من ويندسور إلى ستراتفورد: رحلة بين عالمي الملوك والأدب
تركت لندن ومزاج ربيعها المتقلب، لأمضي يومين في ستراتفورد، المدينة التي وُلد فيها شكسبير وعاش حتى منتصف العقد العشرين من عمره. وبين المدينتين سوف نعبر بعالم الملوك في بلدة ويندسور، حيث قلعة ويندسور الملكية.
دارت بنا الحافلة في مسارات رحبة معبّدة بالأخضر، أحيانًا يرسم سقفها سحبًا ربيعية، وأخرى يخرقها بإشعاعات الشمس، فتتبدل انعكاسات المشاهد وفق مزاج الطبيعة.
بعد حوالى الساعتين على انطلاقنا من لندن، وصلنا إلى محطة استراحة تجاور محطة وندسور أند إيتون المركزية، وهي واحدة من محطتين تخدم إحداهما مدينة وندسور، بيركشاير. ورغم أن جزءًا صغيرًا لا يزال محطة للسكك الحديد، فإن قسمًا كبيرًا من أبنية المحطة تم تحويله إلى مركز للتسوق السياحي، اسمه ويندسور رويال شوبينغ Windsor Royal Shopping يقع في القسم العلوي المقابل للمدخل الرئيس لقلعة وندسور.
وعلى مسافة أمتار من المحطة، تقع استوديوات باين وود Pinewood Studios للإنتاج السينمائي، وقد صُوّر في هذه المحطة بعض مشاهد فيلم Carry On Loving من سلسلة Carry On الكوميدية.
قلعة ويندسور عالم الملوك مفتوح على الشعب
عبرنا في بلدة جميلة أبنيتها أتت على النمط الفيكتوري، بطبقتين أو ثلاث... وحدها قلعة ويندسور كانت العملاقة التي تشرف على كل تفاصيل البلدة. لفتني أن الطريق إليها لم يكن مغلقًا أو مرصوصاً بالحواجز الأمنية كما هو الحال في لبنان، وإنما مفتوح أمام السياح والزوار، رغم أن الملكة إليزابيث تمضي فيه عطلتها الأسبوعية والإجازات. أما الإشارة الوحيدة التي يعلم من خلالها سكان البلدة أن الملكة في القصر، فهي عندما تكون الراية مرفوعة عند أعلى البرج. وقد كانت مرفوعة يوم زرناها.
توجهنا نحو المدخل الغربي حيث البهو الأوسط مفتوح، ثم عبرنا إلى بوابة تؤدي إلى الشمال من البهو. وتحرس المخرج الشرقي من الجناح فرقة نورمان للحراسة. يعود تاريخ هذه البوّابة إلى القرن الرابع عشر وقد زُينت بنقوش رائعة، وأقنعة أسود من القرون الوسطى، ورموز ملكية تقليدية، لتكون مدخلاً مثيرًا للإعجاب في الحديقة العليا للقلعة.
وقد أُعيد تصميم الجزء الخارجي، وفي وقت لاحق في القرن التاسع عشر. بعدما عبرنا نقطة التفتيش عند مدخل القلعة، بدأت جولتنا. تمتد القلعة على مساحة 5,3 هكتار تجمع بين ملامح حصن، قصر، ومدينة صغيرة. جاء التصميم على النمطين الجورجي والفيكتوري المستوحيين من القرون الوسطى، مع ميزات قوطية تم ابتكارها على الطراز الحديث.
في حضرة ملوك بريطانيا ذاك الزمان
تضم الحدائق العليا للقلعة عددًا من المباني الرئيسة المحاطة بالأسوار، لتشكّل باحة مركزية. ولجنا في قلب المباني المفتوحة للسياح.
أدخلتني الأجنحة بدقة تصاميمها وأثاثها الفخم إلى عوالم الملوك الذين حكموا بريطانيا على مر العصور. السيوف المعلّقة والمسدّسات والبنادق التي كان يستعملها الفرسان تشي باعتزاز البريطانيين بأمجاد تاريخهم، ولمَ لا؟ ألم يكن لقبها المملكة التي لا تغيب عنها الشمس! تعرفت إلى تفاصيل حياة الملوك، وتخيلت «السيرات والليديات» يتمايلن في صالونات القصر.
وجعلتني واترلو تشامبر أتخيل السير توماس لورانس يحتفل وجنوده بخسارة نابليون بونابرت في جو من الترف القوطي الذي يزين الجناح.
