هافانا... العاصمة الكوبية المشغولة باحتفال الحواس
عندما يُذكر اسم هافانا نستحضر صور الاحتلال الإسباني، وأبطال الثورة، ولا سيما تشي غيفارا، وأدباء ومشاهير عاشوا في العاصمة الكوبية وتنعّموا بشواطئها المغمورة بالشمس. واليوم تسلط الأضواء على هذه المدينة بعدما كسرت حاجز الجفاء الذي دام بينها وبين واشنطن العاصمة الأميركية لأكثر من ثمانية عقود وتستقبل رئيسها، فعادت الكاميرات تلاحق هافانا ونمط حياتها الذي يبدو أنه يرقص على إيقاعي السالسا والرومبا، وجمالها المحتشد في الشوارع المرصوفة وفي المباني الجميلة الكوبية بالنمط الباروكي، والحصون التاريخية والمتاحف والمطاعم الأسطورية، والساحات العامة المفعمة بالحيوية.
تشغلك هافانا باحتفال يومي للحواس، موسيقى الرومبا التي تصدح في كل زاوية شارع، ونكهات حرّيفة تفوح من المطاعم تقودك ربما إلى بوديغيتا دال ميديو، وهو المقهى الذي كان الأديب الأميركي أرنست همنغواي يتردّد إليه، فتغذّين المعدة والفكر حين تقرئين تواقيع وعبارات لشخصيات مشهورة عُلقت على جدرانه.
ويشدّك هواء المحيط نحو شاطئ ماليكون الشهير وتستنشقين الحرية، وتنعمين بتعامل السكان الودودين الفخورين بمدينتهم الغنية بثقافتها وفنها، وبكنوزهم التاريخية والعديد من الجواهر الخفية.
سانترو
ابدئي جولتك في هافانا من سانترو، وتعني وسط المدينة. هنا تجدين كل المتناقضات الكوبية. إذ رغم أنها منطقة شعبية، لكنها تضم كل الفن المعماري الجميل الذي يمزج بين الأندلسي والإسباني والباروكي، واللافت في ذلك الرخام الفسيفسائي بألوانه الزاهية. وأينما ذهبت تجدين كبار السن يجلسون في المقاهي يلعبون الدومينو الكوبي، كما يرافق معظمهم ديك.
فعوضًا عن الكلب الذي يكون رفيق كبار السن في أوروبا، هنا الديك هو الرفيق، ولكن ليس أي ديك، وإنما ذاك الذي يشارك في لعبة «صراع الديكة».
وتصادفك نسوة يرتدين فساتين زاهية الألوان مزركشة، ويضعن على رؤوسهن غطاء الرأس المعقود على الطريقة الأفريقية، يعرضن عليك علبة سيجار.
هافانا القديمة «مادري هافانا»
من هافانا القديمة، يفوح سحر الماضي بكل مكوّناته لذلك استحقت أن تكون على قائمة مواقع التراث العالمي لليونيسكو. هنا تستعرض الأبنية القديمة التي تم ترميمها بعناية، أناقتها الكلاسيكية، وهندستها الباروكية المجاورة للمباني المقبّبة تنظرين إلى الساحات التي تتوسطها والشوارع الضيقة التي تتغلغل بينها، لتدهشك كاتدرائية دي سان كريستوبال حيث تشعرين باحتفال النمط الباروكي- الكوبي في المعمار... وتتقمصين شجاعة الجندي في قلعة القوات الملكية، Castillo de la Real Fuerza وهي قلعة عسكرية مثيرة للإعجاب، وتجولين في الساحات العامة الشعبية مثل بلازا فيجا وبلازا دي أرماس التي يقف عندها قصر الضباط Palacio de los Capitanes الذي يحضن متحف المدينة Museo de la Ciudad ، وفناء محاط بالأشجار يُدخل اليك البهجة عندما تستريحين تحت ظل إحدى أشجاره الوارفة. بعدما تتجرعين كل تاريخ هذه الساحة الآسرة، يجدر بك تسلّق برج الغرفة المظلمة
camera obscura الذي يقف على ارتفاع 35 مترًا لتستمتعي بمشهد آسر لجواهر هافانا القديمة.
وبعد هذه الجولة، لا بد من أن تستريحي في أحد مقاهي هافانا القديمة، عليك إذًا التوجّه إلى بوديغيتا ديل ميديو، المقهى الذي كان الأديب الأميركي أرنست همنغواي يرتاده، تزوّدي بالطاقة الفكرية والغذائية واطلقي العنان لشهيتك بينما تستلذين بالأطباق البحرية والمشروبات المثلجة.
