ثلاثة أيام في الأردن مع الملكة رانيا العبدالله
"ملكة رانيا" "ملكة رانيا"... تطلّ الوجوه الصغيرة من النافذة وهي تنادي. تسبقها أصوات تنقل إلينا موسيقى حماستها... "ملكة رانيا"...تمتد الأيدي الصغيرة نحو الخارج. ينتظرنها. تدخل عليهن بابتسامة لطيفة ومشجعة. يلتففن حولها من دون خجل. يتكلّمن بصوت واحد. تسأل ويجبن. تودعهن بالابتسامة نفسها. ثم تجلس في الغرفة المجاورة بين طالبات كبرن مسلّحات بثقة تعلّمنها منها. جلسن حولها وعرضت كلّ منهن إنجازات صفها أو مجموعتها بصوت واثق ومن دون أي خوف. المحبة في عينيها تشجعهن على الكلام. ثمة شفافية أيضاً، فها هن ينتقلن من عرض الإنجازات وقصص النجاح إلى شرح المخاوف والحاجات. كأنهن يقلن: هذا ما فعلناه وهذا ما ينقصنا لنخطو نحو طريق الطموح. الكلّ يعرف أن التعليم أبرز أولويات الملكة رانيا العبدالله. لقد أشارت إلى مشكلاته قبل أن ننتبه لانحدارنا، قبل أن نفهم أن الغد لن يكون مشرقاً إذا لم ننقذه. شرحت أن التعليم أهم مشكلات مجتمعاتنا العربية. وبادرت بالعمل. يجب إنقاذ الأجيال، فلنبدأ من خطين متوازيين، لنجرؤ على تطوير المناهج وندرّب المعلّمين في الوقت نفسه على تطبيق أساليب التعليم المتطوّرة. فالمعلّم صاحب التأثير الأكبر في عقول أبناء أجيال الغد ونفوسهم أيضاً. هو المسؤول الأبرز عن تمسّكهم بالعلم أو تخلّفهم عنه. تؤدي جدية طروحات الملكة رانيا إلى بحثها عن صورة متكاملة للتغيير. فلنعدّ مدارس حديثة لا ينقصها التطوّر التكنولوجي ولا البيئة الآمنة والنظيفة التي تحمي الطلاب ولا تحرمهم حقوقهم في التعليم. ولندرّب المعلمين ونقدّم لهم فرصة الحصول على المهارات اللازمة كي يساهموا في النهوض بأجيال الغد.
في المدرسة مع الملكة رانيا
في باحة الملعب في مدرسة الأميرة تغريد في القويسمة في عمّان غرفة مركّبة توفر بيئة تعليمية متكاملة مجهّزة بأثاث حديث يدعم التعلّم التعاوني، وحواسيب محمولة مزوّدة ببرمجيات تساعد على توضيح المفاهيم العلمية المجرّدة. اطلعت الملكة رانيا على ما ينفذه في المدرسة الفريقُ العاملُ ضمن "مبادرة التعليم الأردنية" لتمكين الطلاب وتطوير مهاراتهم التعليمية من خلال استخدام التكنولوجيا. وتهدف "مبادرة التعليم الأردنية"، كما شرحت لي مديرتها، إلى إدخال التكنولوجيا إلى الغرف الصفية. انطلقت المبادرة منذ عام 2003، وينفَّذ العمل تحت مظلتها بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم. أدخلت المبادرة التكنولوجيا حتى الآن إلى 188 مدرسة على امتداد مساحة الأردن من الشمال إلى الجنوب. وقامت فكرتها على مبدأ الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص. بعض الأهداف تحققت ولكن مازال الطموح أكبر لجعل تكنولوجيا التعليم متاحة في جميع المدارس ولجميع الطلبة. كما يجمع تعاون هادف بينها ومبادرة "مدرستي" التي تهدف إلى ترميم 500 مدرسة في الأردن وتجديدها. هذا التعاون يقوم على تجهيز المدارس بأدوات التكنولوجيا وتقديم المساعدة للعاملين فيها وتدريبهم أيضاً.
