«الديوانية» لم تعد للرجال فقط
هي غرفة خارجية لا تتجاوز مساحتها الأمتار الخمسة شيّدت على هيئة خيمة بدوية في أحد أركان حديقة منزل. لا تقتصر معالم البداوة على شكلها الخارجي، بل غزت ديكوراتها الداخلية التي يعود طابعها الى مئات السنين من حيث الأثاث والألوان المستخدمة في الخامات.
الخيمة المنصوبة في حديقة منزل ملاك الشريف ليست طارئة أو حتى مستغربة على المنازل السعودية، غير أن الشريف كسرت العادات والتقاليد في نمط حياتها، إذ جعلت من هذه الخيمة، المتعارف عليها في المجتمع السعودي بأنها المجلس أو الديوانية المخصصة للتجمعات الأسبوعية التي يعقدها الرجال، مقراً تلتقي فيه هي وصديقاتها المقربات.
كانت البداية حين قررت ملاك قبل عام أن تستقبل صديقاتها في «ديوانية» منزلها، بعد حصولها على موافقة والدها على مشروعها الخاص، معلّلة السبب بضرورة استمتاعها وصديقاتها بأجواء هادئة بعيداً من مضايقة أفراد العائلة في ما يتعلق بالضجيج أو الأصوات المرتفعة التي غالباً ما تتردد أصداؤها في أرجاء المنزل.
فوجئ أشقاء الشريف وسائر أفراد العائلة بـ«الديوانية» وتحويلها إلى مقر تجمع لصديقاتها، لكن مع مرور الوقت اعتادوا فكرة إخلائها في اليوم المخصص لها ولصديقاتها.
تقول ملاك: «لا تختلف ديوانية البنات عن تلك التي يجلس فيها الرجال، إذ تحتوي على ألعاب «بلاي ستيشن»، اضافة إلى أوراق «البلوت»، وفيها جهاز تلفزيون لمتابعة البرامج وخصوصاً الرياضية منها، مثل مباراة دوري عبداللطيف جميل وكأس الملك وولي عهده»... لافتةً إلى أن صديقاتها لم يعدن يرغبن في الجلوس في صالة الاستقبال الرئيسة في المنزل بعد أن بات لهن مقر اللقاء الخاص بهن حيث الحرية والخصوصية متاحتان.
ترى خلود باعشن وهي إحدى فتيات الديوانية، أن لجلسات الخيم الخارجية نكهة خاصة، لما توفره من حرية التصرف في ما بينهن بعيداً عن الرسميات، وتضيف: «نمارس في الديوانية طقوساً شبيهة بطقوس الشباب، إذ لا تخلو الجلسة من تربيعة «بلوت» تحتل أحد الأركان، وتتجمع أخريات في ركن آخر حول لعبة «بلاي ستيشن» التي قررنا أخيراً خوض مباريات تنافسية فيها».
وتقول باعشن إن أكثر ما يجذبها في تجمع ديوانية البنات عدم غياب القوانين والأعراف المتوارثة في ما يخص الضيافة في المجتمع السعودي، فكل فرد في المكان يخدم نفسه بنفسه.
وفيما تمثل الديوانية المكان الأمثل للاستمتاع بالحرية بالنسبة الى خلود باعشن، ترى العنود العبدالله إن هذا النوع من التجمعات هو المكان المفضل لديها لمشاهدة مباريات الدوري السعودي ومباريات كأس العالم، لا سيما في ظل الأجواء الحماسية التي تواكب المباراة، والاستعدادات لها من حيث ارتداء الملابس الرياضية التي تحمل شعارات النوادي التي تشجعها الفتيات. تقول العنود: «الديوانية تعني لي الراحة، اذ لا شيء أجمل من قضاء الوقت مع صديقاتي المقرّبات في مكان منعزل والتصرف بعفوية كاملة، ومشاهدة المباريات معاً في جو تسوده المنافسة القوية بيننا، مما يخفف حدة التوتر الذي يسببه لنا العمل اليومي».