ساحة «دو أرماس»
بلازا «دو أرماس» هي أقدم ساحة في هافانا، تقع في منطقة هافانا القديمة، وكانت المركز السياسي والإداري للبلاد. وهي ساحة مربعة الشكل تحيطها قصور تعود إلى العصر الاستعماري وينتشر فيها شجر النخيل والخبازي العملاق.
تكثر في الساحة الينابيع وتضم مجسمًا لكارلوس مانويل دو سيبيديس، وتتحلق حولها قناطر قصور كونتات سانتوفينيا وسيكادو كابو. تحوّل قصر القادة العامين الذي كان لمدة طويلة مركزاً حكوميًا إلى متحف المدينة، ويضم في بهوه مجسمًا لكريستوف كولومبوس الذي اكتشف كوبا أثناء رحلاته البحرية.
وعلى مقربة من بلازا دو أرماس، تقع ساحة الكاتدرائية بقصورها التي شيّدت على النمط الباروكي، والتي تحولت إما إلى متاحف أو الى مقاهٍ.
اللافت في هافانا أنك أينما تجولت تلتقين باعة الكتب، وسيدات يعرضن المشغولات اليدوية من شالات وشراشف طاولات، لا سيما الكروشيه تشترينها بأسعار زهيدة. بينما اتخذ الرسامون والنحاتون من الأرصفة مركزًا لإبداعاتهم يبيعونها مباشرة، فقد سمحت الحكومة الشيوعية منذ عام 1993 للناس بأن يكسبوا مالاً إضافيًا من السياح من دون أن تأخذ منهم نسبة محددة.
كورنيش ماليكون
تشكل ماليكون منطقة رائعة للقاء السكان المحليين، ولا سيّما الصيادين الذين يمدّون شباكهم في عمق المحيط، والأسر التي تقصد الواجهة البحرية للاستمتاع بمشهد المحيط. والنزهة على القدمين على طول كورنيش ماليكون عند غروب الشمس، وسيلة رائعة لتنالي جرعات من جمال هافانا الرائع.
فعلى امتداد حوالى 7 كيلومترات هي طول الواجهة البحرية الشهيرة انطلاقًا من هافانا القديمة إلى منطقة فيدادو وبلازا، تصطف مجموعة ملوّنة من المباني وهي مزيج من الطرز المعمارية... من طراز الآرت ديكو، وتبدو الشمس وهي تتلاعب بألوانها وأشكالها وتنثر وهجها الذهبي على واجهاتها. أما إذا أردت الاستراحة فعليك بفندق ناسيونال دي كوبا، أحد مواقع التراث العالمي، ومعلم وطني شيّد عام 1930 لتكتشفي هذه الفوضى المعمارية الفنية، وهي مزيج من الفن الحديث والعربي والنيو كولونياليسم والنيو كلاسيكي.
تخيّلي أن هذا الفندق حضن في غرفه مشاهير العالم بكل تناقضاتهم السياسية والأيديولوجية والثقافية، مثل نات كنغ كول، وينستون تشيرشل، تايرون باور، مارلون براندو، أرنست همنغواي، فرانك سيناترا، وأفا غاردنر. وبالقرب من الفندق صيدلية قديمة جدًا تضم كل الأدوات التي كانت تستعمل في تحضير الأدوية.
كاستيلو دي لوس رييس تريس ديل مورو Castillo de los Tres Reyes del Morro
المعروف أيضًا باسم «إيل مورو»، تقف هذه القلعة بفخر عند مدخل خليج هافانا في متنزّه الجنود التاريخي Historico Militar . بُنيت هذه القلعة في أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر لمراقبة المحيط وحماية المدينة من غزوات القراصنة. صمّمها المهندس الإيطالي جيوفاني باتيستا أنتونيلي، وتطغى على تصميمها روح القرن السابع عشر المعمارية.
على مدى قرون تغيّرت المنارة مرات عدة إلى أن شيّدت في منتصف القرن التاسع عشر منارة من الحجر الصلب. لا يزال يُضاء مصباحها الأصلي، والقلعة مفتوحة للزوار الذين يمكنهم التمتع بمناظر جميلة على المحيط ومدينة هافانا من العلى.
حصن دي سان كارلوس دي لا كابانا Fortaleza de San Carlos de la Cabana
على بعد حوالى 15 دقيقة سيرًا على الأقدام من «إل مورو» ومتنزه الجند التاريخي، توجهي نحو حصن دي سان كارلوس دي لا كابانا الضخم الجالس على قمة تلة لا كابانا وكأنه أحد مردة أساطير الزمن، يراقب المحيط بحذر ويسيطر على مدخل خليج هافانا. كان أكبر حصن بناه الإسبان على الإطلاق، وكذلك الأكثر كلفة.
