تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

أسباب العزلة الاجتماعية تزداد وخطرها يهدد الحياة

الإنسان بطبعه مخلوق اجتماعي يميل إلى العيش وسط جماعة معينة، يشعر بينها بالأمان والاستقرار والطمأنينة، وتُشبع حاجته إلى الانتماء، وتبرز شخصيته من خلالها، وتتشكل إلى حد كبير، ويتشرب معها المعايير الاجتماعية والخلقية، والاتجاهات النفسية المهمة، ويتعلّق بأفرادها ويقيم معهم علاقات متبادلة. وحينما لا يستطيع أن يقيم هذا التعلق، فإن علاقته بأعضاء الجماعة تتأثر سلباً فينسحب بعيداً عنهم ويعيش وحدةً وعزلةً. ويفضّل بعض الناس العزلة عن محيطهم الاجتماعي، لأسباب مختلفة، قد يكون بعضها معروفاً، أو لأسباب غير معروفة. وقد يختار آخرون العزلة لغريزة داخلية في أنفسهم كما وصفها طه حسين بـ «الغريزة الوحشية»، تجعلهم يفضلونها على مخالطة غيرهم من الناس من أجل التمتع بسكون الحياة وبساطتها، أو للتخلّص من أحمال لا تطاق. لكن العزلة قد لا تكون مجرد غريزة داخلية وحشية، كما قال طه حسين، وإنما قد تكون مرضاً نفسياً يُبتلى به بنو البشر. «لها» تناقش في هذا التقرير العزلة الاجتماعية، أسبابها وأشكالها، ومدى خطورتها على الصحة الجسدية والنفسية والاجتماعية للشخص والمحيطين به.


الأصدقاء والصديقات، الأقارب والأهل، الكبار والصغار، يجتمعون في أماكن عامة، أو في زيارات عائلية، أو حتى في المطاعم، وعلى شاطئ البحر، وكل واحد منهم في وادٍ، لا يتبادلون أطراف الحديث إلا قليلاً، وربما يتحدثون بشأن يتعلق بخبر او فكرة قرأوها على مواقع التواصل الاجتماعي، في المنزل نجد أفراد العائلة الواحدة لا يتحدثون، ويعزل الأبناء أنفسهم في غرفهم بين أجهزتهم الذكية على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أثناء تناول الطعام يجلسون وهواتفهم النقّالة تسبقهم، إما لتصوير طبق على المائدة، أو للتواصل مع أصدقائهم الافتراضيين، أو ربما مع الذين تفصل بينهم مسافات بعيدة. حتى أن بعض السيدات والفتيات بتن يتفننّ في صنع الطعام لمشاركته بين الأصدقاء على مواقع التواصل الاجتماعي... فقلّ تواصل الأصدقاء في الواقع، وازدادت الصداقات الافتراضية، وأصبح التواصل الإلكتروني مجال إدمان على استخدام الأجهزة الإلكترونية من الحواسيب علاوة على الأجهزة الذكية، تلك التي جعلت كل فرد من أفراد العائلة يعيش في عزلة.

تعيش بين الهاتف والكاميرا منفصلة عمن حولها
دينا سالم (24 عاماً) أصبح لديها هوس بالتصوير، والتقاط أي منظر يلفت نظرها، فهي تعيش بين الهاتف والكاميرا منفصلة في كثير من الأحيان عمن حولها وغارقة في التصوير والنشر، حتى أنها تنشغل بالهاتف والتصوير أثناء اجتماعاتها بالأهل والأصدقاء، وتقول: «أقوم بنشر أكثر من 40 صورة يومياً على صفحتي في الفيسبوك، والسناب شات، فالكاميرا التي أملكها في هاتفي النقّال فائقة الوضوح، حتى أن أسرتي وصديقاتي يقنعونني بضرورة الاستمرار في التصوير، وهذا ما حبّب هذه الهواية إليّ، فاعتدت التصوير، وحتى إن كنت غاضبة أصوّر حالتي المزاجية وأتشاركها مع صديقاتي على السناب شات، لكن على الفيسبوك أشارك الجميع صوراً تنشر الفرح من خلال المناظر الطبيعية، وأكواب الشاي التي أملكها ذات الألوان والأشكال المبهجة، كما أصوّر كل الأطباق التي تحضّرها أمي. وبكل صدق، أحرص على متابعة نسب الإعجاب بصوري على فيسبوك، وأتضايق كثيراً إن حصلت على إعجابين أو ثلاثة فقط».