كعكي: الديوانية وظاهرة الفتاة «البوية»
الدكتورة فاطمة محمد كعكي استشارية الطب النفسي وطب علاج الادمان ورئيسة القسم النسائي واليافعين في مستشفى الأمل في جدة وعضو الجمعية الاميركية والكندية، تسلط الضوء على الآثار الاجتماعية السلبية المترتبة على ظاهرة «البوية» بحيث تعمد الفتاة الى تقليد الشاب فتُحدث تغييرات في شكلها الطبيعي لتصبح مسترجلة «البوية»... وتقول: «من أهم الاسباب التي ساهمت في انتشار ظاهرة ثقافة الديوانية الخاصة بالبنات، تقليد المجتمع الغربي والتفكك الاسري، سواء أكان بالطلاق أم انفصال الوالدين أم انشغالهم عن بناتهم، إضافة إلى عدم توافر مطاعم ونوادٍ عائلية كبيرة تُمارس في داخلها مختلف الأنشطة الرياضية للنساء والرجال كما هو الحال في الدول العربية الاخرى». وتضيف د. فاطمة: «تلعب العوامل النفسية مثل الاكتئاب والقلق وتعاطي المخدرات دوراً كبيراً في انتشار ظاهرة الفتيات المسترجلات «البويات» التي انطلقت بدافع التمرد على الواقع ورفض العادات والتقاليد المتعارف عليها في المجتمع السعودي، اذ إن الفتاة المسترجلة تقلد الشبان في جميع تصرفاتهم وحتى في لباسهم وطريقة تفكيرهم، وبالتالي تتصرف على هواها حتى ولو خالفت مبادئ الاسرة... فنقص النوادي الرياضية وارتفاع اسعارها وندرة أماكن الترفيه للسيدات كلها عوامل ساهمت في انتشار هذه الظاهرة، ورغم ذلك، يمكن تحويل ثقافة الديوانية النسائية الى ثقافة ايجابية تساهم في صقل الفتاة السعودية فكرياً من خلال إدراج برامج توعوية تصب في خدمة المجتمع».
على الجانب الآخر، حظيت فكرة الديوانية الخاصة بالفتيات بترحيب الشبان السعوديين عموما، رغم استغراب بعض الذين التقيناهم.
أحمد العتيبي يرى أن الديوانية في الأصل مقر خاص بالرجال، وكان تأسيسها خارج المنزل لعدم مضايقة النساء في الداخل «لا سيما أن تقاليد المجتمع السعودي وعاداته تحظر اختلاط النساء بالرجال ممن لا توجد بينهم صلة قرابة».
وفيما يستنكر أحمد العتيبي فكرة الديوانية المخصصة للفتيات، يرحب صالح السويط بها منوهاً إلى أن للمرأة الحق في العيش والتصرف بالطريقة التي تحلو لها وتجعلها سعيدة، ويقول: «للفتاة أو المرأة السعودية الحق الكامل في العيش بالطريقة التي ترتاح بها، وأن تتبع نمط الحياة الذي يناسبها ويسعدها، طالما أنها لا تتعدى حدود الدين والادب، إضافة الى أن مشاهدة كرة القدم لا تقتصر على الرجال فقط، فهي رياضة حماسية يشاهدها الكبار والصغار من الجنسين، ومن المتعارف عليه ايضاً انتشار الأندية الرياضية النسائية في كل مكان».
الشاب مشعل الجريد يرى أن اجتماع الفتيات في ديوانية خاصة بهن بالقرب من أهاليهن، أفضل من ذهابهن إلى الأسواق والمطاعم لقضاء أوقات فراغهن «فقد يتعرضن أثناء ذلك للأذى، مما يبعث على القلق والخوف عليهن في نفوس أهاليهن».
في المقابل، تقول الاعلامية السعودية نيروز بكر: «قد تكمن الأسباب والعوامل الاجتماعية التي ساهمت في انتشار ثقافة الديوانية، في انغلاق المجتمع ومحدودية الأنشطة الاجتماعية التي يمكن الفتيات ممارستها، وبالتالي فأي نقص أو انعدام في الأنشطة سيولد افكاراً جديدة قد تكون إبداعية وإيجابية، أو سلبية في جانب آخر منها».
