذه الخدمة.
على طول الطريق كان البحر الميت رفيقنا المالح يغدق علينا حلاوة المشاهد البانورامية، إلى أن وصلنا إلى نقطة العبور نحو وادي رام.
بدأنا الصعود بين قمم صخرية تبهرك بأشكالها المنحوتة بدقة فريدة لا بد من أن تستوقفك روعتها وتطلق العنان لمخيلتك في تحديد هويتها، ساعة من القيادة وسط عالم يسكنه مردة الطبيعة الصامتون منذ آلاف السنين، يبدون أنهم يسعون لملامسة السماء، وكان تلاعب الرياح من نافذة السيارة يُسمعني صدى الأساطير تهمس في أذني روايات تشبه الأشكال الفريدة للصخور التي تتغير ألوانها مع دوران الأرض حول الشمس، ودوران السيارة بين أروقتها وطلعاتها ونزلاتها، تمنيت لو أنني صقر أتخذ في إحدى هذه القمم وكرًا أعيش فيه إلى الأبد، أنظر من عليائها إلى البحر الذي سمّوه «ميتًا» رغم الحياة التي تضج حوله.
هنا عند أقدام الأعمدة السبعة بدأت المغامرة
بعد مسارات عدة حصل تبديل في قيادة السيارة، إذ الهدف تجربة كل نمط من سيارة فورد الرباعية الدفع. بعدما اعتدت على قيادة فورد أكسبلورر، كان عليّ قيادة أف 150 .
في البداية شعرت بالتردّد إذ لم أقد مرة شبه شاحنة، ولكن بمجرد جلوسي وراء المقود، شعرت بأن المغامرة الحقيقية قد بدأت. ورغم ضخامة هذه السيارة، فإن قيادتها انسيابية إلى درجة تنسين معها أنها شبه شاحنة. وبعد حوالى الأربع ساعات من القيادة وصلنا إلى مدخل الصحراء، استحضرت لورانس العرب، وتساءلت عن ردّ فعله فيما لو علم أنه بعد 100 عام سوف يأتي من يعبر هذه المسافة خلال أربع ساعات...، لقد اقتربنا من وادي رام، أخذ حسن زمام القيادة، بدأ الأوف - رود Off-Road على رمال صحراوية، وبدأ معه تذمري، إذ كيف لا يمكن الوثوق بقيادتي! إلى أن قطع لي وعدًا عند الوصول إلى المخيم الصحراوي، وكان لي ما أردت.
بالفعل القيادة على أمواج الكثبان الرملية فيها متعة لا توصف، شرطها الأول ألا تستعملي المكابح، وإلاّ ستغرق السيارة في بحر الرمال. الشرط الثاني لا تقاومي حركة أمواج الرمال، فبينها وبين السيارة حوار خاص لا تعكريه بخوفك عندما تقفز بك السيارة، بل استمتعي بالمغامرة كما كنت تفعلين أيام طفولتك مع من لم يكن يحب القفز... الفارق هنا أن أحدًا لن يردعك، كما لن يمكنك ثني السيارة عن القفز فوق الرمال... للحظة تخيلت أنني أشارك في فيلم Fast & Furious، بل تقمصت الدور وكنت سريعة، ولكنني لم أكن غاضبة، بل أشعر بمتعة القيادة.
بعدما اقتنع حسن بقدرتي على القيام بالأوف- رود، عدت إلى المخيم الصحراوي لتناول الغداء، ولكنني لم أجد أحدًا في الخيمة، فالجميع كانوا في الفناء الخلفي ينتظرون لحظة إخراج اللحم من الحفرة- الفرن.
كانت لحظة طريفة، الكل يتسابق لالتقاط الصور، والطبّاخ يستعرض مهارته أمامنا. لا بد وأنتِ في المخيم الصحراوي من أن تفكري في حياة البدو، كيف أنهم متماهون مع الصحراء يعشقونها، وهي تبادلهم العشق، وإلا كيف يمكن تفسير بقائهم فيها يعيشون تبعًا لفطرتها!
بعد الغداء بدأت المرحلة الثانية من المغامرة، وهي التوجّه إلى وادي رام، إلى أعمدة الحكمة السبعة، التي سحرت لورانس العرب وألّف كتابًا اقتبس اسمه منها: «أعمدة الحكمة السبعة».
