بحر أخضر
يخيّل إليّ أنني لم أقم بهذه الرحلة. كأنّني حلمت بأحداث روايات قرأتها في صغري أو بمشاهد من أفلام قديمة. ركبتُ القطار الذي سُمّي “أورينت إكسبرس” واعتُبر في أواخر القرن التاسع عشر وعقود من القرن العشرين نموذجاً للسفر المريح والأنيق حين كان التنقّل من بلد إلى آخر تجربة مضنية. اختيار هذا القطار الآن يتمّ بدافع التلصّص على الماضي الساحر والاستمتاع برحلة هدفها التسلية في شكل أساسي. لكنني للحظات بقيت هناك، في الماضي الموصوف بالجمال. هي محطة من محطات الهروب من الحاضر، ومن نفسي والأسئلة المعلّقة. وصلت إلى الماضي. ملأت الموسيقى أرجاء القصر القديم. ترتفع أنغامها إلى السقوف العالية. رهبة التاريخ حاضرة والوفاء له مستمرّ. أهم وجوه التحضّر احترام الماضي والتعلّم منه، احترام إنجازات مَن سبقونا في العيش. لا حاجة للقول إن التاريخ جزء من المستقبل. هي حقيقة مقدّسة في بلدان عريقة، إلا أنه يُطمس ويُداس ويُدمّر من أجل الأطماع الآنية في مدن نعرفها جيداً. من نوافذ القصر يطلّ لون أخضر أصليٌ قويٌّ يمتدّ على مساحات واسعة، ولا يشبه الأخضر الذي نعرفه. “بحر أخضر”، قلت وابتسمت. المشاهد في القصر ساحرة بدورها. ضعت في تأمل المرايا الضخمة والسقوف المزخرفة والثريات التي تتدلّى منها أجمل القصص. وحدها الموسيقى أنذرتني وطاردتني بالسؤال: ما الذي تفعلينه هنا؟
عدت سريعاً إلى الحاضر. أركض إلى حيث تركت الصحيفة. ألتهم الكلمات. هوايتي حين أسافر الاستماع إلى نشرات الأخبار المحلّية. أبتسم لأقاوم الغصّة. أخبار عن أنواع نادرة من الزهور، وعن مهرجان مطاردة قطعة الجبنة، وهو تقليد إنكليزي قديم، وأخرى عمّا يأكله التلاميذ في المدرسة، وطبعاً تحاليل تدافع عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأخرى تتمسّك بأهمية بقائها فيه. أما أخبارنا نحن، فبطلها الموت الرخيص والوحشي، وتدور حول حروب هي قصصنا اليومية وتاريخنا الذي لا نجتمع على احترامه.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024