وكان يستعمل كسجن عسكري خلال نظام باتيستا وتحوّل في ما بعد إلى مقر لتشي غيفارا في أعقاب الثورة. يحتوي الحصن اليوم على عدد قليل من المتاحف، أكثرها إثارة للإعجاب، متحف كوماندانسيا ديل تشي، الذي يضم مكتب الثائر غيفارا، ولا يزال على سيرته كما كان خلال الفترة التي أمضاها في الحصن... وكذلك بعض أشيائه الشخصية. يطل الحصن على مناظر رائعة وعلى المدينة والبحر. ليلاً، يأتي السياح إليه لمشاهدة احتفال ديل كانونازو Del Canonazo حيث تقيم مجموعة من الممثلين يرتدون أزياء القرن التاسع عشر مراسم اطلاق المدفع في التاسعة من مساء كل يوم.
مبنى الكابيتوليو الوطني
إذا كنت قد سافرت من قبل إلى واشنطن، فربما سيدهشك الشبه بين مبنى الكابيتول فيها ومبنى الكابيتول في هافانا الذي افتتح عام 1929 وكان مقر الحكومة حتى عام 1959، بعد الثورة الكوبية. يرتفع هذا المبنى في أفق المدينة، فأينما جلت بناظريك سوف ترين ملامحه طاغية وقد أتت مزيجًا من الكلاسيكية الجديدة والفن الحديث.
ورغم أن هذا المبنى الكبير يذكّرنا بالكابيتول الأميركي، لكنه استلهم من بناثيون باريس، ولا سيّما قبّته المميزة التي ترينها أينما كنت في هافانا.
متحف «ناسيونال دي بيلاس آريس»
يتوزع متحف ناسيونال دي بيلاس آرتس، أي المتحف الوطني للفنون الجميلة، في مبنيين، وهو من المعالم التي يجدر بك زيارتها، خصوصًا إذا كنت هاوية للفن. صمّم المبنى الأول بالاسيو ديل سنترو Asturiano عام 1920 من جانب مانويل بوستوس، ويضم هذا المبنى أعظم أعمال أسياد الفن الأوروبي، إضافة إلى 600 عمل فني قديم، تعود الى الفن المصري والعصور الرومانية.
أما مبنى بالاسيو ديل آرتس فيعود تاريخه إلى عام 1959، وقد جاء على نمط المدرسة العقلانية في البناء، وكرّس للفن الكوبي من القرن السابع عشر إلى يومنا هذا.
هنا، يمكن الزوار الاستمتاع بمشاهدة مجموعة رائعة من اللوحات والمطبوعات، والمنحوتات، أبرزها منحوتة «الفضاء والضوء» المشغولة من الرخام وهي فريدة من نوعها وموجودة عند مدخل المتحف.
عناوين:
● مبنى الكابيتوليو: باسيو دي مارتي، (برادو) هافانا
● قصر الفنون الجميلة: تروكاديرو شارع البريد / زولويتا ذ مونسيرات، هافانا القديمة
● بالاسيو ديل سنترو Asturiano: سان رافائيل، / زولويتا ذ مونسيرات، هافانا القديمة
● متحف Napoleonico: العنوان: سان ميغيل 1159
باسيو ديل برادو أو زقاق ديل برادو
يرى الكثيرون أن باسيو ديل برادو الشارع الأكثر جمالاً في هافانا، تصطف على جانبيه الأشجار، ويقع على تخوم هافانا القديمة. يستحق هذا الشارع أن تمتّعي ناظريك بشرفات المباني التي تدلت منها أصص الزهور، ومقاعد الرخام المنتشرة على أرصفته، ومنحوتات الأسود البرونزية، وأعمدة الإنارة الحديد تذكرك بحقبة ماضية جميلة، فهذا الشارع كانت تسكنه أغنى العائلات في هافانا.
فهنا دور السينما القديمة والقصور وفنادق تعود إلى القرنين التاسع عشر والعشرين وقد تم ترميمها بعناية. من أبرزها فندق اشبيلية بنمطه المغربي... ومنزل الدكتور كارلوس فينلي، الرجل الذي اكتشف أن البعوض ينقل الحمى الصفراء.
عندما تجولين في هذا الشارع سوف تشعرين بأنك تجولين وسط عالم ستينيات القرن الماضي، فالسيارات هنا في غالبيتها تعود إلى ذلك الزمن، وما عليك سوى الدخول في هذه المتاهة الكوبية لتستمتعي مثلما يفعل سكان المدينة.