انتهت زيارة الملكة الى المدرسة ولم تغادر الحماسة عيون الطالبات. في هذه المدرسة الحكومية المجانية وفي غيرها تحرّك روح التغيير الإيجابي، روح اعتناق الغد، الطلابَ والمعلّمات والمعلّمين. الكلّ يتكلّم لغة الغد. هذا ما فهمته من زياراتي مؤسسات كانت أفكاراً وأحلاماً وأصبحت قوى للتغيير على أرض الواقع.
قصص وتجارب... نساء في الطليعة
من الحماسة المتلألئة في عيون الطالبات في مدرسة الأميرة تغريد إلى صوت تصفيق يتبع عرض تجارب نساء وصلن في محيطهن المهني إلى مواقع عليا. قصص النجاح جميلة مثل الرغبة في تحويلها إلى قصص تشجيع، إلى حوافز تلغي خوف نساء عاملات من إثبات قدراتهن والمطالبة بإنصافهن... من القطاع المصرفي إلى قطاع تكنولوجيا المعلومات إلى التعليم والقضاء والخدمات الطبية والتنمية الاجتماعية، عرضت سيدات عاملات في هذه القطاعات المختلفة قصص نجاحهن بحضور الملكة رانيا خلال لقاء جمعها بأعضاء "ملتقى النساء العالمي"/فرع الأردن لمناسبة يوم المرأة العالمي. قدّمت النساء اللواتي نجحن في الوصول إلى مراكز إدارية مرموقة النصائح لغيرهن من النساء العاملات، وعبّرن عن إيمانهن بأهمية أن تقدم المرأة لزميلتها وقريبتها وصديقتها الدعم والتشجيع لتطالب بحقّها في فرص تُمنح للرجل من دون نضال أو مطالبة. حكين حكايات مؤثرة عن"برنامج تعزيز مهارات القيادة والتعلم بالملازمة" الذي نظمه الملتقى واستفدن منه في اختياراتهن وتجاربهن. عرضن بوضوح وطلاقة تجاربهن متمسكات بكلام الملكة رانيا على أهمية دور المرأة في النهوض بالمجتمع، وتشديدها على أن "تمكين المرأة يضمن تمكين مجتمع وتعليمها يضمن تعليم عائلة". وقد صفقت الملكة رانيا لقصص السيدات لكنها لم تكتف بالتشجيع، وحكت بشفافية وصراحة عن طموح الملك عبدالله وطموحها إلى رؤية المزيد من النساء في مواقع قيادية خصوصاً في هذه المرحلة الدقيقة التي نشهدها في العالم العربي حيث "تهب الرياح حالياً عكس الاتجاه الذي نريده في مشاركة المرأة وتمكينها". وبكل محبة تجمّعت سيدات الملتقى حولها وتبادلن التهاني بيوم المرأة.
في حديقة "نهر الأردن"
استقبلتني شمس آذار في حديقة "مؤسسة نهر الأردن" حيث تُعرض الأعمال الحرفية التي تنفذها سيدات أردنيات ضمن مشاريع صغيرة تهدف إلى تحسين دخلهن وظروف عائلاتهن. هناك استمعتُ إلى قصتَيّ ليلى، وأفنان التي تبدع في تنفيذ الأشغال اليدوية وهي من ذوي الاحتياجات الخاصة. التقيتُ الحماسة التي استقبلتني في محطاتي السابقة، رأيتها في استقبال فريق عمل المؤسسة واستمعت إليها في أصواتهن المرحبة. صبايا مثقفات نشيطات يشرحن بشغف تاريخ المؤسسة وحاضرها، من الأعمال الحرفية إلى دار الأمان لحماية الأطفال من العنف. تستفيد ليلى من المؤسسة منذ 11 عاماً، وتحكي: "أنا من منطقة بسيطة وفقيرة، احتجت إلى تحسين ظروفي المادية. تعلّمت الخياطة على الماكينة أولاً ثم طرّزت وبدأت الرسم لاحقاً. أصبحت الآن موظفة، بالقطعة، أعمل من الثامنة إلى الرابعة. وتحسنت أحوالي. كنت أعيش عند حماتي، استطعت أن أنتقل إلى منزل خاص بعائلتي. ساهمت أخيراً عن طريق المؤسسة والأمم المتحدة في تدريب سيدات من العراق على الأشغال اليدوية، كما تعلّمنا من سيدات من فنزويلا تفاصيل حرفية. أصبحت مدرّبة الآن. الحاجة أمّ الاختراع، تدفعنا إلى العمل والإبداع. نصرّ على أن نصل إلى الهدف. زميلتي أفنان الصمّاء والخرساء تكمل العمل في البيت، تسهر لتساعد أهلها مادياً. العمل أنقذ علاقتي بزوجي وأولادي، ومنحني طاقة إيجابية، واستقلالاً مادياً وقلّص مشاكلنا".
