جولي مراد: أحتفي بالحضارات والقواسم المشتركة بينها
«شعراؤنا... صانعو مجد أرمينيا» هو أكثر من كتاب، إنّه مشروع أرادت الكاتبة والمترجمة جولي مراد أن تمضي في تحقيقه، رغم صعوبات كثيرة كان من الممكن أن تُعيقها.
ومع أنّ الجاليات الأرمنية منتشرة في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً في لبنان، تبقى الترجمات العربية للشعر الأرمني غير وافية. ويأتي «شعراؤنا» ليسدّ فراغاً في هذا المجال، لكونه يضم مختارات من الشعر الأرمني القديم والحديث.
ونجحت جولي مراد في أن تنقل القصيدة الأرمنية إلى اللغة العربية الثقيلة، من غير أن تنزع منها خصوصيتها وصورها وأحاسيسها، وهي الكاتبة الأرمنية التي تعبق ذاكرتها بروائح تلك الحضارة وجمالياتها، واللبنانية التي عشقت اللغة العربية وكتبت فيها قصائدها وترجماتها ومقالاتها، علاوة على عمل معجمي.
عن كتابها الأنيق في غلافه ومختاراته «شعراؤنا» (دار المراد)، وعن أهمية هذا العمل بالنسبة إليها ككاتبة لبنانية- أرمنية، وعن واقع الترجمة في عالمنا العربي تتحدّث جولي مراد...
- كيف بدأت حكاية هذا المشروع؟
يعود إعجابي بالأدب الأرمني عموماً وبالشعر الأرمني خصوصاً الى الطفولة. منذ صغري كنت مفتونةً بالشعر والأدب واللغات، ولذلك لي إصدارات كثيرة في هذا المجال، فكنت من حين إلى آخر أترجم بعضاً من الشعر الارمني الى العربية وأرسله الى جريدة «النهار» اللبنانية، ويعود الفضل في تشجيعي على المضيّ في الكتابة بشكلٍ غير مباشر الى الشاعر أنسي الحاج الذي رحّب بنشر ترجماتٍ لي في صفحته الثقافية، مع أنه لم يكن على معرفةٍ شخصيةٍ بي.
كنت يومها طالبةً في مدرسة الترجمة التابعة للجامعة اليسوعية وبالتالي لم تكن الترجمة بالنسبة إليّ مجردّ هواية، بل طالما أردت إقران لذّتي تلك بمسيرةٍ أكاديمية منحتني لاحقاً بعداً ونضجاً مهنيين.
وكنت كلّما أقدمت على نشر قصائد لفتتني طالبني بعضهم بالمزيد. فتحوّلت الكتابة من لحظات لذةٍ موسمية الى لقاءٍ شبه دائم مع شعراء أرمن أغوص في كلماتهم وماضيهم ناقلة حضارتهم ومآسيهم الى لغة الضاد.
وتدريجاً أعجبني الابحار في كلمات هؤلاء الشعراء فولِدت فكرة الكتاب بشكلٍ تلقائي عفوي، خصوصاً أنّ الترجمات المتوافرة لهذا الشعر نادرة، وإن وجدت فهي لم تجد الرواج المطلوب، لسببٍ أو لآخر.
هذا فضلاً عن رغبتي الشديدة طبعاً في ترجمة أعمال لشعراء روّاد بأسلوبي ولغتي وروحي لما في ذلك من تحدٍ لقدراتي الفكرية واللغوية.
- كم تطلّب منك جهداً ووقتاً؟ هل نفذته لسدّ الفراغ في الشعر الأرمني المُترجم أم أنّه إحتفاء بالجذور والأصول؟
لا شكّ في أنّ الترجمة أخذت مني جهداً كبيراً، فكلّ فعل ترجمة إنّما هو جهدٌ يحاكي جهد الكتابة، إن لم يكن يتجاوزه بأشواط.
ليس للمترجم حرية المؤلف، بل هو كاتبٌ أسير في زنزانة آخر. لا ينطق بصوته الشخصي، بل بصوت هذا الآخر. هو كائنٌ حساس يضطرّ الى التجرُّد من أفكاره الخاصة ولغته الفردية. أفكاره ليست ملكه.
إنّه يتقمص روح الآخر، فتجده يعيش صراعاً بين نقل المشاعر الواردة في النص المصدر، من جهة، وما يولّده الأخير من أحاسيس لديه من جهةٍ أخرى، وفي الوقت عينه لا يتصالح مع نفسه إلا حين يجسّد كتلة الأحاسيس تلك، في قالبٍ متماسك.