هذه المواقع تقرّب البعيد، لكنها تفرّق شمل الأسرة
أما أبو محمد الغامدي (55 سنة) والذي أنشأ حديثاً صفحة خاصة له على فيسبوك، بعدما طلب منه أبناؤه إنشاءها، فيقول: «كنت أنتقد أبنائي كثيراً على مشاركتهم الجميع على مواقع التواصل الاجتماعي بأمور حياتهم الخاصة، حتى أن ابنتي شهد التي تبلغ من العمر 21 عاماً كانت تستيقظ من النوم لتخبر الجميع على صفحتها بأنها استيقظت وتتبادل الصباحات مع صديقاتها وعائلتها، وكنت أنصحهم بأن هذا العالم افتراضي، ويجب عدم محادثة أي شخص على هذه المواقع. كما كنت أنتقدهم كثيراً على عزل أنفسهم في غرفهم بسبب هاتف أو موقع إلكتروني. وبعد إصرار منهم، قاموا بإنشاء صفحة لي على فيسبوك، فوجدت أن هذه المواقع تجذب انتباه الأشخاص من خلال البرامج المنوعة التي تعزز التصوير والتصميم والإضافات لوضع الصورة، كما يتضمن الهاتف برامج مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، مما يُبهر الشبان والفتيات، ويحرم أي عائلة من الخصوصية، فما إن نخرج حتى يبدأ ابني بالتصوير وابنتي بمشاركة مكان المطعم. أستخدم هذا الموقع منذ أشهر قليلة، لكنني سعدت بالتواصل مع أصدقائي منذ أيام الدراسة، وبعض الأقارب الذين يقطنون خارج السعودية، وأجد أن هذه المواقع تقرّب البعيد، لكنها تفرّق شمل الأسرة».
وتقول خلود عبدالله إن متعتها بالتصوير تعود الى استرجاع بعض المواقف والذكريات، خاصة عندما يمر عليها وقت طويل. «فبين فترة وأخرى، أنشر مجموعة كبيرة من الصور التي كنت قد التقطتها في مناسبات عامة كالأعراس وحفلات أعياد ميلاد أبنائي، كما لا بد من مشاركة الصديقات على فيسبوك وإنستغرام ببعض الصور التي جمعتنا في أيام الدراسة، وبعض الزيارات العائلية. ولا أخفيكم بأن هذه الهواتف الذكية وضعتنا في مجتمعنا الخاص. فعندما ينهي أبنائي دروسهم، يجلسون إلى الآيباد الخاص بهم، ويستمتعون مع أصدقائهم، وأتسامر في الليل مع صديقاتي من خلال مجموعات أنشأناها ونتشارك بعض الصور التي توثق كل اللحظات والأشياء الجميلة التي تمر في يومنا، ومن ضمنها صور أبنائنا في لحظات المرح».
في دراسة تحليلية للباحث جوليان هولتلنستد من جامعة برغام يونغ الأميركية، شملت ١٤٨بحثاً ودراسة قديمة، تبين أن أخطار العزلة على الصحة ليست بأقل من أخطار التدخين، فبعد الأخذ في الاعتبار عوامل الخطر الأخرى، سجل المشرفون على الدراسة النتائج الآتية:  تأثير العزلة يشبه تأثير تدخين 15 سيجارة في اليوم، وضرر العزلة يساوي الضرر الناجم عن تعاطي الكحول، وهي أكثر ضرراً من عدم ممارسة الرياضة، وضررها أشد من ضرر الإفراط في زيادة الوزن بمرتين. وفي السياق نفسه، توصل باحثون من جامعة شيكاغو إلى نتائج مثيرة للغاية في شأن العزلة. ففي دراسة استغرقت ست سنوات وشملت أكثر من 2000 شخص من الرجال والنساء الذين تخطت أعمارهم الـ ٥٠ سنة، أكدت النتائج أن أخطار العزلة تفوق أخطار السمنة، وأبرز هذه الأخطار ارتفاع ضغط الدم، وزيادة خطر الوفاة، والإصابة باضطرابات النوم، والشعور بالخمول والكسل في اليوم التالي، والدفع إلى تناول المنومات والمسكنات، ما يجعل الأمور أكثر تعقيداً.
وأوصى الباحثون كبار السن بأن يكوّنوا دوائر اجتماعية، ويتواصلوا مع الآخرين، ويقصدوا المناطق المشمسة، ويقوموا بالأنشطة الرياضية والحيوية، وأن يكونوا فاعلين في الأعمال التطوعية.


