تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

هل يجوز الطلاق منه للضرر: زوجي مدمن كذب!

د. ملكة يوسف زرار

د. ملكة يوسف زرار

د. آمنة نصير

د. آمنة نصير

د. سعاد صالح

د. سعاد صالح

د. عادل الأشول

د. عادل الأشول

د. عبدالله الصبان

د. عبدالله الصبان

أن يكذب الزوج أحياناً على زوجته، فهذا قد يثير مشكلة، لكن يمكن تجاوزها. أما أن يدمن الزوج الكذب حتى يصبح أسلوب حياته مع زوجته في كل موقف، فهذا يثير مشاكل قد لا تستطيع زوجات كثيرات تجاوزها، وهو ما دفع مهندسة شابة إلى طلب الطلاق من زوجها مدمن الكذب للضرر، فماذا يقول علماء الدين عن الطلاق من الزوج الذي يدمن الكذب على زوجته؟


رفعت المهندسة «رشا» دعوى قضائية ضد زوجها المحاسب «شاكر» تتهمه فيها بإدمان الكذب الذي ألحق بها ضرراً نفسياً ومعنوياً، الى درجة أن أصبح العيش معه مستحيلاً، لهذا فهي تطلب الطلاق للضرر.
 تعرض الزوجة بعض تفاصيل قضيتها في دعواها قائلة: «عمري 28 سنة، تزوجت منذ ثلاث سنوات من زميل أخي في العمل بعد خطوبة قصيرة، لأنني وثقت في اختيار أخي لشريك عمري الذي يتصف بالوسامة والكلام الجميل، فوافقت وتم الزفاف بعد شهور قليلة من التعارف، إلا أنني بعد الزواج اكتشفت إنساناً آخر تماماً، يتنفس الكذب ليل نهار، ويدمن القسم بالله كذباً لتبرير ما يقوم به، مما يسبب لي ضرراً بالغاً، خاصة أنني أكره كثيراً الكذب والكذابين بحكم تربيتي السليمة».
وتضيف: «حاولت إصلاحه وتقديم النصح له لكن بلا فائدة، بل وأجبرته على الذهاب إلى كبار الأطباء النفسيين لكن من دون نتيجة، حاولت تعريفه ببعض علماء الدين ليبينوا له حُرمة الكذب ومصير الكذابين، فيتوقف عن الكذب أياماً قليلة، لكن سرعان ما يعود الى ما كان عليه، بعدما أصبح الكذب يجري في دمه، مما سبب لي مشكلات في حياتي، وسيضر بلا شك بابني الوحيد «عمرو»، لأن أباه القدوة له مدمن كذب».

الكذب والنار
يؤكد الدكتور عبدالله الصبان، رئيس قسم الحديث في جامعة الأزهر، أن الإسلام يحرّم الكذب ويمقت الكاذبين، وهناك زوج تصعب هدايته من كثرة إدمانه الكذب، وهذا ما نفهمه من قول الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» (آية 28) سورة «غافر». وهذا دليل على عِظم جريمة الكذب حتى أن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ربط الكذب بالنار، فقال: «إنَّ الصدقَ يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفُجور، وإن الفجور يهدي إلى النَّار، وإنَّ الرَّجل ليكذبُ حتى يُكتب عند الله كذاباً».
ويشير الدكتور الصبان إلى أن من حق الزوجة التي ابتُليت بزوج يدمن الكذب، وكذلك الزوج الذي ابتُلي بزوجة تدمن الكذب، أن ينفصلا لأنه لا يمكن الجمع بين «الصادقين والكاذبين» في بيت واحد، والانفصال ليس حراماً طالما أن هناك أسباباً قهرية تدعو لذلك، وسوف يعوّض الله الصادق منهما بشريك حياة جديد أفضل يكون من الصادقين، ولهذا قال الله تعالى: «وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا» (آية 130) سورة «النساء».
وينهي الدكتور الصبان كلامه، مشيراً إلى أن استمرار العِشرة بين زوجة صادقة وزوج كاذب فيه أكبر الضرر للزوجة وأولادها، الذين يتأثرون بأخلاق أبيهم.

