رسوم
أول ما نرسمه على ورقة في المدرسة، بعد خربشات الطفولة الأولى، بيت يغطّي سطحه قرميد أحمر، وسط حديقة لا ننسى أن نرسم زهورها، شقائق النعمان والأقحوان والورود. نهتمّ بتلوين الصورة، كأننا نعرف تماماً ما نرسمه، كأننا عشنا في البيت، وتمتعنا بمنظر حديقته. كأننا نتنشق روائح الطبيعة المرسومة وهواء نقياً خفيفاً. لكننا ولدنا في عمارات شاهقة، وعشنا في شقق وأحياء، في شوارع وأزقة حيث الهواء ثقيل وروائحه عدوانية ودائمة التبدل. ثم يحدث أن نزور الجبال القريبة التي ما زلنا نتغنّى بما تبقّى من أخضر يكسوها، بعضها فقد رداءه الشتوي الأبيض بسبب التغيّرات المناخية المخيفة. يحدث أيضاً أن نسافر، أن نهمل خلال أيام قليلة المدن التي نتنفس زحمتها ونعشق مشاهد العيش فيها، فنجد أنفسنا في حقول خضراء بين تلال وبيوت تقدم فرص القبض على أسرار العيش ومعانيه. الهدوء، النادر حيث أعيش، حصلتُ عليه في رحلة قمت بها أخيراً. وجدتني بعيدة عن المدينة، مزروعة بين أشجار خلابة وزهور تحاورني عطورها بصمت. حاولت أن أخبىء الهدوء في حقائبي، أن أسأل نفسي الأسئلة المؤجلة بسبب زحمة حياتي اليومية. الاستسلام لإيقاع الطبيعة يعيد ثقتنا في الحياة وفي معاني وجودنا. يمنحنا ترف التفكير بهدوء وتقدير أمّنا الأرض وبقاعها الساحرة. يمنحنا أيضاً الصحة النفسية والجسدية إذا تمشينا في قلب الطبيعة وتعرّفنا إلى التلال والجبال والأعشاب والزهور والغيوم. أنستنا أيامنا السريعة في أزقة المدينة علاقتنا بالطبيعة وتقديرنا لها. بعدما دمّرْنا الكوكب ندّعي الآن صحوة متأخرة لحماية الأزرق والأخضر على سطحه. رسم آخر أضعناه من أيام الطفولة، الكوكب الأزرق يصرخ.
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024