"من هنا دخلنا حياة الأطفال"، تقول الصبايا العاملات بحماسة في المؤسسة التي تجمع بين تمكين المرأة اقتصادياً وحماية الطفل من العنف والإساءة. كانت الملكة رانيا أول من تحدّث في المنطقة عن حماية الطفل من العنف. قررت أن الوقت قد حان لعلاج هذه المشكلة وإخراجها من كهوف القهر ورفض اعتبارها موضوعاً خاصاً بالأسرة ويمكن السكوت عنه. تشرح الصبايا: "نركز في مؤسسة نهر الأردن على حماية الطفل عبر محورين رئيسين: أولاً، الوقاية ونشر الوعي وتمكين المجتمع المحليّ وتوعيته حول أنواع الإساءة التي يمكن أن يتعرّض لها الطفل في البيت أو المدرسة، وثانياً، التدخل لإنقاذ الطفل المعنّف". دار الأمان تابعة لمؤسسة نهر الأردن، وتقدم الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال المعنّفين. "نعمل بالشراكة مع حماية الأسرة. فثمة أولاد لا يمكن أن يعودوا إلى عائلاتهم، نرسلهم إلى دور الرعاية الاجتماعية التابعة لوزارة التنمية الاجتماعية، ونبقى على اتصال بهم حتى يصبحوا في الثالثة عشرة. لدينا أيضاً خط ساخن لحماية الأسرة والطفل يسمح بالتبليغ عن حالات الإساءة. ونحن نفكر في كيفية الوصول إلى المجتمعات المحلية وتوسيع أعمالنا سواء على صعيد تمكين المرأة أو حماية الطفل. بدأنا بالشراكة مع وزارة التخطيط عبر مشاريع في المحافظات، نقدم قروضاً دوارة. القيمة الكبرى التي ينضوي تحتها عملنا، هي الحدّ من الفقر بهدف تمكين المجتمع. هي رحلة نحو الوصول إلى البيئة الآمنة وإلى مجتمع يعانق التقدّم. نريد أن ندرب المرأة على أن تحترم كيانها، على ألا تمحو ذاتها بل تقدّر إسهاماتها في عائلتها وفي المجتمع".
رواياتنا
المحاولات عديدة ودائمة وحقيقية. شغف الملكة رانيا بإنجاز ما يفيد المجتمع الأردني والمجتمع العربي انتقل إلى كل العاملين في المؤسسات المشرفة على تنفيذ المشاريع.
كان يمكنها أن تقصر طلاتها على الحفلات وموائد الشرف والزيارات الرسمية، لكنها اختارت طريق العمل في منطقة صعبة، منطقة خرجت من التاريخ بعدما خطت للإنسانية حدوده ومعناه. انطلقت مشاريع تطوير الإنسان ليجرّ المشروع مشروعاً غيره. وبعدما وُضعت خطط التقدم لأعوام مقبلة عادت بنا ظروف المنطقة إلى نقطة أساسية، إلى الدفاع عن الدين في زمن استغلاله وتشويهه.