مفهوم العزلة الاجتماعية
د. نصير: العُزلة الاختيارية الموقتة علاج الإنسان نفسه بنفسه، أما الدائمة فسلبية قد تؤدي الى الوفاة

تؤكد المستشارة التربوية الأسرية النفسية الدكتورة نادية نصير أن مفهوم العزلة الاجتماعية في علم النفس يعني «غياب قدرة الكائن الحي على التواصل مع مجتمعه، ورغبة الإنسان بالعيش منفرداً بعيداً عن الناس، وفقدان القدرة على التعامل معهم. قد يصل الأمر في بعض الأحيان الى ملازمة المنزل لفترة طويلة قد تصل الى أسابيع عدة، مع عدم التواصل مع أي شخص، سواء كان من الأسرة أو الأصدقاء. كما يفشل الشخص المنعزل اجتماعياً في إقامة أي علاقات اجتماعية، ولا يستطيع غالباً التواصل مع أي شخص غريب، حتى وإن نجح في ذلك فقد تفشل العلاقة سريعاً، لأنها غالباً ما تكون سطحية. ويجب لفت الانتباه إلى أن العزلة تبدأ إرادية وتصبح من ثم لا إرادية بسبب الوقت الكبير الذي يعزل فيه الشخص نفسه عن باقي البشر، فيتعود على الوحدة، ويجد صعوبة في التأقلم مع المجتمع مرة أخرى».

أعراض العزلة الاجتماعية
وعن أعراض العزلة الاجتماعية، تذكر نُصير أنها «كثيرة، ومنها شعور الشخص بالإحباط، إذ يعاني مريض العزلة الاجتماعية  في العادة إحباطاً شديداً وتسيطر عليه أفكار تشاؤمية، فلا يرى إلا الجانب المظلم من كل شيء. أو قد يُصاب بتغيرات مزاجية حادة غير مبررة الأسباب، حيث يتقلّب مزاجه وفقاً لأفكاره ومعتقداته الخاصة التي غالباً ما تكون خاطئة، فيفقد القدرة على التواصل مع من حوله ونسج علاقات جديدة. بمعنى آخر، يفتقر مريض العزلة الاجتماعية الى الذكاء الاجتماعي بشكل واضح، فيتجنب الآخرين لعدم قدرته على التواصل معهم، ويشعر بالتالي بغربة شديدة عندما يتواجد في أي تجمع بشري، ما يؤدي الى تفاقم الحالة، لذلك يفضل البقاء بمفرده، ويرفض تماماً مغادرة منزله، وحتى غرفته، رافضاً أي شكل من أشكال التواصل. كما تظهر عليه علامات القلق والاضطراب حتى في حال بقائه بمفرده، وغالباً ما تكون أسبابها غير واضحة.

