تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

عندما تتحوّل لندن إلى مسرح كرمى لذكرى أديبها

الزميلة ديانا حدّارة

الزميلة ديانا حدّارة

«كل العالم مسرح» All the Worlds a stage...  عبارة مونولوغ شهيرة في مسرحية «كما تريد» As You Like it  لشكسبير.
ولكن هل كان هذا الأديب الإنكليزي يعلم أن بريطانيا العظمى في القرن الواحد والعشرين، سوف تتحوّل إلى مسرح خاص به إحياءً لذكرى مرور أربعمئة عام على وفاته! لا أعلم ربما، فروائعه تنمّ عن أنه أراد أن تخلَّد ذكراه في لا وعي الأدب والتاريخ لتبقى سيدة المسرح والسينما أيضًا.
بريطانيا تحتفل بذكرى شكسبير... هكذا كان عنوان دعوتي من جانب هيئة VisitBritain حيث سأمضي ستة أيام في عالم شكسبير أشارك أهل بلده احتفالهم به ثلاثة أيام في لندن، وثلاثة أيام في ستراسفورد، بلدة شكسبير الأم.
فكان التحليق بين بيروت ولندن، رحلة إنعاش لذاكرتي من خلال مشاهدتي فيلم «ماكبث» في الطائرة، فدخلت الأجواء الشكسبيرية من باب الفضاء الأزرق.

اليوم الأول
في مطار هيثرو بدأت مظاهر الاحتفال بشكسبير تتكشف، فقد كان حاضرًا على الجدران أينما جلت في نظري. أما الطريق إلى الفندق فكانت مزروعة بالإعلانات عن مسرحياته التي تعرض  بدءًا من 23 نيسان / أبريل ذكرى ميلاده.
وصلت فندق هيلتون في شارع 2-8 غريت سوفولك القريب من ضفة نهر التايمز، وكان الأديب الإنكليزي حاضرًا أيضًا. كان يومي الأول في لندن هادئًا مثل زخّات المطر التي كانت تبلل المدينة من جراء نزاع السحب الربيعية والشمس للسيطرة على فضائها.
انتهزت الفرصة لأتعرف إلى محيط الفندق حيث تكثر المقاهي والمطاعم، التي كانت مزدحمة بالروّاد. إنه يوم الأحد، واللندنيون يستمتعون بعطلتهم الأسبوعية، إما في المقاهي، أو في التنزّه على ضفة Bankside المستريحة على نهر التايمز الذي عُلقت فوقه الجسور الفيكتورية والحديثة لتصل أواصر المدينة ببعضها بعضًا، بعدما كانت الضفة الجنوبية خارج حدود لندن في القرن السادس عشر، وشكسبير حاضر في كل التفاصيل.

اليوم الثاني: بانكسايد منطقة جميلة كانت في ما مضى معقلاً للفوضى

عند الصباح التقينا وزملائي الصحافيين الذين أتوا من القارات الخمس المسؤول الفني في مسرح «ذا روز» بيبيه برايك، الذي شرح لنا برنامج الجولة.
سرنا جميعًا خلف بيبيه نحو المسرح عبر منطقة Bankside التي كانت مزدحمة بالمشاة، بعضهم كان مسرع الخطى نحو عمله فقد كان يوم الإثنين، وبعضهم يختال في نزهته، مثل مجموعات التلامذة السيّاح الذين كانوا يتسابقون لالتقاط الصور ويطلقون الضحكات، وبعض شقاوة التلامذة تجاه معلميهم، وقد كانوا فرنسيين.
وعلى كل الأحوال، لمنطقة بانكسايد حكاية، فهذه الضفة التي تقع جنوب نهر التايمز كانت في الفترة الإليزابيثية، خارج السلطة القضائية لمدينة لندن بسبب موقعها خارج الولاية آنذاك في القرن السادس عشر، لتكون منطقة الترفيه بكل أنواعه، وفي الوقت نفسه كانت مهملة تحتلها الحفر ومسارح الدببة، ومسارح «ذا روز» و«سوان» و«غلوب»... ومن خلال شرح بيبيه، بدت هذه المنطقة في القرن السادس عشر عنوانًا للفوضى بكل أنواعها. ولكن هنا قام شكسبير بأداء أول عمل مسرحي تمثيلاً وكتابة، ليعود ويبني من ثم مسرحه الخاص «غلوب».

معلومة تاريخية: تعتبر بانكسايد إحدى أقدم المناطق المأهولة في بريطانيا، وتعود إلى ستة آلاف سنة عندما بنى الرومان «لوندينيوم». خلال القرن الثامن عشر تحوّلت بانكسايد إلى منطقة صناعية فكانت فيها الأحواض والمستودعات والأرصفة، لكن تراجعت أهميتها بعد الحرب العالمية الثانية  وبقي الكثير منها مطمورًا إلى حد كبير. استعادت نهضتها في مطلع الألفية باعتبارها واحدة من الوجهات الأكثر حيوية في العاصمة.

