العنف اللفظي... إساءات نفسية خطيرة لا يفصح عنها الطفل
ثمة مثل يقول: «لسانك حصانك إن صنته صانك وإن هنته هانك». فالكلمة التي ينطقها الإنسان، إما أن تصون كرامته وتنشر قيم التسامح والود والتعاون، أو تكون قنبلة موقوتة تنفجر وتهدد أمن المجتمعات بما تحمله من عنف وقسوة. فما بالكم إن كانت هذه الكلمات الجارحة تخرج من فم والدة، أو معلّم يرافق الأطفال في بداية نموهم وتكوينهم الشخصي! قد تكون هذه الكلمات من باب الحرص والتربية، إلا أنها تحمل في طيّاتها إساءات نفسية لا يفصح عنها الطفل فتكبر معه، وترافقه طوال حياته. وأخيراً، بيّنت دراسة حديثة قام بها باحثون من جامعة «مكماستر» الكندية، أن الإساءة النفسية، سواء العقلية أو العاطفية، أكثر ضرراً على صحة الطفل من الإساءة البدنية التي قد تتمثل بصفعة أو ركلة أو لكمة، مؤكدةً أن تلك الإساءات النفسية منتشرة بكثرة بين الأطفال، إذ تتضمن وفق رأي الباحثة أهاريت ماكميلان التي ترأست الدراسة، الكثير من التصرفات التي يتم فيها التقليل من شأن الطفل وتشويه سمعته وترهيبه واستغلاله، هذا فضلاً عن عدم التجاوب العاطفي معه لدرجة تصبح فيها صحته في خطر. لكن من الضروري التفريق هنا بين الغضب المشروع للأهل، والإساءة النفسية التي يرتكبها البعض في حق أبنائهم. وتوضح ماكميلان أن غضب الأهل والصراخ في وجوه أبنائهم في الملاعب بعد الطلب منهم مرات عدة ومتتالية أن ينتعلوا أحذيتهم الرياضية لا يُعتبران إساءة نفسية، فتقول: «أما الصراخ على الأطفال بشكل يومي ومتكرّر، أو إخبارهم بأنهم أشخاص سيئون، وبأنهم نادمون على إنجابهم، فيعد مثالاً للنموذج السيئ الذي يتسبّب في انعدام التواصل ما بين الأهل وأطفالهم».
تستعرض «لها» في هذا التحقيق بعض النماذج الواقعية حول طريقة تعامل الأمهات مع أبنائهن، لإدراك مدى تأثير الكلمة الجارحة أو اللطيفة في الطفل من خلال رأي المختصين في هذا المجال.
شهادات واقعية
أم زياد (27 سنة) أم لطفل عمره أربع سنوات، ترى أن «الكلام الجارح والتهديدات اللفظية، وسيلة يتبعها الأب والأم غير القادرَين على توجيه سلوك أبنائهما، وهي وسيلة تقليدية مؤثره جداً، بحيث كان الطفل يخشى من سخط والديه، فينفذ أوامرهما مُرغماً، بينما الطفل الذي يتعرض للكلام الجارح والعبارات المؤذية في أيامنا الحالية، تتكون شخصيته بطريقة سلبية، سواء كان منطوياً على نفسه أو عدوانياً، فكلتا الحالتين تؤثر في نموه العقلي، بحيث نجده يردد العبارات التي كان قد سمعها في المنزل أو في محيطه، أو يقلد الكبار تقليداً أعمى من دون أن يدرك خطورة هذا الأمر عليه». وتضيف: «من خلال تجربتي مع ابني، أجد أن أسلوب الترغيب والمكافأة وحرمانه بعض الشيء من ألعابه أو طعامه، في حال ارتكابه أخطاء، يُجدي نفعاً معه، وحتى اتباع هذا الأسلوب يجعلني لا أقوى على تمالك أعصابي، لكن الأمر يحتاج إلى القليل من الصرامة والجدّية بغية تعديل سلوك أبنائنا، ومع الوقت سنخرج بنتائج إيجابية تعود عليهم بالنفع».
