جُزُر السِّيشِل: أرض السِّحر البِكْر
تُفاجأ في المجلة بمن يسألك: هل تذهب إلى جُزُر السيشل؟
وقبل أن تُجيب بـ «نعم» أو «لا» تسأل بعض من حولك عن هذه الجُزُر، ثم تستخدم الهاتف لمزيد من المعرفة، فتعلمُ من أكثر من مصدر، داخل المجلة وخارجها، بأن جزر السيشل واحدة من أجمل بقاع الأرض، وأن فرصة زيارتها لا تُفوَّت.
فتوافق على الدعوة ذات الطابع الإعلامي، وتبدأ بالإستعداد للرحلة التي تولَّت شركة خاصة تنظيمها بالتعاون مع طيران الإمارات.
عندما تستقرُّ داخل الطائرة التابعة لطيران الإمارات، والجاثمة في مطار رفيق الحريري في بيروت، يكون الجميل واللطيف والمُميَّز في الرحلة قد بدأ، فأنت الآن، في طائرة طيران الإمارات الذي نال أكثر من جائزة عالمية على مزاياه المتعدّدة، خصوصاً في قسم الدرجة الأولى وقسم رجال الأعمال حيث أنت الآن تستقرّ، في مقعد وثير ومُريح، ويمكن أن يتحوَّل إلى سرير للإسترخاء أو النوم متى تشاء. وجوّ الضيافة الدافئ والحميم يجعلك تشعر أنك بين أناس تألفهم ويألفونك ولا يهمهم شيء سوى السَّهر على راحتك.
رحلة الطائرة، التي تتمّ على مرحلتين من بيروت إلى دبي، ومن دُبي إلى السيشل، طويلة بعض الشيء، ومع ذلك فهي مريحة، إن لم أقُلْ شيّقة ومُمتعة، في الذهاب وفي الإياب.
المطار المعشوشب
وعندما تصل إلى جزر السيشل وبالتحديد إلى مطار جزيرة «ماهي»، وتترجَّل من طائرة الإمارات الضخمة، تجد في المطار طائرة صغيرة في انتظارك لا تتّسع لأكثر من إثني عشر شخصاً، فتستقلّها أنت وفريق الصحافيين الذين جئت بصحبتهم، وعندما ترتفع الطائرة إلى أعالي الفضاء، تكون هذه فرصة لكي تشاهد صُوراً جوِّية بانورامية لجزيرة «ماهي» «الجزيرة الرئيسية في جمهورية السيشل» حيث توجد العاصمة «فيكتوريا».
ثم تتتالى الجزر المختلفة الأشكال والأحجام والمتناثرة، هنا وهناك، في تلك المساحة الشاسعة من المحيط الهندي.
إننا نتجه الآن إلى جزيرة «دنيس إيلاند» محطتنا الأولى في هذه الرحلة. وبعد نصف ساعة من التحليق، تهبط الطائرة في مكان هو أقرب إلى الحقل المعشوشب منه إلى المطار. ولا بد أن هذا المطار قد قام على أنقاض قسم كبير من الغابة التي لاتزال تمتدّ عند طَرَفَيْه.
نحن الآن في جزيرة «دنيس إيلاند» وقد حضرت فور هبوطنا من الطائرة عربتان صغيرتان وجميلتان توزعهما أفراد الفريق مع ما يحملون من حقائب، ثم انطلقتا بنا إلى فندق «دنيس بريفيت إيلاند» الذي سنقيم فيه لمدة يومين.
في الغابة الوادعة
لا يمكن نسيان سحر تلك اللحظات التي عبرنا فيها الغابة التي تمتدُّ بين المطار والفندق. إنها ليست غابة وعِرة كتلك التي يشاهدها المرء في الجبال، فلا جذوع ضخمة وقاسية هنا، ومن النوع الذي تتداخل وتتشابك فروعه، بل معظم النبات هو من فئة النخيليات المنتشرة فوق الأرض، أو الصاعدة في جذوع نحيلة سامقة إلى علوّ شاهق، لتنفتح أوراقها بعد ذلك في ما يشبه المظلات التي تسقف الغابة من أولها إلى آخرها.
إنها أشجار جوز الهند التي تنتصب بجوارها أو تتداخل معها طوائف أخرى من عائلتها ذات سيقان وأغصان وأوراق لم يعهدها شخص مثلي قادم من البيئة الجغرافية المتوسطية.
«فيلات» داخل الغابة
لم نتعرَّف، أنا وباقي الفريق، إلى طبيعة السيشل الأخاذة، إلا عندما استقرّينا في فندق ومنتجع «دنيس بريفيت إيلاند». الذي يشتمل على مركز استقبال فيه صالونات ومطاعم تقدِّم ألواناً من الطعام والشراب تتذوّق فيها نكهة الجزيرة الساحرة.