ولا لذة تضاهي لحظة الانعتاق تلك. هذا بالنسبة الى الترجمة، أما بالنسبة الى العمل ككلّ، فكان بحاجةٍ، بالاضافة الى مجهودي الشخصي، الى إشراف باقةٍ من الذواقة والاختصاصيين فرافقتني في المغامرة رؤية الأديب والناقد يرفانت دير ختشادوريان ونصائحه، هو المتمرّس المتعمق بتاريخ الادب والفن الأوروبي، أما في الشقّ التشكيلي فساعدني الأستاذ شاهين ختشادريان وهو مستشار شؤون كاتدرائية ايتشميازين الثقافية والروحية وهو كذلك ناقد ومؤلّف وله موسوعات فنية كثيرة تُعرّفنا الى الفنّ التشكيلي الارمني بمخطوطاته ورسومه.
استغرق العمل قرابة الثماني سنوات، وهو فعلاً احتفاء بالجذور، أليس كلّ كتابٍ كذلك أساساً؟ في كتابي أكرّم ملوك الشعر وأسياد الكلمة لدى شعبي بنقل ذكراهم الى الأذهان العربية، ولكني أجد في الأمر كذلك احتفاءً بالحضارات وبالقواسم المشتركة بينها.
- أناقة الكتاب لافتة والأسماء التي شاركت في إنجاز هذا المشروع كبيرة، فهل وجدت صعوبة ما في إقناع رُعاة هذا العمل؟
لم أجد صعوبةً إطلاقاً. بل كلّما عرضت الأشعار على شخصٍ دبّت فيه الحماسة وأراد المساهمة فيه. ولا أنسى هنا أن أشكر صاحب دار النشر الاستاذ ميشال مراد على إشرافه وإخراجه الكتاب بشكلٍ أنيق، وهو طويل الباع في هذا المجال.
ولا يفوتني كذلك أن أشكر الاستاذ جو باروجان الذي تفرّغ لِتسجيل الأشعار على قرصٍ مدمّج. وقد تألّقت الأشعار بصوت كلّ من الشاعرة باسمة بطولي، والاعلامي جورج قرداحي والشاعر زياد عقيقي، فكلّ التقدير لهؤلاء.
وإذا أردتُ أن أذكر كلّ من ساعدني على تحقيق هذا المشروع لبقيت ساعاتٍ في السرد فقد ساهمت فيه أيادٍ بيض كثيرة وقلوب كبيرة.
- هل ثمّة أسماء ظُلمت بعدم ذكرها أم انّك كنت أمينة في نقل أهمّ القصائد والشعراء؟
لم أظلم أحداً لأنني ترجمت لكبار الشعراء وأهمّهم. طبعاً لم أترجم مجمل أشعارهم ولكنني اصطفيتُ ما هو محفورٌ في ذاكرة الأرمن الجماعية فرجعت الى الميثولوجيا، ثم إلى أعمدة الشعر الأرمني.
كذلك ترجمت لشاعرين معاصرين: بيبو سيمونيان وهنريك أتويان. لعلّني لم أسهب في الشعر الحديث لأنّ ذلك يحتاج الى مجهودٍ منفصل.
- إلى من تتوجهين في هذا العمل، القارئ الأرمني المولود في بيئة عربية أم إلى القارئ العربي الذي لا يعرف الكثير عن الأدب الأرمني؟
أتوجّه بهذا العمل الى كلّ من يقدّر الكلمة الحلوة. الأرمني عادةً شعبٌ قارئ، وهو غالباً ما يكون حافظاً لأبيات كبار شعرائه.
قد يستسيغ قراءة أشعار بلده بلغةٍ أخرى لما في ذلك من تكريمٍ لحضارته وأدبائه وشعرائه، ولكنني بالكتاب هذ أتوجّه بشكلٍ أساسي الى كلّ من يقدّر تلاقح الحضارات، وكلّ من لديه فضول الاطلاع على حضارة شعبٍ، لا يعرف عنه إلا الألم وجرح لم يندمل سبّبته «آلة القتل العثمانية».
أتوجّه به الى القارئ العربي لأعرّفه الى «الأرمني» بعيداً عما عهده فيه من سمعةٍ طيبة لحرفيةٍ مهنية أو مهارةٍ في الرسم أو الموسيقى، هذا «الأرمني» هو شريكُ «العربي» في مأساته ومصائبه، في رغبته في البقاء رغم كلّ شيء، إنّه سليل «ثقافة الفينيق»، ولعلّ أكثر ما يميّز «الأرمني» هو أنّ لا «إبادة» في الكون قادرةٌ على إزالته من الوجود، إنّه نقيض «ثقافة الموت» فمهما قُتِلَ وشُرِّدَ، ودُمِّرَ تجده يعيد إحياء ذاته وتاريخه ليبقى محتفياً بالحياة!
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024