وتتابع: «في بادئ الامر، ارتبطت ثقافة الديوانية بالرجل في مجتمعاتنا العربية، لكنها أخذت أخيراً منحنى مختلفاً بعدما شاركت فيها المرأة نظراً الى الظروف التي يعيشها مجتمعنا والتركيبة الأسرية بشكل خاص، حيث شهدت الديوانيات النسائية أشكالاً مختلفة من الاجتماعات والزيارات النسائية المتكررة حتى وصلت الى ما هي عليه اليوم. ويرتبط هذا الأمر ارتباطاً وثيقاً بتوسع حاجة المرأة الى ممارسة الأنشطة المختلفة وضرورة الاجتماع مع صديقاتها، لتتخلص من معاناتها من العزلة وعدم قدرتها على ممارسة الأنشطة الخارجية في محيطها».
وتضيف نيروز: «في طبيعة الحال، فإن ظاهرة الديوانيات سلاح ذو حدين من حيث إنها حاجة اجتماعية لقضاء أوقات الفراغ بالاستمتاع مع مجموعة من الأصدقاء، كما يمكن الديوانيات أن تكون فعالة وإيجابية إذا سارت في إطارها الصحيح كأن تساهم في إيجاد منافذ صالحة لتفريغ الطاقات، بما يسمح بالترفية السوي للفتيات بينما لا يجدن اي منفذ لممارسة الأنشطة الخارجية. ولكن قد تترتب على اختلاط الفتيات أو النساء في الديوانية بعض السلبيات كتأثير الرفقة السيئة في الأخريات أو عقد جلسات الغيبة والنميمة، وغيرها من السلوكيات الخاطئة والتي قد تجعل أحياناً من الحياة الزوجية جحيماً لا يطاق».
وتختتم نيروز بكر حديثها مؤكدة: «لقد ساهم نقص الأندية الرياضية والثقافية في انتشار ظاهرة الديوانية، فأي خلل أو نقص في المجتمع حيال سد حاجات أفراده الأساسية أو في الترفيه يؤدي إلى استحداث ظواهر لسد هذا النقص، وابتكار الفتيات فكرة الديوانية جاء لحاجتهن الى الخروج من العزلة المفروضة عليهن، إما بسبب عدم قدرتهن على ممارسة أنشطة خارجية، أو لعدم توافر أندية رياضية واجتماعية، أو لارتفاع أسعارها غير المبرر، هذا فضلاً عن عدم توافر فرص وظيفية أو منافذ لتفريغ طاقاتهن، لذا نجد أن فكرة الديوانية تروق كثيراً للنساء. وثقافة الديوانية هي ثقافة إيجابية في حد ذاتها، ومن الممكن أن تصبح نقطة إثراء معرفي في المجتمع لو أُطلقت من خلالها أنشطة ثقافية واجتماعية هادفة تساهم في رفع مستوى الوعي لدى الفتيات، فبعض الديوانيات النسائية تضم أنشطة رياضية وثقافية تساهم في تقدم مجتمعنا وتطوره، تقابلها ديوانيات هامشية أسفرت عن أفكار متطرفة ومن شأنها أن تشكل قنابل موقوتة لا بد من مكافحتها في مجتمعنا».
رئيس قسم الأمراض النفسية في الحرس الوطني في الرياض الدكتور جمال الطويرقي:
«لا بد من منح الفتاة الحرية الكاملة لترفّه عن نفسها وتشعر بالتالي بمعنى السعادة في الحياة، ذلك أننا بتنا نصادف اليوم في المجتمع مختلف الشرائح، فهناك المتطرف بفكره والمنحرف بأخلاقه، يقابله ذو الفكر السليم السوي، أي المتوسط، وهو ليس متطرفاً أو متسامحاً الى درجة الغباء، اذ إن الدين الاسلامي يدعو الى التسامح، بعيداً من الفكر المتشدد».
ويرى الطويرقي أن شعور الفتاة بالحرية يجعلها متفائلة في الحياة، ويضيف: «أطالب دائماً بإعطاء الفتاه حريتها ولكن بحدود، بحيث لا أضيّق عليها وأسلبها حقها في الحياة، وذلك لئلا تذهب الى الانحراف من دون أن ندرك أننا السبب في سلوكها هذا الطريق غير السوي».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024