مؤشرات العزلة الاجتماعية
وتشير نُصير إلى أن «الانطواء يمثل بداية مرحلة العزلة لدى الشخص، وقد يقابل أناساً، لكن ضمن مجموعات قليلة، ثم يلجأ الى العالم الافتراضي، ويخلق لنفسه أجواء معينة ليبقى وحيداً دائماً. تبدأ الحالة بالانطواء التدريجي وتتحول إلى عُزلة تامّة بحيث تُصبح في بعض الأحيان حالة مرضية، قد لا يمكن الخروج منها إلا بمساعدة استشاريين أسريين، أو أطباء نفسيين وما إلى ذلك. ومن المؤشرات أيضاً، انعدام التوافق الاجتماعي للفرد في علاقاته مع الآخرين، فيتجنب الاتصالات الاجتماعية، ويتأثر بالتالي تفاعله الاجتماعي، من حيث عدم تطوير علاقات الصداقة والجوار أو الحفاظ عليها، فيهرب الفرد إلى عالمه الشخصي المتمثل بالانترنت أو العزلة الفردية، وتضطهده فكرة أن الآخرين تجاهلوه أو أهملوه، لذا يُفضل الابتعاد عنهم».  وتضيف نصير: «إن الإسناد الاجتماعي مهم للشخص المُنعزل، بمعنى أن الانسان بطبعه اجتماعي، وإن تم عزله فإن ذلك يؤدي الى وفاته، فالعزلة تُسبب أمراضاً نفسية كثيرة، منها العنف والاكتئاب والقلق والاضطراب وغيرها الكثير من الأمراض التي تدخله في متاهات نفسية. وعلى صعيد العائلة، لا بد من مساندة الأسرة  للفرد المنعزل من أعضائها، لإخراجه من وحدته. وبالنسبة الى المجتمع، لا بد من أن تُساهم الدولة في إخراج المنعزلين وتعمل على دمجهم مع باقي أفراد المجتمع بطُرق عدة، من خلال مؤسسات تهدف إلى التوعية والتثقيف، أو من خلال جمعيات تُعنى بأنشطة معينة تجعلهم ينشغلون بالتفكير فيخرجون من وحدتهم، وبالتالي يتحولون إلى أشخاص فاعلين ومنتجين».

أنواع العزلة الاجتماعية
وتتوسع نُصير في حديثها عن أنواع العزلة الاجتماعية، قائلة: «هناك أنواع مختلفة من العزلة، منها العزلة الفكرية التي تمنع الفرد من التطور والتقدم، وتتمثل بعدم التشجيع الفكري من خلال القراءة، والاطلاع على الانترنت، وهناك بعض العائلات التي تفرض نوعاً من العزلة الاجتماعية على أفرادها، بحيث لا يستطيعون التواصل مستقبلاً مع محيطهم الاجتماعي. كما أن هناك مجتمعات معزولة، وتُعرف بالمجتمعات المغلقة، بحيث لا تسمح لأفرادها بالخروج من القرية او الاختلاط بأفراد آخرين. وقد تكون العزلة الاختيارية التي ينعزل فيها الشخص بإرادته عن البشر، إما دائمة او موقتة، فالكثير من الناس يتعرضون لحوادث عرضية ويصل بهم الأمر إلى الابتعاد عن كل ما يحيط بهم لمدة ثلاثة أيام أو أسبوع مثلاً، سعياً وراء قسط من الراحة. وهذا النوع من العُزلة قد يكون نوعا من علاج الإنسان نفسه بنفسه، إلى أن يجد حلولاً لمشاكله، ويعود بعدها الى حياته الطبيعية. أما العزلة الدائمة فيختارها الشخص بملء إرادته بعد أن يشعر بالراحة التي يفتقدها فيهرب الى عزلته ويستمر بالتعايش معها دائماً، وقد يكون من الأشخاص الذين يعانون صدمات متتالية فنجدهم يفضلون العزلة على التواصل مع المجتمع. ولا تتعدى العزلة الدائمة نسبة الخمسة في المئة. ونجد أن أقسى عقوبة في السجون هي الحبس الانفرادي، وهي أكثر ما يخشاه السجناء، وقد يتوفى الكثير منهم في زنزانة الحبس الانفرادي».
وتضيف: «العزلة ليست كلها سلبية، فهناك أنواع من العزلة ترافقها وسائل التقنية الحديثة، ونستطيع تصنيفها بأنها عُزلة علمية، ينعزل الشخص فيها عن العالم ليخرج بنتيجة لدراسة ما، أو اختراع، أو تطوير لخدمة المجتمع. وهناك العزلة الفنية التي يلجأ اليها الرسام والشاعر والكاتب والملحن وغيرهم من الأشخاص الذين يختارون العزلة الموقتة ليخرجوا بنتائج إيجابية».