فهذا الكاتب والمغامر والضابط الإنكليزي عشق الصحراء العربية، وفضّلها على بريطانيا بلده الأم، وعندما وصلنا إليها أدركت السبب الذي جعله مأخوذًا بهذا الوادي إلى درجة أنه تعلّم اللغة العربية، وأتقن لهجة سكان الصحراء واكتسب عاداتهم وتقاليدهم، وشارك في الثورة العربية التي اندلعت بين عامي 1916 و1918 تحت قيادة فيصل بن الحسين ضد العثمانيين والأوروبيين. وكذلك أحبّه العرب ولقّبوه بـ «لورانس العرب».
كما أدركت سر شغف هوليوود بهذا المكان الذي سحر عدساتها فعكست بعضًا من تاريخه الإنساني في فيلمي «لورانس العرب» و«إنديانا جونز وآخر الحملات الصليبية».
فهو ليس واديًا صحروايًا كما هو متعارف عليه حيث الكثبان لا حدود لها، بل هو وادٍ يسكن سحر غريب بين صخوره العمودية، وجباله التي تتدرّج ألوانها من الرمادي الداكن إلى الزهري إلى الأصفر الذهبي يسودها الأحمر الذي يستريح على قممها فيضيف إلى المكان روعة تأخذ الألباب حين الوقوف عند أقدام هذه الصخور المغروسة في الرمال والتي خضعت لمعول الزمن الذي تفنن في نحتها خلال 30 مليون سنة، فهي أقدم طبقات القشرة الأرضية.
واليوم وبعد آلاف القرون من الحوادث الجيولوجية، تقف هذه القمم الصخرية ببهاء أشعرني بالرهبة، وتذكرت وصف لورانس في كتابه «حكمة الأعمدة السبعة»... «فجأة خيّمت الرهبة على قافلتنا الصغيرة، وغرقنا جميعًا في صمت مهيب، فانتابنا شعور بالخجل في حضور هذا المشهد الساحر... في أحلام الطفولة تبدو الطبيعة ساكنة ورحبة لا حدود لها»، رغم أن قافلتنا العصرية لم يخيّم عليها الصمت، بل الدهشة وشراهة التقاط الصور.
الطريق إلى العقبة يمر عبر قطار وحكاية ثورة
عندما سألت رشا عن المسافة بين وادي رام والعقبة، كانت تتردّد في الإجابة إلى أن كشفت لنا المفاجأة التي تنتظرنا: المشاركة في عرض تاريخي ممسرح. أما تفاصيله فكانت المغامرة التي لا تنسى.
وصلنا إلى محطة قطار وادي رام، هذا القطار الذي يعود إلى أوائل القرن الماضي، وكان خطًا يصل الحجاز والأردن وبلاد الشام.
تغيرت خريطة العرب بعد «سايكس بيكو»، ولكن التاريخ بقي شاهدًا على الوحدة التي كانت تحكم سكة الحديد.
انقسمنا فريقين، فريق جلس في مقصورة القطار، وآخر قاد السيارة ليشارك في غزونا... إنه عرض حي للثورة الكبرى التي انطلق بها الشريف حسين، هنا على هذا القطار هاجم الشريف حسين الأتراك واعتقلهم وأعلن الثورة الكبرى وتحرير الولايات العربية من القبضة العثمانية.
سار القطار مسافة نصف ساعة لنواجه فجأة غارة حقيقية: أزيز رصاص، صهيل أحصنة وصيحات... لقد دخلت لعبة أولى ثورات التحرير العربية، وإن كان بعضنا قد أُسر بإرادته، لكن يبقى طعم الأسر مرًّا.
معلومة : يقام هذا العرض المسرحي يوميًا وتنظمه وزارة السياحة الأردنية.
أخيرًا بعد أربع ساعات وصلنا إلى العقبة، إلى فندق كمبنسكي المستريح عند أحد شواطئ البحر الأحمر، ومن الأرض إلى التأرجح في هذا البحر على متن قارب سندباد، لحظة الغروب حيث تراءت لنا مصر وفلسطين القريبة المسافة والبعيدة المنال.
البتراء المدينة التي لا تبهت ألوانها الوردية
في صباح اليوم الثاني انطلقنا نحو البتراء المدينة التي شغلت مخيّلة الأدباء بنسيج من الروايات التي حاكها التاريخ بين متاهات أودية صخرية ينبعث منها اللون الوردي.
عرفت هذه المدينة للمرّة الأولى في طفولتي عبر فيروز في مسرحية «بترا» وكنت أعتقد أنها قصة افتراضية، ولكن عندما صرت مراهقة عرفت أنها مدينة واقعية تقبع جنوب عمان عاصمة الأردن، واسمها البتراء. كانت معرفتي بالبتراء الممسرحة كافية لإثارة فضولي للتعرّف إلى هذه المدينة الملقّبة بالمدينة الوردية.