أما في جناح النوم حيث يوجد سرير الملك جورج الرابع، فقد كان اللافت طول السرير القصير نسبيًا، وقد أشار إلينا المرشد السياحي الذي رافقنا في هذه الجولة، أنه يبدو أن الملك كان قصير القامة مقارنة بطول السرير.
خرجنا من عوالم ملوك بريطانيا التي لا بد من أن تحبس الأنفاس، نحو المعرض المخصص للاحتفال بذكرى غياب شكسبير، فبعض مسرحياته كُتبت خصيصًا للعائلة المالكة في ذاك الزمان، من بينها المسرحية الكوميدية The Merry Wives Of Windsor. ثم توجهنا نحو كنيسة الملك جورج، وهي تحفة معمارية يجب عدم تفويت الجولة فيها.
بعد الجولة في عالم الملوك، توجهنا إلى وسط البلدة لتناول الغداء في مطعم «بل أند دراغون» Bel & Dragon... الأطباق شهية ولكن لا يجوز تفويت الثوم المشوي والخبز المحمص.
إلى «ستراتفورد أوبون أيفون» الشاهدة على ولادة شكسبير الجسدية والفكرية
بعد ساعتين على انطلاقنا من وندسور، وصلنا إلى ستراتفورد بلدة شكسبير الأم. كانت البلدة هادئة في هذا الوقت من النهار... زخّات مطر وغيوم رمادية ونهر إيفون يخترق المدينة بهدوء تعوم فيه طيور البجع غير آبهة بالبرد ودرجات الحرارة المنخفضة. أما أنا فقد هرولت إلى بهو استقبال فندق «آردن» Arden الذي سننزل فيه.
رغم البرد قررت التعرف إلى هذه البلدة التي وُلد فيها شكسبير وتزوّج من آن هاثاواي. تسألت عما إذا كانت النجمة الهوليوودية «آن هاثاواي» تمت إليها بصلة، رغم أنها وُلدت في نيويورك. ولكن ألم يبنِ نيويورك مهاجرون من إنكلترا! كانت متاجر البلدة مغلقة، فالساعة الخامسة والنصف، فيما مواقيت فتحها بين التاسعة صباحًا والخامسة مساءً.
عدت إلى الفندق للاستعداد لتناول العشاء في مطعم «ذا ونتر»، وهو مطعم يقدّم الأطباق الإنكليزية، جاء تصميمه على النمط التيودوري الذي يعود إلى العصور الوسطى، واشتهر في بريطانيا أثناء حكم تيودور حيث الآجر والخشب والمدافئ هي الغالبة في الهندسة الداخلية. أما الهندسة الخارجية فهي عبارة عن سقف مؤطّر بالخشب ومحشو باللغد والجص ثم لاحقًا بالآجر.
هنا تلقّن شكسبير دروسه وهنا يرقد جثمانه
صباح اليوم الأول في ستراتفورد، كنا على موعد لزيارة المدرسة التي ارتادها شكسبير، وكانت أعمال الترميم لا تزال جارية فيها، وقد انتهت في 23 نيسان/ أبريل، اليوم الذي رحل فيه عن العالم. وهذا المبنى هو جزء من مدرسة ستراتفورد للذكور.
أعجبني لباس التلامذة الموحّد، وهو عبارة عن بذلة رسمية مع ربطة عنق. بعد المدرسة مشينا نحو كنيسة «هولي ترينتي» حيث يوجد ضريح شكسبير وأضرحة عائلته. لماذا الأضرحة موجودة في الكنيسة؟ سؤال طرحته على المرشد السياحي، فأجابني بأنه في القرن السادس عشر كان سكان ستراتفورد من حين إلى آخر يُخرجون رفات الموتى من القبور ثم يحرقونها، ليكون هناك متسع لآخرين، وشكسبير لم يرد أن تُحرق رفاته ورفات بقية أفراد عائلته فاشترى هذا القسم من الكنيسة ليكون مكان أضرحتهم. حسنًا قلت، فإذا عرف السبب بطل العجب.
في كواليس «ذا رويال شكسبير ثياتر»
من الجميل أن تتعرّفي إلى كواليس العروض المسرحية، فكيف إذا كان مسرحاً خاصاً بعروض شكسبير. أن تتعرفي إلى تفاصيل تصميم الديكور والأزياء التي بدا لي أن ليس بالأمر السهل العناية بها، من غسلها وكيّها وطرق توزيعها على الممثلين.