العزلة الاجتماعية والإنترنت
وتذكر نُصير «أن العزلة الاجتماعية لا تقتصر على المجتمع السعودي فحسب، وإنما تنتشر في أنحاء العالم، خاصة مع التطور التكنولوجي السريع، والانترنت الذي جعل العالم قرية كونية صغيرة، وتأثيره السلبي في التواصل الاجتماعي الواقعي، إذ تجعل مواقع التواصل بعض الأشخاص يعيشون منعزلين في عالمهم الافتراضي، ورغم أن نسبتهم قليلة، لكنهم فرضوا أنفسهم علينا بالتطور».

دراسة عن العزلة
أظهرت دراسة حديثة، أن العزلة، ولا سيما لدى المسنين، مضرة بالصحة وقد تزيد احتمال الوفاة المبكرة بنسبة 14 في المئة، كاشفة آليات هذه الظاهرة على مستوى الخلايا. ومخاطر العزلة الاجتماعية معروفة منذ فترة طويلة، إلا أن انعكاساتها الجسدية المضرة لم تكن قد كُشفت حتى الآن، ويعاني الأشخاص الذين يعيشون في عزلة نظاماً مناعياً ضعيفاً، ويصابون بالتالي بأمراض أكثر من الأشخاص الآخرين، وفق ما أوضح الباحثون الذين نُشرت أعمالهم في حوليات الأكاديمية الأميركية (بناس).
وعن سن الإصابة بالعزلة، توضح نصير: «لدى الأطفال هي سمٌّ قاتل، فهم بحاجة إلى الغذاء العاطفي، والاجتماعي لأنه يدخل في تكوين شخصيتهم، وحين ينفصل الطفل عن رفاقه ويبقى منفرداً معظم الوقت ولا يشارك أقرانه بالنشاطات الاجتماعية المختلفة، يكون ثمة اضطراب في علاقاته مع الآخرين. وتجدر الإشارة إلى أن العزلة الاجتماعية ترتبط ارتباطاً قوياً بمشكلات أخرى مثل الصعوبات المدرسية، وسوء تكيف الشخصية، والمشكلات الانفعالية في مرحلة الرشد، ومعظم الأشخاص المنعزلين لا يتعلمون قيم الآخرين، كما لا يكونون قادرين على مشاركتهم آراءهم الخاصة. ومن الضروري أن يكون الطفل قادراً على الانتماء إلى مجموعة من الرفاق في عمر 12 سنة وإلا يبقى منعزلاً طوال فترة دراسته، وربما لفترات طويلة لاحقة. وكذلك الأمر في ما يخص كبار السن، إذ نجدهم يعودون كالأطفال بحاجة الى الرعاية والاهتمام والحب والحوار ومشاركة الآخرين والسؤال عنهم والاندماج في المجتمع وبين الأفراد، خاصة كبار السن الذين يعانون أمراضاً صحية أو نفسية. فالتواصل معهم أحد أنواع العلاج الذي يُساعدهم على تخطي أوجاعهم ونسيان آلامهم. فعند عزل الشخص تتلاشى أمامه قيمته في المجتمع، ومكانته بين الآخرين، الأمر الذي قد يؤدي إلى وفاته المبكرة». كما على الأسرة عدم السماح لأي فرد من أفرادها، الذي بدأت تظهر عليه أعراض العزلة بالانطواء على ذاته فترة طويلة، بل على العكس أن تعمل على إدماجه بأكثر من نشاط، أو تطلب منه الخروج والتنزه للترفيه، وتحاوره من ثم بما يتعبه، وما يفكر فيه،  لأن الحوار نصف العلاج ويساعد الشخص على التخلص من الأزمات التي يعانيها. وعلى المجتمع أن ينشر الوعي بمخاطر العزلة بمشاركة مؤسسات الدولة التربوية والتعليمية والاجتماعية، كما لا بد من الإشارة الى دور الإعلام الذي يتناسى التركيز على الحياة الاجتماعية التي ليست أقل أهمية من الحياة الاقتصادية والسياسية».