الشريعة والقانون
توضح الدكتورة ملكة يوسف زرار، أستاذة الشريعة الإسلامية، أن الشريعة والقانون أعطيا الزوجة التي فشلت في علاج زوجها المدمن على الكذب، حق الطلاق للضرر، بشرط أن تثبت ما تقوله منعاً للافتراء أو ظلمها له لأهواء في نفسها، استناداً إلى قاعدة «البينة على من أدعى والحلف على من أنكر». وقد ثبت عن رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) أنه قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، لكن اليمين على المدعى عليه».
وتشير الدكتورة ملكة، إلى أنه رغم صعوبة تغيير الطباع من الناحية النفسية، خاصة إذا أصبح المرض مزمناً متأصلاً في النفس، فإنه ينبغي على الزوجة ألا تجعل طلب الطلاق للضرر الحل الأول، بل عليها الصبر على زوجها ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، خاصةً إذا وجدت فيه أملاً في الإصلاح وترك الكذب، وهنا لها جزاء الصابرين الذين بشّرهم به الله بقوله: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (الآيات 155- 157) سورة «البقرة».
وتنهي الدكتورة ملكة يوسف كلامها، مؤكدة أن القرار النهائي هو للزوجة وقدرتها على تحمل هذا البلاء الصعب، لأن الزوجات يختلفن في قدرتهن على التحمل، وبناء عليه تقرر بنفسها الصبر أو الطلاق للضرر، ودليلنا في هذا قول الله تعالى: «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ على الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا على الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ» (الآية 286) سورة «البقرة».

الحل الأخير
تؤكد الدكتورة ماجدة محمود هزاع، رئيسة قسم الفقه في كلية الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر، أن من المؤسف أن كثيراً من الناس اليوم بضاعتهم في الحديث «الكذب»، وهم يرون أن هذا من الذكاء والدهاء، بل ومن صفات الشخص التي تميزه عن غيره، وللأسف يجد احتراماً من الناس في المجتمع، وهذه من مقدمات الساعة التي أخبرنا عنها رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): «سيأتي على أمتي سنوات خدّاعات، يكذب فيها الصادق ويصدق فيها الكاذب، ويؤتمن الخائن ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟. قال: الرجل التافه السفيه يتكلم في أمر العامة».
وتشير الدكتورة ماجدة إلى أن ابتلاء الزوجة بزوج يدمن الكذب يُلزمها بمحاولة إصلاحه قدر استطاعتها من خلال علماء الدين والطب النفسي والاختصاصيين الاجتماعيين، فإن فشلت فلها حق الطلاق من هذا الكذاب الذي خلع الإسلام عنه رداء الإيمان، لأن المؤمن لا يمكن أن يكون كذاباً، فقد سُئل رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) من أحد الصحابة قائلاً: «يا رسول الله: أيكون المؤمن جباناً؟ قال: نعم! قيل: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: نعم! قيل: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: لا». وتختتم الدكتورة ماجدة كلامها، مؤكدة أن الطلاق قد يكون الحل الأخير إذا فشلت كل الحلول السلمية الإصلاحية مع هذا الزوج الكذاب، الذي لا أستبعد أن يماطل حتى يجعل زوجته تلجأ إلى الخلع والتنازل عن حقوقها حتى يطلقها، لأنه لا يخشى الله فهل نتوقع منه أن يخشى البشر أو يحترم العِشرة ويطلّق بسهولة؟

الأبناء
توضح الدكتورة سعاد صالح، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية للبنات في جامعة الأزهر، أن ما أنعم الله على عبد من نعمة بعد الإسلام أعظم من الصدق، الذي هو غذاء الإنسان وحياته، ولا ابتلاه ببلية أعظم من الكذب، الذي هو مرض الحياة وفسادها، ولهذا فإن هذه الزوجة ومثيلاتها من الزوجات معذورات، لأن الكذب رأس الفتن كلها، إذ يجعل الحق باطلاً والباطل حقّاً، والخير شراً والشر خيراً، وبالتالي يصعب التعامل مع مدمن الكذب.
وتشير الدكتورة سعاد، إلى أن الإسلام حارب الكذب بمنع أسبابه ومقدماته، فقال الله جلَّ وعلا: «وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسؤولا» (الآية 36) سورة «الإسراء»، وأخبر الله كل إنسان أن كل ما يقوله أو يفعله تسجله الملائكة ليحاسب عليه في الآخرة، فقال الله تعالى: «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» (الآية 18) سورة «قّ». وربط الإسلام الكذب بالنفاق، فقال النبي (صلّى الله عليه وسلّم): «أربعٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلةٌ منهن، كانت فيه خصلة من نفاقٍ حتى يدعها: إذا ائتُمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر». وتنهي الدكتورة سعاد كلامها، موضحة أن شريك الحياة، سواء كان الزوج أو الزوجة، إذا كان مدمناً الكذب ويصعب علاجه، فإن الخلاص منه بالطلاق يعد مكسباً، خاصة إذا كان هناك أولاد يتشربون صفات الكذب أو الصدق من الوالدين، فيكون الطلاق رغم أنه أبغض الحلال إلى الله هو الحل الأقل خسارة من العيش مع زوج كذاب».