تروي الملكة رانيا روايات النساء في كفاحهن بحثاً عن النجاح، رواية الشباب الطموح، رواية المجتمع الذي يحضن السلام ليحارب به تطرّف مقاتلي التطوّر بالتطوّر. يقاتلون الحاضر والمستقبل مستغلّين التكنولوجيا مدعين الحفاظ على التاريخ والدين. تروي رواية الباقين على هامش التطوّر، فتبتكر أجمل العبارات: "وهم التطوّر". ليس تطوراً إذا لم يخفف بؤس الأقل حظاً ولم يستفد منه الجميع.
اهتمّت بالمرأة، بالطلاب، بالشباب الذين يمثلون سبعين في المئة من شعوب منطقتنا. اهتمت بتقديم الحلول لمشكلتهم الأبرز، البطالة. الكشف عن المشكلة جزء كبير من الحلّ. قالت لهم إن المشكلة في ما تتعلّمونه ولا يؤهلكم لاكتساب المهارات التي تحتاج إليها أسواق العمل. تحدّثت عن ركائز الاقتصاد في العالم الحديث، عن أفكار مشاريع غير تقليدية في زمن المعرفة غير التقليدية. سعت إلى إطلاق منصة "إدراك"، أول منصة غير ربحية تقدّم العلم لمن يريده. وقد شرحت لي إحدى العاملات في "إدراك": "بعدما قررت الملكة رانيا نقل التجربة إلى العالم العربي أُطلقت "إدراك" عام 2014. ونحن فخورون بأن شباباً من منطقتنا نقلوا إلى العربية هذه التقنية التي حصلنا عليها من "إديكس"، وهي المنظمة غير الربحية التي أنشأتها جامعتا "هارفرد" و"إم أي تي". "إدراك" هي أول منصة غير ربحية للمساقات الإلكترونية الجماعية مفتوحة المصادر. يستطيع أيّ منا الاستفادة منها من أي مكان يريده، بغض النظر عن عمره. يتم افتتاح حساب على المنصة ويمكن التسجيل في أي صف من دون مقابل وباللغة العربية. أما المواد المطروحة فمتنوعة: مواد تحتاجها الأسواق، مهارات مطلوبة وغير موجودة بكثرة، وهناك مواد يطالب بها المتعلّمون أنفسهم كمادة اللغة الإنكليزية. وثمة مواضيع تساهم في تنمية المجتمعات وتسدّ ثغرات معينة أو تطوّر مهارات محدّدة يحتاج إليها الشباب مثل ريادة الأعمال وكيفية كتابة السيرة والبحث عن عمل ومهارات التطور المهني. ثمة أيضاً مساقات موجهة للمعلمين وتهدف إلى تطوير العملية التعليمية وأخرى تشرح معنى المواطنة. مواد مثل العلوم والرياضيات والهندسة والتكنولوجيا قليلة جداً باللغة العربية. "لذا أخذنا من إديكس رخصة طرح مساقات من عندهم، عرّبنا مساقات من جامعة MIT". ثمة حاجة لهذه الفرص التعليمية. "خلال ثلاثة أشهر وصلت "إدراك" إلى نصف مليون متعلّم عربي، وقدمت 29 صفاً". ويتم تطوير المواد بالتعاون مع جامعات مثل الجامعة الأميركية في القاهرة والجامعة الأميركية في بيروت والجامعة الألمانية الأردنية. "نريد أن نروي روايتنا، وأن نحدث ثورة في طريقة الحصول على العلم وطريقة منحه... نريد أن نقدم العلم لكل من يريده".