عبير محمد (34 سنة)
أم لثلاثة أطفال أكبرهم في العاشرة من عمره: «لست من الأمهات اللواتي يستخدمن الكلام الجارح أو عبارات التأنيب في تعاملي مع أطفالي، ولا أجد ضرورة لهذا الأسلوب لما يترك من نتائج سلبية على الأطفال، سواء في نموهم العقلي أو الجسدي. لذلك أستخدم أسلوب النقاش والحوار معهم وأستمع إلى آرائهم ووجهات نظرهم في معظم الأمور التي يرغبون بها. في السابق كنت أتّبع أسلوب المكافأة والتشجيع، مثلاً إن اهتممت بطعامك فسنذهب إلى المكان الفلاني، وإن اجتهدت في دراستك فستحصل على اللعبة التي تحب، لكن والدهم اعترض على هذا الأسلوب خوفاً من أن يُصبح اهتمامهم بدراستهم أو بصحتهم مقتصراً على الحصول على المكافآت، فعدلت عن هذا الأسلوب، خاصة مع ابني (10 سنوات) وابنتي (7 سنوات). أما الصغيرة (سنتان) فهي لا تزال طفلة تحصل على ما تريد وقتما تشاء». وتلفت عبير إلى أن «استخدام العنف اللفظي أو الكلام الجارح، أو حتى بعض العبارات التي لا ينتبه الأهل إلى أنها تُسيء إلى الطفل نفسياً، يجعل منه شخصاً منعزلاً وحساساً وخجولاً، وربما يكبر معه هذا الأذى النفسي ليصبح عدوانياً في الكثير من الأحيان».
تأنيب الضمير
توضح أنجال زاهد(37 سنة) وهي أم لأربعة أطفال فتوضح: «ألجأ في بعض الأحيان إلى استخدام أسلوب التأنيب مع أطفالي، خاصة إن قاموا بتصرفات خاطئة، لكنني لا أتلفظ أمامهم بأي كلام جارح، حتى أنني أشعر بتأنيب الضمير إذا صرخت على ابني الأكبر (11 سنة) عندما يُقصّر في تحصيله الدراسي، كما لا أقوى على شتمه عندما يُكثر من تناول الطعام غير الصحي، أو أقول له «أنت فاشل» وما إلى ذلك... مما تردده بعض الأمهات. وما إن أُوبّخه حتى أشعر بأن تأثره يظهر بصورة سلبية، بحيث يُخبّئ كل ما يشتريه وتزيد شراهته على الأكل، وفي الوقت نفسه قد أعتذر منه بعد الصراخ عليه، وأناقشه بما أغضبني منه. وأرى أن الأجيال الجديدة تكبُر قبل الأوان، ولا يجدي معهم العنف والكلام الجارح، بل على العكس إذ يزيدانهم عناداً وعصبية. لذلك أفضّل في الكثير من الأحيان الكلام اللطيف، وعبارات التشجيع، مما ينعكس إيجاباً على سلوكهم ونفسيتهم، فالطفل بحاجة إلى الأمان والمحبة، وهذا ما يجب أن تمنحه إياه الأم».
يتنوع العنف اللفظي الممارَس على الأطفال، بين السخرية والتهكم، ومقارنة الطفل بنماذج مختلفة من الأطفال، خاصة ممن هم في عمره، ولومه على ما يرتكب من أخطاء، وتهديده المستمر لفظياً بالضرب أو الحرمان والحبس... وإن لم يُنفَّذ هذا التهديد، فإنه يُؤثر سلباً في نفسية الطفل، ويظهر ذلك إما بالتمادي أو باستخدام الأخطاء كمرجع لمبتغاهم.
«تشكوني إلى والدها»؟
تذكر أريج الحامد (26 سنة)، وهي أم لطفلة واحدة (سبع سنوات) أن ابنتها لجين «شديدة الدلع، خاصة أنها الحفيدة الأولى في عائلتي، ولا تولي اهتماماً بأحد، مما يجعلها ترتكب الأخطاء بصورة دائمة، وفي الوقت نفسه يُربكني ويحرجني أمام عائلة زوجي، فلا أستطيع الصراخ عليها أمامهم، أو حتى في المنزل، فوالدها يغضب مني كثيراً إذا وبّختها، وإن تحدثت معها، تدخل في نوبة بكاء تمثيلي إلى أن يصل والدها من العمل وتشكوني إليه، وتستمر بالبكاء بطريقة مزعجة... في البداية تعمدت ألا أُغضبها وكنت أوفر لها ما تحتاج إليه، لكن الحال اختلف معها بحيث أصبحت تبكي وتصرخ بأعلى صوتها من دون أن تذرف الدموع، ففهمت مقصدها بأنها تُجيد التمثيل لتصل إلى مبتغاها، ورغم ذلك، أتجنب دائماً أن أجرحها بكلمة أو حتى أُعنّفها»... لافتة إلى أن «ابنتي تشعر بالسعادة إن سخرت من أحد أقاربها، فهي تسخر دائماً من ابن عمّها، خاصة أنه ممتلئ الجسم فتصفه بنعوت تثير ضحكها وتسبب الأذى له، وحاولت تنبيهها مراراً، لكنها عنيدة ولا تستجيب أبداً، الأمر الذي يحرجني مع والدته، ومع الطفل نفسه، ولا أدري ما الحل؟».
