تحميل المجلة الاكترونية عدد 1080

بحث

المقاومات الشعبيات الفلسطينيات: نودع بعضنا وداعاً صامتاً لأننا لا نعلم من منا ستعود... ومن منا ستستشهد

في حسرة ودمعة حارقة، سردت لنا المقاومات الشعبيات الفلسطينيات حكاياتهن مع النضال المستمر من دون توقف، والذي قد تدفع فيه النساء أرواحهن أو جزءاً من أجسادهن أثناء المواجهة السلمية مع قوات الاحتلال الإسرائيلي. لم يخفن على فقدان أنوثتهن وبقين صامدات في وجه الضرب الوحشي وقنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص الحي... لأنهن يؤمنّ بكل جوارحهن بأنهن صاحبات حق سيحصلن عليه من خلال المقاومة الشعبية.


عندما تسير في شوارع النبي صالح في قضاء رام الله في الضفة الغريبة، تشاهد بعضاً من مخلفات الاحتلال الإسرائيلي، مثل قنبلة الغاز المسيل للدموع وما تبقى من رصاص وقنابل حارقة، ولكن من الغريب أن تجد امرأة فلسطينية تزين مدخل بيتها بتلك القنابل وتضع الى جانبها علم فلسطين... هناك التقينا بأولى المقاومات الشعبيات وهي منال التميمي (43 عاماً) التي حكت لنا عن كيفية إصابتها بالرصاص في قدمها قائلة: «كنت أشارك في إحدى المسيرات برفقة نساء أخريات، عندما أُصيب أحد الشبان المشاركين معنا بالرصاص الحي. شعرت بأن شيئاً ما قد كُسر. في البدء، لم أستوعب ما حصل معي، ثم أدركت أنني أصبت برصاصة في قدمي، وبعدها أخذت أقفز على رجل واحدة حتى تمكن ابني وشبان آخرون من الإمساك بي وإبعادي عن المسيرة، لأن جيش الاحتلال كان لا يزال يلقي قنابل الغاز المسيل للدموع والرصاص علينا... وعندما كشف المسعف على ساقي، تبين له وجود كسر فيها قد أحدثته رصاصة حية... وكان ذلك قبل عرس أختي بأيام قليلة».
وتعود منال بذاكرتها الى الوراء وتتنهد بحسرة لتقول: «أشعر دائماً بأنني سأفقد مشاركين في المقاومة الشعبية، قد يكون ربما ابني أو زوجي أو أنا. أستطيع تحمل أي شي إلا فكرة أن أخسر أحداً منهم. وعندما نشارك بأي مسيرة، نودع بعضنا بأعيننا وداعاً صامتاً، رغم انني أكره أن أكون ضعيفة».
لم تكن حال أورسلا التميمي (24 عاماً) أفضل من حال منال، إذ شاركت في مسيرة حاشدة بمناسبة ذكرى النكبة التي انطلقت باتجاه حاجز الاحتلال المسمى بـ «حاجز قلنديا»، وأصيبت بالرصاص الحي في ساقها مما أدى الى تمزّق شرايينها. ورغم خطورة حالتها، تعرضت للإهمال، وعن ذلك تقول: «أثناء خضوعي لجراحة في المستشفى، وضعوا مادة البلاتين في ساقي، ولكن مع مرور الوقت أصبح هناك فراغ في المنطقة العليا من ساقي، مما يجعلني لا أشعر بها، كما أعجز عن الوقوف، ولا أستطيع التقدم خطوتين من دون العكازة. أشعر وكأن الكهرباء تسري في ساقي... والأنكى من ذلك أنهم نزعوا الخياطة الطبية من دون أن يتأكدوا من مدى التئام الجرح، ففُتح الجرح مجدداً ليخيطوه ثانية وأنا أصرخ من شدة الألم».