الكذب الأبيض
تحذر الدكتورة آمنة نصير، العميدة السابقة لكلية الدراسات الإسلامية في الإسكندرية - جامعة الأزهر، من التهاون في النظر إلى صفة الكذب، حتى لو كان الكاذب يردد ما يسمعه فقط من دون اختلاق كذب من عنده، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): «كفى بالمرء كذباً أن يحدِّثَ بكلِّ ما سمع»، فما بالنا إذا كان الكذاب شريك حياة يختلق الأحداث والأقوال، مما يصعّب العيش معه ويجعل الزوجة والأولاد في حيرة شديدة، لأنهم لا يعلمون أن ما يقوله صدق أو كذب».
وترفض الدكتورة آمنة ما يطلقون عليه «الكذب الأبيض» طالما أنه لا يضر، خاصةً إذا كان في التربية الأسرية، بدليل ما رواه الصحابي عبدالله بن عامر، حيث قال: «جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيتنا وأنا صبي صغير، فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبدالله، تعال حتى أعطيك. فقال صلّى الله عليه وسلّم: «وما أردت أن تُعطيه؟»، قالت: تمراً. فقال: «أما إنَّكِ لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة». فهذا تسجيل عملي من صحابي بحرمة الكذب مهما كانت تسميته.
وتؤيد الدكتورة آمنة، حق الزوجة في طلب الطلاق للضرر من الزوج مدمن الكذب، وليس عليها أي إثم شرعي، فيكفي ما وصف به النبي (صلّى الله عليه وسلّم) الكذاب حين قال: «لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً». فماذا ستجني من العيش مع زوج كتبه الله من الكاذبين!

الإصلاح النفسي
عن التحليل النفسي للزوج الذي يدمن الكذب، يقول الدكتور عادل الأشول، أستاذ الطب النفسي في جامعة عين شمس: «الكذب صفة مكتسبة منذ الطفولة المبكرة، بالتالي لا يوجد إنسان «كذاب» بطبعه، بل هو شخص افتقد التوجيه من المحيطين به في الصغر، ومن المعروف أن خيال الأطفال يكون واسعاً في اختلاق الأحاديث والأقوال لأسباب عدة، بعضها صحي وبعضها مرضي، مثل الخوف من عقاب الوالدين أو الهروب من الموقف، ولم يجد من يوجهه بشكل صحيح، فيتمادى في كذبه ويجد فيه منجاة له من العقاب، وشيئاً فشيئاً يجيد الكذب ويدمنه في حياته كلها».
وعن كيفية تعامل الزوجة مع الزوج الكذاب، يقول: «يتطلب هذا الأمر دراسة الزوجة لنفسية الزوج بمساعدة طبيب نفسي حتى يضع يدها على مفاتيح الحل الذي يختلف من زوج الى آخر وفق صفاته الشخصية الأخرى، والتي يتم التعامل معها بأدوات وطرق مختلفة، وفي الوقت نفسه عليها محاولة ربطه بالدين وما فيه من «ترغيب في الصدق» وأن جزاء الصادقين الجنّة، وكذلك «الترهيب من الكذب» وأن جزاء الكاذبين النار، وهنا عليها أن تقوم بذلك بشكل غير مباشر، لأن النصح المباشر أو الذي فيه توبيخ يأتي بنتيجة عكسية».
ويشير الدكتور عادل إلى أهمية قيام الزوجة بمحاولات ذكية لتغيير البيئة التي يعيش فيها الزوج والمشجعة على الكذب، مثل «شلة الأنس»، التي غالباً ما تكون من الكاذبين أو غير الأسوياء، وأن تحاول تحفيزه معنوياً كلما صدق في أمر بمدح الصفات الحميدة فيه ولفت نظره إلى تجنب الصفات المذمومة، ومنها الكذب.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079