غراند تياترو دو لا هافانا Gran Teatro de la Habana
قد لا تتوقعين أن واحدًا من أكبر مسارح الأوبرا في العالم موجود في منطقة الكاريبي، ولكن غران تياترو في هافانا يحتل بالفعل قلب العاصمة الكوبية، وقد صمّمه المهندس المعماري البلجيكي، بول بيلاو... يواجه المسرح الحديقة المركزية وشيّد كجزء من مجمع كبير عام 1915. سوف تدهشك واجهته التي جاءت على النمط الباروكي، فيما تقف عند مدخله أربع منحوتات عملاقة من أعمال جوزيبي موريتي. استضاف مسرح هافانا الكبير على مر السنين، مجموعة واسعة من العروض للنجوم الأكثر شهرة في العالم. والمسرح هو موطن لباليه كوبا الوطني ودار الأوبرا.
قرية فوسترلانديا Fusterlandia
هل تخيّلت قرية ملونة يحتشد الفن في كل تفصيل فيها كما قرى الافتراض الجميلة! حسن، عليك رؤية الحلم في الواقع، فقرية فوسترلانديا، وهي قرية صغيرة في ضواحي هافانا، عبارة عن مجمع من الفن الحيوي الثلاثي الأبعاد حيث برع الفنانون بمزج الألوان وإسقاط ابداعاتهم فيها. فالرسام والنحات المحلي، خوسيه فوستر، ابتكر هذا العرض من الألوان والفسيفساء والتماثيل، ونشر لوحاته في جميع أنحاء الحي لتمثيل حياته وفنه. يعرف فوستر بـ «بيكاسو منطقة البحر الكاريبي» ولم يكتف بالشارع الذي سكن فيه، بل راح يزيّن بيوت الجيران بالجدرايات والرسوم والفسيفساء، حتى محطات الحافلات لم تسلم من ريشته. جولي في شوارع هذه القرية بالإبداعات الحيوية المستريحة على منازلها والأماكن العامة، ثم زوري استوديو منزل فوستر، وتعرّفي إلى وكر الإبداع الذي يحتفل بالألوان.
متحف Napoleonico
بالقرب من جامعة هافانا يقع متحف Napoleonico الذي يعرض مجموعة خاصة لخوليو لوبو، الذي كان أحد هواة جمع أشياء نابليون. فقد عيّن هذا الهاوي أشخاصًا ليجمعوا له تذكارات نابليون وأشياءه الشخصية.
عندما غادر لوبو كوبا عام 1959، اشترت مجموعته الحكومة الكوبية لتعرضها في قصر جميل جاء على النمط الفلورنسي. يضم هذا المتحف أكثر من 7000 قطعة تعد من أرقى المجموعات الخاصة بنابليون خارج أوروبا. من بين المعروضات، أحد أسنانه وخصلة من شعره... وقناع الموت لنابليون، ومكتبة تضم الكتب التي تحكي عن الإمبراطور الفرنسي، والأسلحة، ولوحتان للقائد العسكري الفرنسي من أعمال أندريا أبياني وأنطوان جروس.
التجوال في هافانا يسير على وقع السالسا. فطوال الوقت وأينما ذهبت تلقين فرقًا موسيقية تلعب موسيقى السالسا بفرح. إذا كنت تتحدثين الإسبانية، فإن التواصل مع السكان يكون رائعًا ووديًّا.
رغم الحياة المتواضعة التي يعيشها سكان هافانا والتي يمكن القول إنها أقرب إلى حياة الفقراء، تجدين الناس يرقصون ويعزفون الموسيقى أينما ذهبت كأنهم يتحدّون كل الأحزان، وتلمحين البسمة على وجوههم. والأجمل أنهم يدخلونك في لعبة الاحتيال على شظف العيش فتستمتعين بها، وتدركين لمَ مات تشي غيفارا لأجل كوبا رغم أنه أرجنتيني، ولمَ عشق ساسة العالم وأدباؤه هذه البلاد التي لا تمل الحركة كما المحيط الذي تسبح فيه. فالشروق والغروب فيها سيّان، والفقر والثروة فيها سيّان، ولكن الحركة والسكون لا يجتمعان فيها. إنها مدينة صاخبة فيها كل تناقض أميركا اللاتينية.
معلومة: الكوكو هي وسيلة نقل السياح، وهي عبارة عن سيارة صغيرة تسير على ثلاث عجلات، إذ لا يسمح للسياح بركوب سيارة الأجرة التي يركبها سكان البلد.
ماذا تشترين في هافانا؟
المشغولات اليدوية من الكروشيه واللوحات الفنية، ولا تتردّدي في المساومة، ويجب أن تكوني صاحبة نفَس طويل حتى تحصلي على حسم قد يصل إلى أكثر من 50 في المئة.
البلد: كوبا، أميركا اللاتينية
العاصمة: هافانا
العملة: البيسو الكوبي
شارك
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1080 | كانون الأول 2024