تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

اللبنانيّة كريستين فرّان اكتشفت جيناً "يقود" رفض زرع الأعضاء

طالما بقي الشرق العربي كئيباً مظلماً وعابساً بذكورية متسلطّة، تكون ابتسامة ذكاء كل أنثى هي تدفق ضوء يبدد تلك العتمة القاسية. طالما بقيت الثقافة والعادات والتقاليد أسواراً عاتية تحاصر المرأة العربيّة وتقمع هويتها الأنثوية، يكون تألق عقول إناث العرب قمراً يضيء درب صعود المرأة عربيّاً.

يزيد في تعقيد تلك الصورة أن المرأة العربيّة التي تختار سلوك طريق العلم الصعب لبلوغ قممه الشامخة في الغرب حاضراً، تدخل نفسها في تحدّيات متشابكة. تترك قلعة الذكورية المتسلطة والقمعية في بلادها، لتمسك بالعلم في المراكز العلميّة المتألقة غرباً، لكنها تكون أدخلت نفسها في أحد أعتى العلاقات تشابكاً: شرق- غرب. هناك أهرامات من الكتابة عن تلك العلاقة المتشابكة الصراعات والتقاطعات، لكن المرأة العربيّة يكون عليها أن تقاتل على جبهتين إضافتين: نظرة العرب إلى المرأة التي تنتقل للعيش في الغرب المغاير، ونظرة ذلك الغرب إلى تلك الآتية من الشرق... المغاير أيضاً. يكاد الأمر يشبه متاهة تصنعها مرايا متقابلة، ما يعني ضياعاً بين ما لانهاية له من الصور المتعاكسة والمتبادلة. ويبرز التحدي: هل تستطيع الأنثى العربيّة أن تكسر المرايا كلها، مع حفاظها على هوياتها المتعددة كأنثى وعربيّة ومن ثقافة معيّنة في عالم العرب، إضافة إلى هوية العلم الذي تسعى إليه.

 

رهان على العلم والمرأة

لا تعبّر الكلمات السابقة إلا عن جزء من الأبعاد التي تحضر عند التأمل في مسار امرأة عربيّة نجحت في أن تكون عالِمة مكرّسة ومتألقة غرباً، على غرار ما يظهر في سيرة اللبنانيّة- الأميركيّة البروفسورة كريستين فرّان، التي أضافت إلى تلك التحدّيات أنها جمعت بين الثقافتين الفرنكوفونيّة (في لبنان ثم فرنسا) والأنكلو- أميركيّة (الولايات المتحدة)، إضافة إلى ثقافتها اللبنانيّة العربيّة.

كانت فرّان الابنة الصغرى المدلّلة لعائلة بيروتيّة بناها أبٌ من مدينة صيدا (45 كيلومتراً جنوب بيروت). وجرياً على عادة متأصلّة في الطبقة الوسطى اللبنانيّة، وضع الأب رهاناته كلها على تعليم ولديه وابنتيه. واستطاع أحد الابنين أن يتخصص في الجراحة التجميليّة، بل أنه صار المدير الطبي لمستشفى “أوتيل ديو” الفرنسي العريق في بيروت. وتخصّصت الأخت الكبرى في المحاماة، ووصلت إلى العمل في “غرفة التجارة” في باريس.

تشي تلك الأجواء الأسريّة برهانات مرتفعة على التعلم والذكاء والتعلّم والتفوّق والتألّق. ولعلها نموذج معبّر عما كانته بيروت في ستينات القرن العشرين (حين وُلدَت كريستين) وسبعيناته التي سابقت فيها كريستين الحرب الأهلية لتنهي دراستها الثانويّة. كان ذلك سباقاً بالمعنى الحرفي للكلمة. إذ أدركت كريستين تلك الحرب المقيتة وهي مراهقة. ونالها قنّاص برصاصة في رجلها، اخترقت ركبتها. وحينها، عولِجَت في مستشفى “أوتيل ديو” الذي نُقِلَت إليه عبر ما كان يسمّى “خطوط التماس”، وكان أخوها الكبير يعمل في ذلك المستشفى. ثمة رسالة مبطّنة في تلك الحادثة، ربما لا تخطئها ذاكرة اللبنانيّين. إذ كانت الأسرة تعيش في “بيروت الغربيّة” التي كانت محسوبة طائفيّاً على ديانة “معاكسة” لتلك التي تدين بها كريستين، فيما كان مستشفى “أوتيل ديو” في منطقة “معاكسة” في حسابات الطوائف! ويشي ذلك الأمر بغياب الطائفيّة عن ثقافة تلك الأسرة اللبنانيّة.