الجولة في أروقة مسرح لا تقتصر على الصحافيين فقط، وإنما تشمل أيضًا السياح والزوار وطلاب المدارس. فهذا المسرح ضمن مجمّع يضم مسارح، ومجموعة مطاعم وبوتيك لبيع التذكارات، تحت إدارة «ذا رويال شكسبير كومباني».
تناولنا الغداء في مطعم «روف توب» في الطبقة الثالثة، حيث المشهد بانورامي، فالنهر ينساب بهدوء والناس يجلسون على المقاعد يُطعمون البجع وعبّارات تبحر فيه. أما ساحة Bencraft فقد اجتاحها التلامذة يرتاحون بعد يوم طويل.
من مسرح «سوان» إلى «ذا أذر بلاس» The Other Place حيث جلنا في كواليس البروفات، إذ في هذا المكان تتم بدايةً قراءة النص وتعديله ثم توزيع الأدوار على الممثلين، والاستوديوات التي تُنفذ فيها الأعمال الموسيقية للنص المسرحي، وتُخزّن فيها أزياء العروض المسرحية التي يبلغ عددها 30 ألف زي، والجولة عنوانها من الصفحة إلى المنصة From Page to Stage. يضم هذا المركز مقهى، تنظم فيه أيضًا جولات للزوار من الأعمار كافة.
بعد جولة في كواليس المسرح والأعمال التي تُنفذ قبل انطلاق أي مسرحية، عدنا إلى الفندق لتناول عشاء مبكر، ولنستعد لمشاهدة عرض مسرحية «هاملت»، في مسرح «سوان» في مركز RSC الذي يقع مقابل الفندق.
دخلنا المسرح، انطفأت الأنوار، الكل كان صامتًا، بدأ العرض. هاملت في المسرحية عصري يرتدي البذلة وكذلك كل شخصيات المسرحية. واللافت أن الأبطال من أصحاب البشرة السمراء. «عصرن» المخرج المسرحية، ولم «يعصرن» النص الشكسبيري.
لساعتين كنت أصغي وعبارة «To Be or Not To Be This Is The Question» كانت خاتمة الفصل الأول للمسرحية. كل مرة تستوقفني هذه الجملة، أكون أو لا أكون، هذا هو السؤال الذي ربما جعل شكسبير يمضي حياته ليكون في لا وعي التاريخ الإنساني.
اليوم الثاني والأخير في عالم شكسبير
توجّهنا في صباح اليوم الثاني إلى المنزل الذي وُلد فيه شكسبير وعاش فيه وشهد على زواجه من آن هاثاواي. يقع منزل ومركز شكسبير في شارع هنلي Henley وهو شارع يضج بالحركة، وفي الغالب هو شارع مشاة تتجاور فيه البوتيكات ومقاهي الرصيف. بدأت جولتنا في المركز الذي يروي تفاصيل عن شكسبير ويعرض منسوخات بخط يده ولوحات لزوجته وابنتيه، ثم عبرنا إلى منزله الذي تتوسطه حديقة غنّاء نسق بعض فسحاتها على شكل متاهة خضراء، وكان مجسم شكسبير عند أحد أطرافها.
هنا ولد وليام شكسبير
ولجنا في منزل والدَي شكسبير، بدءًا من غرفة الاستقبال والطعام والمطبخ، وصولاً إلى الغرفة التي شهدت على ولادة الأديب. من الطريف أن من كان لديه سرير كان يتباهى به ويضعه قُبالة النافذة ليراه سكان البلدة، مما يشير إلى أنه شخص ثري.
والغريب، والذي فيه تمييز عنصري، أن الذكور كانت لديهم أسرّة، فيما الإناث كنّ ينمن على فرش على الأرض، وكذلك لم يكن يوجد في غرفة البنت مدفأة لأنها بنت.
في النهاية هكذا كانت الأمور في عصر شكسبير! استوقفتنا الغرفة- المحترف التي كان والد شكسبير يصنع فيها المنتجات الجلدية، ومن النافذة كانت تجرى عمليات البيع والشراء، ويعتقد أن شكسبير كان يساعد والده في التجارة، وهذه الخبرة جعلته خبيرًا في الأعمال، فجمع بين العبقرية الأدبية والتجارة في آن.