ولدي... «لعبة التسلية»؟
العنف اللفظي الذي يمارس على الأطفال في مجتمعنا لم يعد يقتصر على ألسنة الأهل والمربّين فقط، بل امتد ليشمل المعلم الذي تكون أذيته وعنفه أشد قسوة، لأنه يُحرج الطفل أمام أقرانه التلاميذ، ويزيد من أثره العميق في نفس الطفل.
تروي لنا أم جاسم (42 سنة) حادثة وقعت لولدها في المدرسة وتقول: «يبلغ ولدي فيصل من العمر 12 سنة، وهو متفوق جداً، ذكي ومؤدب، لكن المشكلة في معلم الفصل الذي كان يطلب دائماً من ولدي أن يقوم بحركات ساذجة، كأن يسكب العصير على قميصه، ليضحك عليه زملاؤه، أو يُحرّك فمه بشكل مضحك، أو يقع على الأرض بهدف إضحاك الآخرين... في البداية، أخبرني فيصل بما قام به في الفصل، فاستغربت كثيراً وتضايقت، لكنه أقنعني بأنها لعبة من المعلم للتسليه لا أكثر. وفي اليوم الثاني، تكررت طلبات المعلم نفسها من ولدي، ليعود غاضباً إلى المنزل ويخبرني بما قام به. ومع مرور الوقت، بدأت أتضايق، وأخبرت زوجي بالأمر، وسرعان ما ذهب إلى المدرسة وأخبر المدير بما يطلبه المعلم من ابني، الذي بدأت علامات الغضب والإزعاج تتضح عليه كلما عاد إلى المنزل، حتى أنه طلب مني البقاء في المنزل وعدم الذهاب مجدداً إلى المدرسة».
وتضيف: «حضر الأستاذ وأكد لزوجي أن فيصل هو من يقوم بهذه الحركات من تلقاء نفسه، ليعبّر عن فشله الدراسي، خاصة أنه يقوم بهذه الحركات أثناء شرح الدرس، إلا أن زوجي غضب من الأستاذ وضربه، مما دفع بالمدير إلى فصل ابني من المدرسة لمدة أسبوع بحجة الراحة، وتمت معاقبة الأستاذ بفصله أيضاً، ونقله إلى مدرسة أخرى. وعندما عاد زوجي مصطحباً ابني فيصل إلى المنزل، أخبرني الأخير بأن الأستاذ كان ينعته دائماً أمام أصدقائه بـ (الغبي، والفاشل)، وطلب من والده أن ينقله إلى مدرسة أخرى، وتم له ما أراد. حتى أنني عرضته على اختصاصي نفسي في محاولة مني لإخراجه من حالة العصبية والعدوانية التي آل إليها وبات يتحسن تدريجاً».
د. الخطيب: كل الدراسات النفسية تؤكد أن العنف اللفظي أكثر خطورة من العنف الجسدي
من جانبه، يقول كبير استشاريي الطب النفسي استشاري الصحة النفسية للأطفال والمراهقين الدكتور سعد الخطيب: «تؤكد جميع الدراسات النفسية أن العنف اللفظي أكثر خطورة من العنف الجسدي، ذلك أن الطفل يكون في مرحلة نمو شخصية، يحاول خلالها أن يُنمّي تكوينه النفسي، سواء النفسي العاطفي، أو النفسي المعرفي. فتلقّي الطفل ألفاظاً غير مقبولة، يؤدي إلى عدم استمراره في النمو، ويُسمى هذا بالمصطلح النفسي «النقوص»، وبالتالي يؤثر في مراحل النمو الأولية وهي الثقة وعدم الثقة، لتظهر الآثار المؤلمة التي يتحملها الطفل في حال تعرضه للعنف اللفظي، وتلازمه طوال حياته، ومنها فقدان الثقة بالنفس وتحوله إلى طفل كئيب وحزين، من دون سبب مباشر، باستثناء أنه تراكم عنف لفظي ظلّ هماً وألماً يتحمله الطفل ويحبسه في داخله، مما قد يُفسر سلوكه العدواني وصراخه المستمر، ويشير إلى عمق واضح لأثر ذلك العنف في نفسيته وبنائه... هذا في حال كان التجريح معنوياً فقط. وهناك أنواع من التجريح، فقد يكون لفظياً يُراد به شيء، وحركياً يُراد به شيء آخر، وهذا يُعرف بالرسالة المزدوجة بحيث تستخدم الأم الكلام اللطيف مع طفلها أمام الناس، بينما تقصد تعنيفه، لكن عند العودة الى المنزل، مما يطلق عليه «اللخبطة في التفكير»، وهو يؤدي إلى استعداد الطفل لما يعرف بمرض الانفصام».