أنهت كريستين دراستها الثانويّة على عكازين، بسبب إصابتها. وأدى ذلك الحادث الذي اضطرها إلى البقاء في المستشفى بضعة أسابيع، إلى معايشتها أجواء الطب والعلاج والمرض والشفاء والموت والأدوية وغيرها. بالاختصار، دفعت رصاصة القناص مسار كريستين صوب مهنة الطب، كأنها تصنع رداً فعليّاً مباشراً على تلك الرصاصة. وفي “جامعة القديس يوسف” البيروتيّة، صارت كريستين طبيبة. وقرّرت أن تكمل اختصاصها في أمراض الكلى وجراحتها في فرنسا. وحظي خيارها بدعم من أسرتها، وهو أمر لم تناله كثيرات من عالِمات العرب في الغرب.

 

بين علوم الجراحة والمناعة البشريّة

في “جامعة باريس الخامسة”، نالت كريستين شهادة الاختصاص في أمراض الكلى، ثم عملت في مستشفى “نيكير” الباريسي الذي جرت فيه أول عملية زرع كلية في فرنسا. وحدث تحوّل لم يكن محسوباً تماماً. ومع انخراطها العلمي في مسألة زراعة الكلى، تنبّهت إلى الدور الكبير الذي يؤدّيه جهاز المناعة في قبول العضو المزروع أو رفضه. ونقلت اهتمامها العلمي إلى ذلك المجال. وحازت شهادة دكتوراه في المناعة البشرية من “جامعة باريس السابعة”، بعد أن نالت ماجيستير في العلم نفسه من “معهد باستور” في باريس. واستطراداً، نال “معهد باستور” شهرة هائلة في حقبة الثمانينات من القرن الماضي بتسجيله قصب السبق في عزل فيروس الإيدز والتعرّف إليه، مع التذكير بأن ذلك الفيروس يضرب المناعة في الإنسان إلى حدّ فقدانها، وهو السبب الذي اشتق منه اسمه علميّاً.

شهدت تلك الحقبة نفسها إنجازاً علميّاً بارزاً، تأثّرت به البروفسورة فرّان إلى حدّ كبير. تمثّل الإنجاز في صنع دواء من مكوّنات مشتقة من جهاز المناعة، لكنها تملك القدرة على وقف عمل أحد أنواع الخلايا المناعيّة، كان ينظر إليه بوصفه المسؤول الرئيسي عن عملية رفض الأعضاء المزروعة في الجسم البشري، وضمنها الكلى. وتبلور ذلك الإنجاز على يد فريق من 3 اختصاصيين (سيزار ميلشتاين، وجورج كوهلر ونيلز يرنه) كوفئ بجائزة “نوبل” للطب في العام 1984. وسرعان ما تبيّن أنّ الدواء لم يكن بالفعاليّة المأمولة.

وانكّبت البروفسورة كريستين فرّان على درس الآثار الجانبيّة لذلك الدواء (هو “أوكت 3” OKT3)، بل أنها خصّصت أطروحتها في الدكتوراه لدراسة تأثيراته الجانبيّة المضرّة.

المرأة العربية وتحدي المؤسسة العلمية الغربية

أدركت البروفيسورة كريستين فرّان أن مسارها العلمي يحتاج إلى نقلة نوعيّة في بحوث ما بعد الدكتوراه. واجتذبتها “جامعة هارفرد” الأميركية. فانتقلت إليها. وانخرطت في بحوث متقدّمة عن جهاز المناعة البشري، خصوصاً الآليات التي يتحرّك بها ذلك الجهاز عند رفض زرع عضو منقول إليه.