تشجع الملكة رانيا على التعاون بين المؤسسات الخاصة والمؤسسات العامة، وتؤمن بفكرة ردّ الجميل للمجتمع. روح العطاء هذه تبثها في الشباب حولها. ومن خلال زياراتي لعدد من مؤسساتها لمست جدية العمل، فالأنشطة يومية والطموح لا سقف له. فهمت خلال وجودي في أكاديمية الملكة رانيا لتدريب المعلّمين أن معظم الأفكار التي تحوّلت إلى وقائع هي أفكار الملكة وأحلامها الشخصية. أطلقت الأكاديمية عام 2009 بالشراكة مع Columbia Teachers College بهدف تقديم فرص التطور المهني للمعلّمين عبر تدريبهم في مجالات تخصصاتهم. تم حتى الآن تدريب ثلاثين ألف معلّم في كل الأردن من خلال برامج طوّرتها كوادر أردنية بعد اكتسابها منهجية ابتكار هذه البرامج وكيفية تطبيقها. يقول الرئيس التنفيذي للأكاديمية "طموح جلالة الملكة رانيا لتطوير مهنة التعليم لا سقف له، لذلك وجهتنا جلالتها للعمل على إطلاق أول دبلوم مهني لتأهيل المعلم قبل دخوله مهنة التعليم. ويتم حالياً تصميم البرنامج مع جامعة لندن University College London (UCL-IOE) استعداداً لاستقبال أول مجموعة طلاب في أيلول من هذا العام. هذا وسنعمل مع وزارة التربية والتعليم على تغيير السياسات المتعلّقة بتعيين المعلّمين وتطويرهم في القطاعين الحكومي والخاص لتشتمل على شرط الحصول على دبلوم تأهيل قبل الخدمة، لضمان إحداث نقلة نوعية في مهنة المعلم. وستعمل الاكاديمية على أن تكون مؤسسة رائدة، على المستوى الإقليمي والدولي، في كل ما يتعلق بتطوير المعلمين سعياً لتحقيق رؤية جلالة الملكة رانيا العبدالله أن التعليم مهمة سامية تؤسس كل المهن، وليست وظيفة". وتابع أن أحد أهم إنجازات أكاديمية الملكة رانيا لتدريب المعلمين هو تنظيم مؤتمر للمعلمين في القطاع الحكومي. وقد وصلت الأكاديمية بعد عقد هذه المؤتمرات إلى أن احتياجات المعلمين في المدارس الحكومية لا تختلف عن احتياجات معلّمي المدارس الخاصة. فأطلقت مبادرة عربية هي "ملتقى مهارات المعلمين" الذي جمع عام 2015 ألف معلم من العالم العربي". ويضيف الرئيس التنفيذي للاكاديمية "نعرف أن التحديات كثيرة وأن مواجهتها ضرورية. وتشعرنا الملكة رانيا بأننا لا نملك ترف الوقت".
من الأردن إلى العالم
حديثها سلس وذكي وممتع. انطلق بإشادة بمتحف الأطفال في الأردن الذي يمكن أن ينافس أهم متاحف الأطفال في العالم وتأسس عام 2007 تنفيذاً لرؤيتها. ثم حملنا إلى طموحها... تحمُّل المسؤولية جزء من شخصيتها. منذ كانت تلميذة في المدرسة ثم في الجامعة اهتمّت بالتميّز وقسمت وقتها وواجباتها. بعدما أصبحت أميرة ثم ملكة تَعزّز إيمانها بأن "أي فرد يمتلك فرصة التأثير الإيجابي عليه أن يستثمرها". لذا نراها لا تهدأ. تعمل على جبهات مختلفة. فالعالم العربي يحتاج إلى من يعمل لأجل انخراطه في تطوّر الإنسانية. فـ"لأجل مواجهة غزو الأفكار الظلامية علينا القفز إلى الأمام بأميال"، كما عبّرت في كلمتها خلال منتدى المرأة العالمي المنعقد أخيراً في دبي.