وأمام مبنى الإستقبال، حوض للسباحة. مُحاطٌ بأشجار الغابة وأمواج البحر. أما الفيلات المخصّصة للرواد في المنتجع، فهي عبارة عن بيوت مستقلّة موزّعة في أنحاء الغابة، تطلّ أبوابها ونوافذها على مشاهد متنوّعة للغابة الساحرة، والأثاث أنيق ومريح، والحمامات بلا جدران فالأشجار هنا هي التي تحجبُ وتستُر.. صمت عميق ومريح، حيث تستلقي أو تنام، يتخلَّله باستمرار، في الليل والنهار، تغريد الطيور التي تملأ أرض الجزيرة وفضاءها.
حظيرة السلاحف
حظيرة صغيرة لعدد كبير من السلاحف الضخمة تقع على بُعد أمتار من الفندق، وقفنا نتأملها من وراء سياج معدني، وقد خفَّتْ الكبرى منهن وزحفت باتجاهنا، ومكثت تزحفُ حتى ارتطمت بالشريط الحديدي، ولم يُثْنها ذلك عن متابعة التقدُّم، ولكن من دون أن تنجح في اختراق الحاجز، وقد دهشنا جميعاً عندما علمنا أن عمر هذه السلحفاة هو 137 سنة أي أنها مولودة عام 1876 وقبل تشكّل العالم الذي نعيش فيه بوقت كبير... وسوف نعلم بعد ذلك أن هذا النوع من السلاحف الضخمة، مع أنواع أخرى غيرها، هي من أبرز سكان جزر السيشل قبل حلول البشر فيها.
فرصة ضائعة
كان قد رُتِّب لنا موعد للصيد والغوص في بحر الجزيرة، لكن مطراً مدراراً ومفاجئاً ضرب الجزيرة في الصباح، وتواصل حتى حلول الليل، حال بيننا وبين ذلك.
كما حال مطرٌ آخر بيننا وبين القيام برحلة بحرية في اليخت لمشاهدة غروب الشمس الفذ والفريد كما شاهدناه في كثيرٍ من الصُّور التي استعرضناها لجزر السيشل. مع الإشارة هنا إلى أن أحد شطآن جزر السيشل قد اعتُبر أجمل شاطئ في العالم.
أشياء لا تُنسى
يومان في جزيرة «دنيس ايلاند» لا يمكن نسيانهما، غابة الجزيرة، وبحرها، ومنتجعها، وذلك الشعب الأليف اللطيف من أبناء الجزيرة العاملين في الفندق.
وسوف نغادر المكان في اليوم التالي، والجزيرة لاتزال تتلقَّى من السماء ذلك المطر الذي يجعل أشجارها تحافظ على خضرتها ورونقها الأزليين.
المحطة التالية في رحلتنا كانت جزيرة «ماهي» وهي الجزيرة الأكبر في جمهورية السيشل، والتي تقوم فيها، كما ذكرت، العاصمة «فيكتوريا».
في منتجع «بانيان - تري» في جزيرة «ماهي»
الطائرة نفسها التي أقلَّتنا من جزيرة «ماهي» إلى جزيرة «دنيس إيلاند» هي التي عادت بنا من جديد إلى «ماهي» التي أقمنا فيها ليلة واحدة.
بعد تسلُّم حقائبنا في المطار استقلّينا الباص الذي سيلقُّنا إلى فندق ومنتجع «بانيان - تري» على إحدى قمم جزيرة «ماهي». وقد تطلَّب وصولنا إلى المنتجع، ما يقارب الساعة من السير عبر الغابات، التي تتخلَّلها القرى والبلدات الصغيرة وقد أتاحت لنا هذه الرحلة الطويلة في الباص، أن نستكشف بشكل أوضح وأدقّ جَوْف الغابة السِّيشيلية، وأنواع أشجارها، مع أشكال هذه الأشجار وألوانها. هنا أيضاً يوجد التناغم نفسه بين الشكل واللون في هذه السيمفونية الشجرية الخلاّبة.
ولا تملّ من تأمّل المشاهد المتجدّدة وراء نوافذ الباص الذي مكث يصعد إلى أعلى فأعلى. وهناك عند القمة ظهر فندق «بانيان - تري»، وكأن الطبيعة هي التي نحتَتْه على رأس الغابة، وفي نقطة تُشْرِفُ على أجمل شاطئ لأجمل بحر.