ويضيف الخطيب: «من آثار العنف اللفظي على الطفل أيضاً، محاولات تدمير الذات، مثل إيذاء نفسه من طريق إحداث جروح في الجلد بآلة حادة، والسلوك المعادي، وقد يكون كرد فعل لدى بعض الأطفال من خلال إظهار سلوك عدواني، بضرب الأطفال الآخرين أو الشجار الدائم معهم. كما أن سوء المعاملة المستمر يؤثر في نمو الطفل جسمانياً واجتماعياً وأكاديمياً أو عاطفياً، وقد يبدأ الطفل بإظهار علامات الاضطراب العاطفي مثل مص الإبهام، أو التبول اللاإرادي، أو عدم التفوق الدراسي، وقد تظهر هذه السلوكيات على المدى القصير، ومنها ما يظهر على المدى الطويل بحيث يصبح الطفل عرضة للاكتئاب، والقلق عند الكبر، أو قد يلجأ بعض الأطفال إلى العنف كوسيلة للتفاهم»... لافتاً إلى أن «الطفل قد يستمع إلى الكلام الجارح خارج نطاق أسرته، كأن يكون في المدرسة من المعلم الذي ينعته ببعض الصفات مثل «الأهبل، الغبي، والفاشل»، وهي رسالة أخرى ونوع من التحطيم النفسي، وعدم رغبة الطفل في الذهاب إلى المدرسة. وإن تلقّى العنف اللفظي في العمل، تقلّ الرغبة لديه في العمل بسبب سماعه عبارات كـ «أنت مهمل، وغير دقيق...»، وللأسف، خطورة العنف اللفظي بشكل عام تفوق خطورة العنف الجسدي، وتؤكد دراسات حديثة أن الاساءة النفسية أكثر ضرراً على صحة الطفل من الضرب. كما أن سماع مختلف العبارات البذيئة والخادشة للحياء في كل المرافق والتجمعات، بدءاً من الاماكن العامة، ومروراً بالمنتديات الاجتماعية والرياضية، وانتهاء بالمؤسسات التربوية والتعليمية كالمدارس والمعاهد والجامعات، لها الأثر البالغ في الشخص في كل مراحل نموه وحياته».
ويختتم الخطيب حديثه مؤكداً أن «إثبات تعرض الطفل لعنف لفظي صعب جداً. فبعض الأهل قد يستخدمون عبارات لا يدركون أنها تُسيء نفسياً إلى أطفالهم، فهم من منظورهم الشخصي يرغبون في تشجيعهم وتحفيزهم، خاصة إن تمت مقارنتهم بأطفال آخرين، في حين أن قسوة هذه الكلمات قد تكون أخطر من الإيذاء الجسدي. وللأسف هناك مجموعة من الألفاظ والشتائم العاطفية، كأن تقول الأم لولدها: «أنا لا أحبك، أو لا تقترب مني، أو أنا لست والدتك، أو أنا أحب شقيقك أكثر منك...»، خاصة إذا تصرف ولدها بشكل خاطئ، فيجب أن تنتبه الأم إلى ما تقوله لولدها، كأن تقول «لا أحب سلوكك». فالطفل بحاجة إلى الأمان، والأم مع الاحترام الكامل للأب، هي مصدر الأمان والحب والرعاية والحنان، وبذلك تعزز الثقة لدى طفلها، وتجعله يثق بها دائماً ويتقرّب منها، ويتفاعل معها وتبادله بدورها هذا التفاعل والحوار».
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024
شؤون الأسرة
اقتراحات تمييزية للتشويش على حق الأمهات اللبنانيات بإعطاء الجنسية لأطفالهن
شؤون الأسرة
عائلة حسام ورولا تنقل تفاصيل دقيقة عن الحياة في هولندا بكل صعوباتها وإيجابياتها
شؤون الأسرة