"وجودي في هذا الموقع مسؤولية وحافز من أجل خدمة المجتمع وتحسين أوضاع من حولي. ومَن يعمل في منصب عام لا يعيش لنفسه بل لمَن حوله، وعليه أن يستثمر جهده وعقله وطاقاته ويتابع الأفكار الجديدة والخلاقة ويعمل على تطبيقها من أجل إحراز التقدّم والوصول إلى تغيير الظروف الصعبة وتخطي العقبات". حديثها إلينا بشفافية يعكس ما استمعنا إليه ولمسناه خلال زياراتنا المؤسسات التي انطلقت من رؤاها نحو خدمة المجتمع الأردني والمجتمع العربي. ما تراه يطبّق في الخارج وينجح في نشر العلم أو تطوير المجتمع تبحث عن نقل فائدته إلينا. "لماذا لا تكون إحدى الجامعات العربية بين أول عشرين جامعة في العالم؟"... "لماذا المحتوى العربي على الإنترنت ضعيف جداً؟" هذان سؤالان بين أسئلة تطرحها الملكة على نفسها وعلى العاملين على تطبيق رؤاها ومشاريعها. "يجب أن يطوّر الشخص نفسه من أجل أن يحسّن أحوال من حوله". تقرأ وتحضر المنتديات العالمية وتشارك في اجتماعات هادفة إلى النهوض بالإنسان. قرأتْ كتاب "علّم بثقة" باللغة الإنكليزية لمؤلفه دوغ ليموف الذي قدم 49 أسلوباً ناجحاً في التعليم. فتُرجم الكتاب إلى العربية وصدر عن أكاديمية الملكة رانيا لتدريب المعلّمين، وزار كاتبه الأردن ليتشارك تجربته مع المعلّمين. لقد رأت منذ البداية في العلم فرصة لتحقيق العدالة الاجتماعية. وأشارت إلى مناطق الوجع في عالمنا العربي. ماضينا الثري يُدمّر. هذا ما عبّرت عنه الملكة رانيا بعد تسلّمها شهادة فخرية من جامعة سابينزا الإيطالية. "إنهم يدمرون إرثنا الثقافي"... "ما يحدث من عنف ودمار ليس له علاقة بالدين. هناك معادلة تكرّس حالياً للأسف، يتم استقطاب الأفراد باستغلال الدين أو يتم تخويفهم منه وإبعادهم عنه".
نحن أحفاد إرث حضاري غني، فلماذا لا تعرف منطقتنا السلام؟ ترى الملكة أنه "عندما يلتفّ الأفراد حول المصالح الفردية والمناطقية والمذهبية أو الدينية تختفي المصلحة الوطنية ويتحوّل الاهتمام إلى أمور فرعية لا تفيد ولا تحدث التغيير المنشود. نحتاج إلى التمسك بقيم مثل التعايش واحترام الاختلاف والتي تؤدي الى إثراء تجارب الأفراد. ويجب الخروج من الأطر الضيقة وبناء أساليب وممارسات جديدة تعظم من قيم الإنسانية المشتركة بيننا جميعاً... نعيش الآن تحت مظلّة ثقافة عالمية، ونشهد على انفتاح عالمي، نسافر بسهولة، يمكننا التعرّف إلى الآخر من دون أي حواجز. الانترنت فتح العالم أمام الجميع وأصبح تبادل الأفكار سريعاً. والخوف من هذا الانفتاح انعكس انغلاقاً وتشدداً عند بعض الفئات والأفراد. يجب أن يكون منطقياً ومتوازناً اعتناقنا الانفتاح مقابل خوفنا منه أو حقّنا في نقده. يجب أن نبتعد عن الصراع بين أن نتحوّل إلى مواطنين عالميين أو أن نختار التقوقع على أنفسنا. الحداثة تقتضي إيجاد التوازن، أن يفهم الأفراد أهمية الانفتاح على العالم ويقبلوا به وبالتعايش وأن يكونوا في الوقت نفسه مواطنين فخورين ببلدانهم وبهوياتهم ودينهم. الهويات الفرعية سبب الانقسامات في مجتمعاتنا".
التعليم يساعد في بناء هذا الإنسان المنفتح الذي يتواصل مع الآخر ويتفاعل معه من دون أن يتخلّى عما يؤمن به. "التعليم هو الأساس الذي يمكننا الانطلاق منه إلى تغيير مجتمعاتنا. وردود الأفعال لا تعكس التغيير ولا تعبّر عنه. الأفراد هم من يصنعون التغيير وما يغيّر الأفراد هو التعليم، وما يجب التركيز عليه هو إيجاد مناهج تواكب المستجدات وأساليب تعليم حديثة والتركيز على المعلم لأنه العنصر الأساسي والمحوري الذي يؤثر في الأجيال، وهو من يخرّج خلال مسيرته آلاف الطلاب. والتغيير الإيجابي لا يحدث إلا إذا تم تدريب المعلّم للدور المحوري الذي يؤديه مؤثراً في المجتمع الأصغر الذي هو المدرسة، وفي المجتمع الأكبر وفي المساهمة التي يقدّمها للعالم".