خرجنا من المنزل نحو الحديقة حيث كان يوجد ممثلون دائمون يقدّمون مقاطع من مسرحيات شكسبير بحسب طلبات الزوّار، وقد لبوا طلبنا عندما سألناهم، مقطع من «هاملت»، ومقطع طريف من «روميو وجولييت». والتصوير كان مسموحًا. بعد الاستراحة المسرحية جلنا في المكتبة التي خصصت لأعمال شكسبير ومنسوخات ونسخ أصلية. الخروج من المنزل والمركز يكون عبر متجر التذكارات.
الغداء كان في مطعم Church Street Townhouse الذي يقع عند أقدام مبنى تاريخي يعود إلى عام 1600... فكان غداء أكثر من شهي.
إلى منزل آن هاثاواي الزوجة ومزرعة ماري آردن الأم
إلى منزل زوجة شكسبير Hathaway’s Cottage & Garden توجهنا بالحافلة، وهو يبعد عن وسط المدينة حوالى ربع ساعة. هنا تكتشفين كيف تودّد وليام شكسبير الى زوجة المستقبل التي كانت تكبره بثماني سنوات.
بدا واضحًا أن الزوجة كانت من عائلة ثرية، فالمنزل وحدائقه الغنّاء تؤكد ذلك. يضم المنزل الكثير من القطع التي تعود إلى عائلة هاثاواي، إضافة الى سرير آن. تضم المزرعة مقهى وبوتيك للتذكارات.
من منزل الزوجة إلى منزل الوالدة ماري آردن، وهو مزرعة كبيرة، هنا تكتشفين أين ترعرعت والدة الأديب، ويوميات الفتى وليام حين كان يرتاد مزرعة جدّه ويكتسب مهاراته الحرفية والفكرية. تكتظ المزرعة بالزوار، ولا سيما العائلات وأطفالهم، فهنا يكتشفون حياة المزارع في القرن السادس عشر، في كل التفاصيل والعروض التي تقدم بشكل دائم.
ودّعت ستراتفورد وعدنا بالقطار إلى لندن، والمسافة الزمنية كانت ساعتين وخمس دقائق، حيث نبيت في فندق أنديغو Hotel Indigo Paddington في منطقة باندنغتون.
رغبت كثيرًا في التعرف إلى هذه المنطقة، خصوصًا أن دب بادنغتون كنت قد تعرفت إلى حكايته عندما قرأتها لابن أختي وقد أحبها كثيرًا إلى درجة كان يطلب إعادة قراءتها، وكذلك الفيلم، ولكن الوقت يغلبنا أحيانًا، وكذلك المدن تمتنع عن عرض كل تفاصيلها لنا دفعة واحدة، بل تترك لنا بعضًا من الشوق للعودة إليها واكتشاف القليل من أسرارها.
ولندن من المدن التي تخفي بين سراب ضبابها الكثير من الحكايات، أحبها شكسبير فتفتقت عبقريته فيها، وهي بادلته الحب وجعلته أحد رموزها الخالدين في تاريخها وحاضرها ومستقبلها. ورغم أنني وجدت في جملة «المجد كما دائرة في الماء لا تتوقف عن تكبير نفسها» بعض التناقض، ذلك أن كلما كبرت دائرة الماء، بدأت بالتلاشي إلا إذا صنعنا دائرة جديدة، فإن دائرة شكسبير المائية لم تتلاش، وإن مرّت 400 عام على وفاته، يبقى مجد عبقريته يتقمص كل من يقرأ رواياته ويشاهد مسرحياته، ويغوص في تفاصيل عالمه وكواليسه.
عناوين مهمة
فندق آردن: www.theardenhotelstratford.com
مطعم ذا وينتر www.the-winter.co.uk
مركز رويال شكسبير كومباني: www.rsc.org.uk
للحجز في روف توبwww:rsc.org.uk/rooftop-resaurant
للحجز في المسرحية www:rsc.org.uk/hamlet/about-the-play
مطعم Church Street House:
نصيحة محرّرة
في أي وقت من السنة تزورين لندن أو أي مدينة بريطانية، عليك دائمًا أن تأخذي معك معطفًا وشالاً وقبعة... فالطقس مزاجه متقلب من البرد إلى الحر والعكس. إضافة إلى حذاء رياضي، ففي لندن وستراتفورد التنزه على القدمين متعة لا تضاهى.
تستمر فعاليات الاحتفال بالذكرى الأربعمئة لرحيل شكسبير ستة أشهر بدأت في 23 نيسان/ أبريل.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024