ذاكرة الصحراء في «الذئاب لا تنسى»
«الذئاب لا تنسى» (دار الآداب)، رواية جديدة للسورية لينا هويان الحسن، تحكي فيها الكاتبة قصتها، أو ربما قصة أخيها ياسر، الذي قضى- ظُلماً- في حرب بلادها العبثية. خسارته ولّدت في داخلها حقداً ورغبةً في تأثيم الجميع... كلّ من كانت له يد في تلك الحرب العبثية.
أسئلة أبناء شقيقها ودموعهم، صرخة أمها، حزن الناس، تشرّد الأطفال، كآبة البادية الساحرة... هذا جزء من أشياء كثيرة أخرى عمّقت الألم داخل الكاتبة حتى ما عادت قادرة على احتماله. ولم تجد سبيلاً للخلاص من حزنها إلاّ بالكتابة. تتخذ «الورقة» درباً جديدة تقتل فيها «وحوش التذكّر» لعلها تشفى من ألمها العميق.
تكتب روايتها في بيروت، بينما تنتقل بالذاكرة إلى البادية، هناك حيث لعبت مع شقيقها ياسر وراقبا معاً حركة الصقور والذئاب.
تفتتح الكاتبة روايتها بمشهد يجمعها بشقيقيها، وائل ومرام، متجهين صوب البادية، حيث دُفن شقيقهم ياسر. تسير الحافلات كأنها ضمن قوافل الموت. الخوف يسيطر على الركاب. نظراتهم زائغة، حركاتهم متوترة، يرتدون الأسود حزناً على قريب رحل مقتولاً. تجلس الكاتبة في «البولمان» وهي ترتدي حجاباً وعباءة مع نظّارتين. تلتفت حولها، فلا ترى شيئاً يُنذر بالحياة. الموت يرتسم في الطرق وفي العيون. تجابه خوفها الآني بذكريات جميلة من طفولتها مع ياسر. تستعيد وجوهاً عرفتها طفلةً في البادية. «فريال»، خاتون عمشة، خالها وصقره غنّام، الذئاب...
تبدو معرفة الكاتبة واسعة بالصحراء وعوالمها، وهذا ليس جديداً على لينا هويان، التي اختارت منذ بداياتها أن تكون رواياتها ذاكرةً أمينة لعوالم الصحراء وأسرارها. فكتبت صاحبة «سلطانات الرمل» أعمالاً كثيرة أظهرت وجه الصحراء بعينٍ أنثوية، مستعينةً بما عرفته عن الصحراء من عائلتها ووالدها، إضافة إلى ما عايشته هي نفسها خلال مرحلة من حياتها. وهذه العلاقة الأثيرة بين الكاتبة وباديتها تبدو جليةً في هذه الرواية الغنية بمعلومات عن الصحراء وكائناتها وتفاصيل حياتهم فيها. فتختار الكاتبة - على امتداد روايتها - استعاراتٍ تُماهي بين حيوان الصحراء وإنسانه. فالبدو يمتلكون ذاكرة متينة، أصيلة، يجابهون بها الحركة المستديمة في حياتهم. والذئاب أيضاً لا تنسى، هي التي تظلّ تعوي طويلاً حزناً على من تحبهم.
ياسر (الغائب/ الحاضر) وشقيقته (الراوية) هما بطلا الرواية. لكنّ القارئ قد يستخلص في النهاية أنّ ثمة بطلاً ثالثاً، بل إنه البطل الفعلي للرواية، «الذئبة». حضور الذئبة يبدو ساطعاً منذ بداية الرواية، ثم يتطوّر لتغدو الذئبة صورةً تُطارِد الراوية، هي التي سمعت في طفولتها ذئبة تعوي عواءً هادراً، طويلاً، حزيناً. ثم علمت في ما بعد أنها تبكي طفلها المقتول، واستمرّ أنينها سنوات كثيرة من دون أن يُفارق صوتها ذاكرة الراوية. وحين خسرت شقيقها بعد ثلاثين عاماً، أطلقت أمها صرخة مفجوعة بقوة عواء الذئبة وألمها. بل إنّ عويل السوريين جميعاً غدا معادلاً لصوت الذئبة الحزينة: «كلّ السوريين يبكون. لا استثناءات. البكاء قدرنا».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024