ثمة سؤال طرحه علينا بيبيه: هل تظنون أن روايات شكسبير هي التي جعلته ثريًا؟ تعجّبنا لسؤاله، فأردف مجيبًا: بالطبع لا. إن ثروة شكسبير أتت من المسرح، ثم ضحك قائلاً: «حتى في تلك الأيام لم تكن الرواية مصدر الثروة، وشكسبير عرف مفتاحه».
فمسرح «ذا روز» بُني عام 1587 لأجل عرض مسرحيات شكسبير، وهنا بدأ الأديب الإنكليزي مسيرته المسرحية، وعُرضت مسرحيتاه «هنري السادس»- الجزء الأول و«تيتوس أندرونيكوس». كان بيبيه يتكلّم بشغف عن عبقرية شكسبير الأديب ورجل الأعمال في آن، كما لم يخفِ حماسته وشغفه بإدارة مسرح «ذا روز» الذي اكتُشفت أطلاله أثناء أعمال البناء والحفريات عام 1989، مما جعلنا نتحمّس جميعًا للتعرّف على المسرح عن كثب.

إلى  مسرح The Rose 
وأخيرًا وصلنا إلى المسرح. عند الباب الرئيسي، كُتبت عبارة: «هنا شُيد مسرح ذا روز عام 1587، أول مسرح على النمط الإليزابيثي، منتخب من الناس». عند بهو الاستقبال الصغير جدًا، شعرت بروح القرن السادس عشر.
وعند أعلى المدخل الرئيس للمسرح، كُتبت عبارة من مسرحية هنري السادس: «المجد مثل دائرة في الماء لا تتوقف عن تكبير نفسها». دخلنا الموقع وكانت مجموعة من الممثلين تقوم ببروفات لمسرحية شكسبيرMuch Ado About Nothing أو «الكثير من اللغط حول لا شيء».
يشبه موقع «ذا روز» الأصلي كهفًا مظلمًا، تُهمس فيه روايات التاريخ بصمت، وأثناء التجوال على أرضه تصيبك قشعريرة وأنت تتخيّلين روّاده من سكان لندن ذاك الزمان وهم يتفاعلون مع شخصيات شكسبير المسرحية.

«ذا جورج إن» هنا كان ينهي شكسبير أمسيته بعد انتهاء عرضه المسرحي
بعد زيارة «ذا روز»، توجهنا إلى ساوثروك Southwark...  هكذا تلفظ رغم وجود الـ W، حيث يوجد مطعم «ذا جورج إن» الذي يعود إلى عام 1677 وهو النزل القروسطي الوحيد المتبقي في لندن، وواحد من أقدم النوادي الليلية فيها، وقد أطلق عليه الباحث التاريخي بيت براون Shakespears local  إذ يُعتقد أن الأديب الإنكليزي كان يرتاده أثناء سكنه في لندن.
يضم «ذا جورج إن» مطاعم عدة صغيرة لا تزال جميعها على سيرتها الأولى من حيث التصميم والأثاث. في الطبقة الثانية منه تناولنا الغداء في أجواء القرن السابع عشر.
بعد الغداء عدنا سيرًا على الأقدام إلى منطقة بانكسايد لنزور معرض «غلوب» ومسرحه. وفي الطريق إليهما كانت الشوارع مزدحمة وكذلك المطاعم. يبدو أن سكان لندن يفضلون تناول وجباتهم فيها، شارع الخضر تصطف فيه مطاعم الـ Street Food التي كانت مزدحمة بالرواد.

إلى متحف ومسرح غلوب
غريبة لندن وتقلّب مزاج طبيعتها. فللحظات تنكشح السحب وتطل الشمس، لتعود وتنكفئ فتبللنا زخات مطرها. هكذا كان ربيع لندن... لم يتردّد في ممازحتي بين الدفء والبرد، والسماء المُشمسة والضباب.
رجعنا إلى منطقة بانكسايد حيث «غلوب» الحالي يقع على بعد مئات الأمتار من الموقع الأصلي. أُعيد بناء المبنى الشهير «شكسبير غلوب تراست» من جانب الممثل الأميركي الرائد والمخرج سام واناماكر الذي زار لندن عام 1949 وقرر أن يجمع التبرعات لإعادة بناء مسرح «غلوب» بالنمط نفسه الذي اعتمده شكسبير، فأمضى 23 عامًا يجمع التبرعات لبنائه، لكنه رحل عن الحياة قبل أن يشهد اللمسات الأخيرة للمسرح والمتحف.
بُني المسرح بالنمط نفسه: في الوسط المنصّة التي زخرفت بالنمط نفسه الذي كانت عليه أيام شكسبير، ولكن بدل الرخام أعمدة خشب توحي بأنها رخام. أما مقاعد المشاهدين فتحيطه بشكل دائري لتتوافر مشاهدة المسرحية بشكل تفاعلي. وكان لافتًا المساحة التي تفصل بين منصة المسرح ومدرّجات المقاعد، فهذه المساحة في الماضي كان يقف فيها رواد المسرح وكانت تستقبل 1500 شخص، تخيّلوا الازدحام! فيما الأثرياء كانوا يجلسون على المقاعد. أما اليوم فهي تكتفي بـ750 مشاهدًا. بعد المسرح جلنا في المعرض الذي يحكي بعض تفاصيل حياة شكسبير اللندنية.
معلومة: يفتح معرض غلوب أبوابه من التاسعة صباحًا حتى الخامسة والنصف مساءً
أما الجولة في المسرح فمن الـ 9:30 صباحًا حتى الـ 5 مساء، وهناك جولة برفقة دليل محترف كل ثلاثين دقيقة.
للحجز: [email protected]