ومرّة أخرى، خدمت الظروف العائليّة كريستين على أفضل وجه، وهو أمر يرجح أن تحسدها عليه كثيرات من عالِمات العرب في المهاجر الغربية، إذ تابع الأب دعمه وتأييده لابنته، مصراً على أن لا شيء يجب أن يقف أمام تقدّم المرأة في العلم. وكذلك كانت الحال مع بقية الأسرة. ولا يعني ذلك أن الأمور كانت سهلة مثل السير على درب من حرير. فعلى رغم أن زوجها كان يعمل أيضاً في أميركا أستاذاً في العلوم السياسيّة في جامعة “تافت”، إلا أن التوفيق بين البحوث العلمية المتقدمة وواجبات الأسرة التي تتضمن رعاية طفل، أمر لا يعرف مشقّته سوى المرأة. كيف تكون تلك الصعاب، وهي أيضاً أجنبية وتعمل في علوم ما زالت عقلية الذكر الغربي متسيّدة فيها؟

 

في البحث عن “إيه 20”

بعزم ثابت، تابعت البروفيسورة كريستين فرّان بحوثها المتطورة في علوم المناعة المتصلة برفض الجسم نقل عضو إليه. واستهلت مسارها العلمي في “هارفرد” ببحث رائد عن دور مضادات الأكسدة في حماية الشرايين والأوعية الدمويّة من الالتهابات المتّصلة بكثير من أمراض القلب والجهاز الدوري. وفي عام 2009، نالت شهادة تكريمية في العلوم الطبيّة من جامعة “هارفرد”.

وساعدها ذلك البحث على تلمس الإنجاز العلمي الذي استغرق عقدين من عمرها كي تحقّقه: دور عناصر الوراثة (الجينات) في تحريك جهاز المناعة كي يرفض العضو المزروع في الجسم. واستطاعت أن تحدّد الجين الذي “يقود” الآلية الوراثية المتعلقة برفض زرع الأعضاء، وهو الجين “إيه 20” A20.

وتشير البروفيسورة فرّان إلى أن المؤسسات العلمية في الغرب تعلي شأن الإنجاز العلمي بغض النظر عمن يحقّقه، على رغم “الحساسيّات” التي ربما تأتّت من العرق والجنس والطبقة وغيرها. وعيّنت البروفيسورة فرّان أستاذة للجراحة في كلية الطب بجامعة “هارفرد”، وما زالت تشغل ذلك المنصب.

وقبل “هارفرد”، نالت كريستين “جائزة جين كوغِل - 2002” التي منحتها “الجمعية الدولية لأمراض سكّري الأطفال”. كذلك حازت “جائزة بول نيومان” (1992) من “الجمعية الفرنسية لعلوم الكلى”، إضافة إلى نيلها منحة مالية تكريمية “مؤسسة بحوث الطب” في فرنسا التي تشتهر عالمياً باسمها المختصر “أف أر أم” FRM.

وفي مؤسّسة عريقة كجامعة “هارفرد”، بدا أن جهود البروفيسورة فرّان المستمرة بلا كلل على مدار عشرين سنة، تستأهل المكافأة والتكريم، خصوصاً أنها جهود توّجت بإنجاز علمي بارز تمثّل في تحديد الجين “إيه 20” مركزاً للآلية الوراثية المتعلقة برفض زرع أعضاء في جسم الإنسان. وتتوقع كريستين ظهور تطبيقات عملية تعمل على الجين “إيه 20”، خصوصاً في زرع الكبد وعلاج أمراض في العين توصل إلى العمى.

وفــــي 2015، كــــرّمت جامعة “هارفــــرد” الأميركية العريقـــة العالِمـــة العربيـــة البروفيسورة كريستيـــن فرّان مجدداً بأن منحتها “جائزة ابن سينا الفخريّة في الصحة والعلوم الطبيّة” Inaugural Avicenna Award in Health & Medical Sciences. وتسلمت الجائزة في سياق مؤتمر “خريجي هارفرد العرب” التاسع في خريف العام المنصرم.

 

نقلاً عن الشقيقة "الحياة" (أحمد مغربي)

 

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079