تطوير التعليم مسيرة مستمرة تشرف عليها الملكة رانيا. لكن تهتم بمأساة إنسانية ملحّة هي مأساة اللجوء خصوصاً أن الأردن يستضيف أكثر من مليون وأربعمئة ألف لاجئ سوري. "توجعنا حقيقة ضياع أجيال وتشرّد أطفال لا يذهبون إلى المدارس ويتعرّضون للعنف والقتل ويواجهون الدمار". لقد دافعت الملكة عن حق "هؤلاء الذين لا يملكون سوى خيار النجاة بأرواحهم في العدالة والكرامة". واستشهدت في كلمة قرأتها خلال حفل تسلّمها جائزة والتر راثينو برسام الجداريات البريطاني بانكسي الذي كتب على أحد الجدران "أرى أناساً لكنني لا أرى إنسانية". فهل ما زلنا نؤمن بتعاطف الأسرة العالمية؟ تقول: "رغم كل هذه المصائب يبقى الأمل...".
المرأة وأهدافها
من أبرز تحديات تطوير المجتمع تشجيع المرأة على توسيع إطار دورها ليشمل المشاركة الاقتصادية والمشاركة في صنع القرار. "وضع المرأة ناتج عن ثقافة مجتمعية، وقدراتها تفوق توقعات المجتمع منها. أرى أن على المرأة أن ترفع مستوى أهدافها ليحدث التغيير. يجب أن تمتلك فرصة الاختيار، أن تختار ما يشكل قناعاتها وأسلوب حياتها وعملها. فالدين أعطى المرأة مكانتها وحقوقها، ولكن ما تتعرض له وتواجهه كرّسته الثقافات المجتمعية ولا علاقة للدين به. وفي كل الأحوال، وضع المرأة في العالم العربي متفاوت ولا يجوز التعميم. في البلد الواحد هناك تفاوت بين أسلوب عيش هذه المرأة أو تلك. التعميم ليس صحيحاً، وما يهمّ هو أن تتمسّك كل امرأة بحق الاختيار والاستقلالية".
أما المشكلة الأبرز في مجتمعاتنا فهي بطالة الشباب. وشبابنا تحرّكهم روح المبادرة. يجب أن يتم خلق فرص عمل من خلال سياسات حكومية منفتحة تحثّ على الاستثمار وتشجع المواهب والأفكار الإبداعية وتعمل من أجل أن تتناسب مخرجات التعليم مع احتياجات سوق العمل".
الملكة الجميلة المعروفة في العالم كلّه بأناقتها مشهورة في الدرجة الأولى بذكائها. "يهمّني المضمون في الدرجة الأولى. هذا ما أنقله إلى ابنتيّ، أنصحهما بالاهتمام بدراستهما وبتطوير قدراتهما الفكرية وتثقيف نفسيهما وبناء شخصيتيهما والانفتاح على ثقافات العالم مع التمسك بإرثهما الثقافي، بالمكان الذي تنتميان إليه وبالمبادئ التي تربيتا عليها". تعبّر بشفافية عن شوقها للأمير الحسين والأميرة إيمان اللذين يدرسان في جامعة جورج تاون في واشنطن. تعيد نشر صورهما على إنستغرام وصور للأميرة سلمى والأمير هاشم. تتشارك مع أكثر من مليون ونصف مليون متابع لحظات جميلة، تفاصيل من حياة ملكة هي أمّ وزوجة ومواطنة تعشق وطنها الصغير ووطنها الأكبر ولا تسمح للوقت بأن يسبقها.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024