عكست المسرحية أطماع الرومان، في تلك الحقبة من الزمن، بهذه المدينة التي بناها العرب الأنباط قبل أكثر من ألفي سنة.
وفي التاريخ أن مملكة الأنباط امتدت إلى دمشق وشملت جزءًا من صحراء سيناء والنقب. وشكّلت المملكة تهديدًا للرومان بسبب ازدهارها الثقافي والعمراني، وسيطرتها على الطرق التجارية، والقوافل التي كانت تعبرها، فألحقها الإمبراطور تراجان سنة 106 ميلادية بالإمبراطورية الرومانية، وجعلها ولاية عربية تابعة لها عاصمتها البتراء.
وفي عهد الرومان شهدت البتراء تدهورًا اقتصاديًا وأفل نجمها. كلما اقتربت السيارة من البتراء، زادت خشيتي من ألا تكون هذه المدينة كما شكّلتها ذاكرتي الفيروزية، أو تعكس الصور التي أراها على الانترنت أو التلفزيون، فأحيانًا خيالنا يشطح في عوالم افتراضية مستحيل أن تتحوّل واقعًا.
وصلنا إلى البتراء، وكانت المدينة قد غصّت بالسياح الذين جاؤوا من كل بقاع الأرض ليرموا أنفسهم بين أحضان تاريخها العظيم.
عند مدخل المدينة الأثرية سوق تتوسطه ساحة تزنرها متاجر بيع التذكارات ومقاهٍ، ومدرج. اخترقنا بوابة العبور من الممرات المفتوحة على الهواء، والتي ذكّرتني بكابادوكيا التركية، غير أن الفارق بين المدينتين أن بيوت كابادوكيا الصخرية حفرتها أيادي الطبيعة عبر الأزمان، بينما توالت على البتراء وقصورها ومعابدها يدا الإنسان فتفنّنتا في نحتها لتنبثق مدينة أقل ما يقال عنها إنها رائعة من روائع الفن الإنساني.
انطلاقًا من ممر ضيّق طويل يعرف بالسيق، بدأت رحلتي في هذه المدينة الوردية التي شعرت برهبتها وأنا أعبر الرواق الذي يبلغ طوله كيلومترًا ونصف الكيلومتر وأتأمل جدرانه الشاهقة التي يصل ارتفاعها إلى 100 متر والتي نُقشت عليها لغات قديمة، وحفرت فيها غرف لأقف فجأة أمام صرح ضخم.
إنها «الخزنة» التي تقبع في أعلاها جرة يقال إن كنوزًا من الذهب والجواهر الثمينة كانت تُحفظ فيها، لذا أطلقوا على هذا الصرح اسم «الخزنة».
الخزنة حيث كل أسرار امبراطوريات التاريخ
تتميز الخزنة بأسلوب الفن المعماري الهليني. يبلغ عرضها 30 مترًا وارتفاعها 43 مترًا. ويعتقد علماء الآثار أن هذه الخزنة التي نحتت في القرن الأوّل للميلاد استعملت في البدء كضريح لأحد ملوك الأنباط ومن ثم تحوّلت إلى معبد، ونقشت على واجهتها شخصيات ميثولوجية وأبطال أسطوريون.
لم نزر كل أروقة البتراء وتفاصيلها، بل كان علينا المغادرة إلى مطار الملكة علياء الدولي في عمان، ولكن كان يكفي أن أقف أمام الخزنة وأسير في الرواق العابر للتاريخ حتى أُشبع بعضًا من فضولي، وأطبع في ذاكرتي صورًا لإحدى عجائب الدنيا السبع، ولمشاهد بانورامية لأدنى نقطة على سطح الكرة الأرضية، ولجبال صخرية عمرها من عمر الحياة.
نصيحة محرّرة
● إذا قررت السفر لمغامرة أوف- رود في الصحراء، عليك ارتداء ثياب فضفاضة فاتحة كي تتجنبي حر الصحراء وحروق الشمس، وكذلك اعتمار القبعة، ووضع النظارات الشمسية التي لا يمكن الاستغناء عنها.
● عليك شرب الكثير من الماء ووضع واقي الشمس بشكل مستمر تفاديًا للحروق.
● في الأردن إذا أردت أن تطلبي منفضة، عليك أن تسألي النادل جلب «ميكيتا».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024