اليوم الثالث: نزهة المدينة في عالم شكسبير

عند الجسر التقينا ديكلان ماك-هيوغ، وهو ممثل محترف، ليأخذنا في جولة على الأقدام نتعرّف من خلالها إلى معالم وتفاصيل ومواقع متصلة بحياة شكسبير الشخصية وأصدقائه وأعماله. يبدو أن كل من يتكلم على شكسبير تتملكه الحماسة والفخر بهذا الأديب إلى درجة تشعر للحظة بأنه عاصره أو عاش معه. ومن التفاصيل التي يفخر بها ديكلان، أن شكسبير قد ابتكر أكثر من خمسة آلاف مفردة في اللغة الإنكليزية.
ومن الأمور الطريفة التي رواها لنا، أن الأديب المسرحي قد استشاط غضبًا عندما عرض فرنسي مسرحية وكان فيها ممثلات الأمر الذي جعل الناس يفضلونه على مسرح كان ممثلوه جميعهم ذكورًا، عندها أعاد شكسبير النظر في جلب ممثلات إلى مسرحه. مررنا بالشقة التي عاش فيها شكسبير والمقهى الذي كان يرتاده، والكاتدرائية التي كان يزورها. الأمر الذي جعلني أشعر بأن لندن تتنفس روح شكسبير.

انتهت أمسيتنا الثالثة في لندن بمشاهدة مسرحية «الكثير من اللغط حول لا شيء» في مسرح «ذا روز» وقد أعيدت كتابتها بشكل عصري، فالحبكة الدرامية والشخصيات هي نفسها، وكأن مخرج المسرحية أراد التأكيد أن الروح البشرية والعقل الإنساني لا يتغيران رغم تبدل الزمن وأحواله.

في صباح اليوم الرابع ودّعت لندن التي حضنت عبقرية شكسبير الشاب، المدينة التي تحكي كل يوم مونولوغًا خاصًا بها، أبنيتها الفيكتورية تتأمل في العصر الذي يرمّمها، تروي حكايات عظماء عاشوا بين جدرانها تردّد عباراتهم، فجسورها تراءت لي أنها تردّد عبارة ابنها إسحاق نيوتن «بنينا الكثير من الجدران، ولكن لم نبنِ جسورًا بشكل كافٍ».
أمّا شوارعها التي يُعرض فيها وعلى شاشات عملاقة بعضٌ من أرشيف شكسبير، فبدت تصدّق على عبارته «العالم كله مسرح، وجميع الرجال والنساء هم بالكاد لاعبون على منصّته. لديهم مخارج ومداخل بها، ورجل واحد يلعب أدوارًا كثيرة في حياته».  ولكنك يا شكسبير لعبت دورًا واحدًا في زمنك وأزمان أبناء التاريخ.

أين يمكن أن تأكلي في لندن:
Drake & Morgan يقدم من المطبخ الإنكليزي وتحديدًا أطباق اللحوم والسمك المشوي. |
للحجز: DrakeandMorgan@
The Swan at Shakespears Globe يقع هذا المطعم في «شكسبير غلوب» في موقع أيقوني في بانكسايد. يشرف على نهر التايمز وجسوره التي تربط أوصال المدينة وكاتدرائية سانت بول، وهو مؤلف من طبقتين ويقدم من المطبخ البريطاني العصري في جو أكثر من رائع.   

فعاليات المكتبة البريطانية
في الذكرى الأربعمئة لرحيل شكسبير تقدّم المكتبة البريطانية فعالية Shakespear in Ten Acts  من 15 نيسان/ أبريل حتى 6 أيلول/ سبتمبر، حيث تعرض شاشات عملاقة مسار مسرح شكسبير، فتتعرفين إلى رد فعل الجماهير في اللحظات الرائدة مثل أول ظهور لممثلات إناث عام 1660 وأول أداء لممثل أسود  بريطاني في «عطيل» عام 1825.

عناوين مهمة:
Visitbritain.com
Visitbritainshop.com

 للحجز المسرحي:
[email protected]

www.hilton.com/en/hotels/
united-kingdom/Hilton-london-bankside

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079