د. الخطيب: يجب التنبه الى مسألة التقنين في استخدام الهواتف الذكية والأجهزة النقّالة
يوضح كبير استشاريي الطب النفسي، استشاري الصحة النفسية للأطفال والمراهقين الدكتور سعد الخطيب، «أن العزلة لدى الأطفال تتمثل في عدم تفاعلهم مع الآخرين. وما يميز الانسان عن باقي الكائنات أنه اجتماعي يتعامل مع الآخرين، ويكتسب مهاراتهم ويتبادل معهم العواطف والأفكار وما إلى ذلك. لكن ما حدث في الفترة الأخيرة، أن شبكات التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، قللت من تعلم الفرد أساسيات المهارات في التواصل الاجتماعي الواقعي، سواء لدى الأطفال او المراهقين وحتى كبار السن، مما يؤدي الى صعوبة تكوين علاقات اجتماعية، وزيادة في نسبة الرهاب الاجتماعي. فانتشار وسائل التكنولوجيا الحديثة، أدى إلى هتك الحرية الشخصية للأفراد بعدما أصبحوا ينشرون الصور الخاصة بهم، وبمناسباتهم، وطعامهم ويومياتهم، ويتشاركونها مع الآخرين الذين يستغلونها أحياناً بطريقة سلبية».
ويضيف الخطيب: «لا نستطيع منع أي فرد من استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة، لكن يجب التنبه الى مسألة التقنين في الاستخدام، أي لفترات معينة، وعدد ساعات محددة، خاصة للأطفال الذين يعانون صعوبة في تعلم اللغة، أو تأخراً في النطق، وقد يُصابون بتأخر في النمو الاجتماعي، وأعراض عدم التواصل مع الآخرين، وتظهر لديهم بعض السمات التي تشبه مرض التوحد لقضائهم وقتاً طويلاً أمام أجهزة الآيباد والحواسب الآلية. والأمر ذاته بالنسبة الى كبار السن الذين يتواصلون بكثرة مع العالم الافتراضي، ويبتعدون عن التواصل الواقعي مع أقربائهم، ويدخلون في ما يُعرف بالعزلة الاختيارية التي يفرضونها على أنفسهم بالبقاء في غرفهم بين حواسيبهم وهواتفهم النقالة، حتى أنهم عندما يخرجون يركزون على تصوير الأحداث ومشاركة الآخرين بها، ويبدأ لديهم ما يُعرف بهوس الظهور من خلال تصوير الطعام، وتصوير أنفسهم وإشراك الآخرين بأدق تفاصيل حياتهم، ناهيك عن تمسكهم بهواتفهم وأجهزتهم حتى في اجتماعات الأقارب والأصدقاء، مما يجعل منهم أشخاصاً معزولين بإرادتهم عن الواقع وأساسيات التعامل الخارجي. وحتى إن حاولوا العودة الى عالمهم الحقيقي فسيجدون صعوبة في التواصل مع المجتمع بقيمه وعاداته».
وعن دور الأهل في التخفيف من عُزلة أطفالهم وأبنائهم وبناتهم مع هواتفهم الذكية وأجهزتهم النقالة، يختتم الخطيب حديثه مؤكداً أن  «الجمعية البريطانية لطب الأطفال قد أوصت بألا يتم استخدام أي نوع من هذه الأجهزة والهواتف منذ سن صفر إلى سنتين، ومن سنتين إلى خمس سنوات يفترض أن يكون التعرض لهذه الأجهزة لمدة لا تزيد عن الساعتين يومياً. لكن الأمر يختلف لدينا إذ نجد أن العائلة تضع الجهاز أمام طفلها في عمر السنة أو السنتين لساعات طويلة، لإسكاته ربما، كما يحدث نوع من المفاخرة بين الأهل بشرائهم جهازاً لكل طفل. وأرى أن الأهل يؤذون بسلوكهم هذا الطفل، خاصة عندما يبررون أن هذه الأجهزة قد تفيد في تعليمه بعض الحروف والأرقام من خلال مشاهدة بعض البرامج التعليمية على «يوتيوب»، متناسين تأثير هذه الأجهزة في كهرباء الدماغ لدى الطفل وما تسببه من تشنجات أو ما يُعرف بالصرع».

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079