ولم نكد ننتهي من قيلولة سريعة في الفندق، حتى هجم الليل، وكان علينا أن نتناول عشاءً بلدياً طيباً ومميزاً في مطعم، ذهبنا إليه في السيارة في رحلة ليلية جميلة، ولم نعُدْ منه إلا بعدما انصرم ثلثا الليل، وهكذا فإن زيارتنا لجزيرة «ماهي» انقضت بسرعة.
وكم وددت ونحن نهبط القمم الغابية الخلاّبة للجزيرة لو أننا قضينا وقتاً أطول هناك فمن الصعب أن تنزل في مكان ساحر كهذا المكان، بعد ظهر أحد الأيام من ثم تضطر لمغادرته في صباح اليوم التالي.
إلى جزيرة بارسلاين على أمواج البحر الهائج
السفينة، أو المركب الضخم، الذي استقلّيناه إلى جزيرة «بارسلاين» يتألّف من طابقين، ويتّسع لأكثر من مئتي شخص، وقد انطلق بنا عبر بحر شديد الهياج، فكانت تحمله إحدى الأمواج إلى علوّ لا يقلّ عن ثلاثة أمتار ثم تنحدرُ به إلى أسفل لترفعه من جديد موجة جديدة قبل أن تحطّ به إلى أسفل.
وهكذا حتى أشرفنا على سواحل الجزيرة، بعدما ضرب دوار البحر عدداً لا بأس به من الركاب، وكان من ضحاياه أحد أعضاء فريقنا. كان دوار البحر قد بدأ يهاجمني في آخر هذه الرحلة الصاخبة لكن السفينة التي أسرعت ورَسَتْ بالقرب من الشاطئ أنقذتني منه.
لكن، من الذي باستطاعته أن يقول أن تراقص السفينة فوق أمواج المحيط لم يكن يخلو من متعة طِفْليَّة تعود بالإنسان إلى تجربة الأرجوحة في أيام صغره. هذه التجربة التي يمتزج فيها الفرح بالخوف.
في الوادي الساحر
لم نذهب في «بارسيلان» إلى الفندق كما اعتدنا أن نفعل في محطاتنا السابقة، بل اتجهنا توّاً إلى هدفنا الرئيسي من الرحلة وهو مشاهدة مَعْلم طبيعي يُعتبر واحداً من أهم المعالم المميزة لجزر السيشل إنه وادي الـ «Coco de mai» الذي أصبح منذ فترة محميَّة طبيعية تحت إشراف منظمة «اليونيسكو» نظراً لفرادة أشجاره التي لا مثيل لها في العالم.
إنها أشجار جوز الهند العملاقة التي تتوزَّع، إناثاً وذكوراً، على عدَّةد هكتارات من الأرض، ويبلغ طول إحدى الشجرات في الوادي 300 متر عُلوّاً، والثمار التي تحملها شجرة الـ «Coco de mai» ذات الشكل المميَّز تحوَّلت إلى صُوَر ورسوم وتماثيل، يشاهدها الزائر هنا وهناك، بعدما أصبحت شيئاً من فولكلور الجزيرة.
قضينا وقتاً طويلاً ونحن نصعد الوادي بين الأشجار الشامخة وقد تملَّكنا إحساس تمتزج فيه الرهبة بالدهشة. إنه واد لا يفيه حقّه زائر مرَّ به سريعاً. بل لا يفيه حقّه أي كلام. ولا يُدرك إدراكاً صحيحاً إلا بالمشاهدة المباشرة.
نعود إلى سيارة الباص الصغيرة التي ستذهب بنا إلى فندق ومنتجع «رافليز» وهو عبارة عن قرية إن لم أقل مدينة من الفيلات المتناثرة في أحضان هضبة كبيرة تكسوها الأشجار، وتطلّ كل فيللا من مختلف زواياها وأجزائها على مشاهد خلاّبة.
إنها آخر ليلة في جزيرة بارسيلان وفي جزر السيشل منتجع رافليز، سوف تختتم بسهرة غنائية رائعة أحياهاً مطربون محليون، واحتشد فيها عشرات السياح من مناطق متعدّدة من العالم.
العودة إلى جزيرة «ماهي»
عندما انطلقت الطائرة الساعة الثانية عشرة ليلاً من مطار جزيرة «ماهي» وحلَّقت عالياً بين ظلمة الفضاء وظُلمة المحيط، شعرت بأن الرحلة إلى جُزُر السيشل كانت أشبه ما تكون بحلم من الأحلام.
