تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

الجمهور

الجمهور
تمطر في ليل باريس. أقول لصديقتي إننا نتشابه، نحن أبناء العالم الثالث. هذا التصنيف الرهيب يجمعنا وإن كانت من بقعة بعيدة من بقعتي على الكرة الأرضية. الجغرافيا مهمة لكنها في قصتنا لا تعني شيئاً. عبرت صداقتنا الحدود والثقافات وسمحت بها الصدف. كلّما أضعتها وجدتها في مدينة مختلفة. تتبعُنا خطى القلق من بيجين إلى دبي فبيروت ثم باريس. قالت: حين تتشابه المدن في عين زائرها لا بد أن يعي ضرورة الخروج من نفسه. 
هذه المرة لم أشعر بنبض باريس. احتفلت بالصمت. هدوء، هروب، “سمّيه ما شئت”، قلت لنفسي، وأنا أستمع إلى باريس من داخل غرفتي. أستمع إلى سكون معبّر. أنظر من نافذة باريسية إلى قطعة من السماء. هذا المشهد لي. هذه الصورة لي. أتأمل المشهد. في ثقافة الأيام الحالية يجب أن ننقل المنظر بأمانة إلى مَن نظنهم “الجمهور”. وكيف لا نسميهم “جمهوراً” وهم يتتبعون صورنا وأخبارنا لأسباب نجهلها، لعلّ أبرزها الفضول وحب التلصّص على حيوات الآخرين. لقد أصبح لكل منا “جمهور” مجهول، علينا أن نحافظ عليه باستعراض ما نراه ويثير فضولنا أو يحرّك فينا فكرة أو شعوراً ما. أصوّر باقة الزهور قرب النافذة المعلّقة بسماء راضية. بالأمس كنت أكتفي بتأمّلها أو بتدوين كلمات من وحي المشهد. الآن أجدني أصوّرها. ثقافة الاستعراض تشجع على نقل الصورة للجمهور. لكنني أحتفظ بها لنفسي... الكل في جادة الشانزيليزيه الشهيرة مشغول بالتصوير وبإرسال الصور. تراهم على الأرصفة منهمكين “بتشارك” الصورة مع “الجمهور”. أظهر في صور السيّاح وهم يصرّون على حفظ اللحظة في صورة سيلفي. أكاد أرتطم بفتاة تخفي أذنيها سمّاعتان ضخمتان، وأخرى ظننتها تكلّم نفسها لكنها تتواصل مع شخص ما عبر الهاتف المخفي في مكان لصيق بجسمها ليربط عالمها بالعالم كلّه. أتساءل: ماذا يحصل حين نفقد الشعور بنبض المدينة؟ أتأمل النوافذ القديمة. ما أجمل النوافذ المفتوحة على حدائق داخلية. أقاوم تصوير المشهد. 

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079