البيت
ذكرياتنا الأولى تحفظها جدران، أمكنة مغلقة تبقى أمكنتنا. تبقى لنا وإن غادرناها وابتعدنا عنها، وإن هُدمت أو سُلبت أو احتُلّت. أمكنتنا الأولى لا تفقدنا. نحتفظ بها في مشاهد داخلية تساهم في بنائنا. نبنيها ونحن نكبر. نعمّرها وتبقى لنا ملاذاً نفسياً. مَن ينسى بيته الأول؟ مَن يتخلّى عن صور غرفته حيث تكدّست ألعابه ثم كتبه وألبوماته الموسيقية وأوراقه التي دوّن فيها بعضاً من روحه. الغرفة أهم عوالمنا، نمضي فيها أجمل أوقات وحدتنا. هذا الحنين إلى المكان الأول يصنعنا. نكمل به البحث عن مكان أول جديد، مكان نختاره في مرحلة البداية الجديدة. هذا ما يفعله الجميع. هذا هو السيناريو المعتمد. يكون طبيعياً في مرحلة البداية الجديدة الانفصالُ عن بيت العائلة الكبيرة والانتقال إلى بيت الاستقلالية، بيت الذكريات الجديدة. هذا المشروع المعروف ما عاد سهل التنفيذ. في العالم كلّه عموماً، وفي العالم العربي خصوصاً، تجد شابات وشباناً يناضلون يومياً بحثاً عن تحقيق ما حقّقه أهلهم وتحوّل في أيامهم حلماً أشبه بسراب. كلّما اقتربوا منه ابتعد عنهم. ها هم يطاردون الحلم بالغرفة، بالجدران التي ستحمي يومياتهم وقصصهم السعيدة والبائسة، بالخزائن التي ستضمّ أغراضهم ونتفاً من الماضي وما تبعه وما سيلحق به. يحلمون بالحب الذي نما وسيتمدّد ليشغل زوايا البيت كلّها. هذا الحب للأسف «يتحطّم على عتبة الشقة»، كما عبّر كثيرون بينهم.
هي أزمة قديمة جديدة، لكن لا شك أن صعوبة الحياة في أيامنا، نظراً للظروف السياسية والاقتصادية التي تعيشها منطقتنا، تكرّس الأزمات وتفتّت الأحلام. شراء «البيت» حلم يتأخر تنفيذه، أو يتم التحايل عليه بسيناريوات أخرى. لا بأس، لن يكون لنا ما كان لأهلنا. لكن من تخلّى عن فكرة امتلاك البيت لن يتخلّى عن الحلم بامتلاكه. تبقى أحلامنا ملكنا ولن نسمّيها أوهاماً.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024