الجزر والسكان
بحسب ما علمت من منسِّق الرحلة، فإن عدد سكان جُزُر السيشل لا يزيد عن المئة ألف نسمة يتمركز معظمهم في الجزيرة الرئيسية «ماهي» التي توجد فيها العاصمة فيكتوريا. وأن جُزُر السيشل تضمّ مئة وخمس عشرة جزيرة والمأهول منها خمس عشرة جزيرة فقط.
شعار
تتبنّى جمهورية جُزُر السيشل هذا الشعار:
الأصدقاء: الجميع
الأعداء: لا أحد
سعد زغلول
لقد نفى الإنكليز في أوائل القرن الماضي الزعيم المصري المعروف سعد زغلول إلى جُزُر السيشل. وهذا يعني أن الإنكليز قد انتزعوها في مرحلة من المراحل من الفرنسيين مستعمريها الأصليين.
بلا مفاتيح
في جزيرة «دنيس إيلاند»، وكنت قد ذهبت إلى الفيللاَّ الصغيرة التي أنزل فيها كي أنام. وكان الليل عاصفاً وممطراً والظلمة تلفُّ الغابة، وطيور غير مرئية تتطاير وتصيح بين الأشجار مما يولّد رهبة في الجوّ.
وعندما أصبحت في الداخل وذهبت لأقفل الباب، اكتشفت أن الباب بلا مفتاح، وأن لا مكان للمفتاح فيه. وعندما سألت عن ذلك، قيل لي إن المكان هو هكذا... وقد تعجبت بعد ذلك كيف نمت ليلتين وسط الغابة والباب غير مُقفل!
الجنسية
روى لي أحد العاملين في السيشل أنه ليس أسهل من الحصول على الجنسية في السيشل، فيكفي أن تفتتح دكاناً، أو تعمل على عربة متجوّلة، لفترة قصيرة حتى تصبح مؤهلاً للحصول على الجنسية.
الطيور
حيثما تنقَّلت في جُزُر السيشل، فإن السماء مسقوفة بالطيور المتعدِّدة الأشكال والألوان. وعندما لا ترى هذه الطيور فإنك ستسمع صياحها. وقد شاهدت عصفوراً رائعاً في الجزيرة يشبه شكله شكل الدوري عندنا لكنه أصغر من الدوري على لون أميل إلى الاحمرار.
ولعلّ هذا العصفور نفسه أو عصفوراً آخر يشبهه هو الذي كان يحطّ أمامنا على طاولة الطعام، فنضطرّ لاستعمال الملعقة لإزاحته من أمامنا أكثر من استعمالنا لها لتناول الطعام!
رفاق السفر
ليس هناك أهم من رفاق السَّفر في جعل رحلتك إلى أي مكان ناجحة أو فاشلة. وفي هذه الرحلة إلى جُزُر السيشل، وجدت نفسي وسط فريق صحافي وإعلامي لطيف ومتجانس وقد قامت بسرعة صداقة ومودَّة بين أفراده، فأضفى ذلك جوَّاً جميلاً ودافئاً على الرحلة، وإذا كانت مشاهد السيشل لا تُنسى، فإن هؤلاء الرفاق تركوا لديّ ألطف الذكريات: فيصل القادم من الكويت، ونور القادمة من دبي. ومريم من الإمارات، وشادية من اليمن، وأحمد (منسق الرحلة) قادم هو الآخر من دبي، وتابيثا، وهي الأجنبية الوحيدة، من انكلترا.
ذلك العالم
والأهمّ من كل ما ذكرت حتى الآن، هو أنك هناك، في جزر السيشل الهادئة النظيفة المسالمة، لا ترى شوارع مزدحمة بالسيارات، بل قد يمضي النهار بكامله من دون أن ترى سيارة واحدة، ولا دكاكين ومحلات تجارية متلاصقة، ولا أرصفة مكتظة بالمارّة، ولا دراجات نارية، ولا أبواق سيارات إسعاف أو سيارات إطفاء، والأهم من ذلك كله لا تسمع، أنت القادم من بلاد الشام والعراق، أصوات إطلاق نار أو دويّ إنفجارات.
فالغابة الوادعة هنا، والشطآن الفسيحة الرائقة واللامتناهية هما اللذان يفرضان سلطتهما على البشر لا العكس. فالغابة هي البيت الكبير الذي يحضن القرية الصغيرة والمدينة الكبيرة... وحيثما تحرَّكت هنا فإنك تتحرَّك بين الأشجار والأمواج والطيور والحيوانات الصديقة للإنسان.
وباختصار فإن زيارة الإنسان لجزر السيشل هي أشبه ما تكون بزيارة للعالم البريء والنظيف، والآمن، قبل أن يملأه الضجيج والتلوُّث والقلق والعنف والخوف الدائم من المصير المجهول.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024