أما تأييد الدبعي  فتخبرنا قصتها قائلةً: «في إحدى المسيرات التي شاركت فيها، كنا في طريق العودة الى قرية باب الشمس، وتمكنا من اختراق حاجز الاحتلال والوصول الى القرية، ولكن جنود الاحتلال أجبرونا على مغادرة القرية، وحاولوا إبعادنا عن المنطقة ككل، فاشترطنا عليهم إطلاق جميع الأسرى الذين اعتقلوهم خلال المسيرة، ولكنهم رفضوا وبدأوا بضرب المشاركين». وتتابع: «كنت حذرة بينما أحاول تقديم المساعدة لكل من يتعرض للضرب، وفجأة باغتني جندي وضربني، فوقعت في بقعة من المياه الآسنة، وكانت هذه المره الأولى التي أتعرض فيها للضرب». وعن إيمانها بما تفعل، توضح الدبعي: «من منطلق فكري وأخلاقي، أؤمن بأن المقاومة اللاعنفية هي أكثر أخلاقية، إذ تضع العدو في حيرة من أمره، لأن العنف من شيمه، ويجب ألا أخاطبه بطريقته نفسها، لأن فكر الاحتلال يقوم أصلاً على الهمجية والعنف». وتضيف: «في كل مره أحاول فيها أن أقنع نساء أخريات بمشاركتنا في المقاومة الشعبية، كنّ يوجهن لي سؤالاً مهماً في اعتقادهن، وهو: هل ترافقك نساء أخريات؟ لأُدرك كم هو مهم وجودي كامرأة مقاوِمة إلى جانب الرجال. فالمرأة قبل أن تكون امرأة، هي إنسانة وتملك حساً عميقاً أكثر من الرجل». وتؤكد تأييد ان المرأة المقاوِمة تواجه تحديات كثيرة، أبرزها الضغوط العائلية والاجتماعية التي تمنع النساء من المشاركة في المقاومة الشعبية. ولكن بصفتي إنسانة ومواطنة فلسطينية لا تزال تعيش في هذا البلد، أرى أن من حقي الدفاع عن كياني وأرضي بما يتناسب مع مشاركتي في المقاومة اللاعنيفة في بلدي. ولو أننا توقفنا جميعاً عن المقاومة، فإن الاحتلال سيقضي علينا». وتختتم تأييد حديثها بالقول: «لن أتوقف عن المقاومة، لأنني لا أملك خياراً آخر، فإما البقاء أو الفناء، وإذا لم نقاوم فسنفنى وتزول فلسطين. وللأسف هناك الملايين من الفلسطينيين ولكنهم في الشتات، كما يمكننا أن نستثمرهم من أجل القضية الفلسطينية، ونعمل على تفعيل المقاومة الشعبية فلا نقف مكتوفين أمام الاحتلال».
رغم أنها تعدت الخمسين من عمرها، لا تزال ابتسام زيدان تتذكر العنف الذي كانت تتعرض له في صغرها أثناء مشاركتها في مسيرة طلابية ضد الاحتلال، في قرية بيتين، قضاء رام الله، وتقول: «تعرضت للعنف منذ صغري لأنني كنت أشارك في المسيرات الطلابية، وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي يقذفنا بقنابل الغاز ويضربنا بالعصي وأعقاب البنادق، ففي كل مشاركاتي الشعبية تعرضت للضرب».  لا تزال ابتسام مستمرة في النضال الشعبي، وتؤكد: «عندما كبرت، ازداد نشاطي في المقاومة الشعبية لأعبّر بشكل دائم عن رفضي احتلال ارضي، وفي كل نشاط أو مسيرة سلمية كان جنود الاحتلال يعنّفوننا بقوة. قبل عام شاركت في مسيرة ضخمة كانت متجهة الى «حاجز قلنديا»، ورأيت الناس يتساقطون بفعل الرصاص، وكانت سيارات الإسعاف لا تتمكن من نقلهم بسبب كثرة أعداد المصابين. كان المشهد محزناً». وتضيف: «المقاومة لا تضعف من أنوثتي، كما أحتقر أي شخص يقول لي لماذا تشاركين، وما دمت قادرة على المقاومة فسأستمر فيها من دون تردد لأنه وطني الذي لن أتخلى عنه، وسأبقى أناضل حتى يتحرر كل شبر من أرض فلسطين».
ولم تكن عبير الخطيب (35 عاماً) من رام الله أفضل حالاً من سابقاتها حيث روت لنا قصة مضحكة ومبكية في آن واحد قائلة: «وزني الزائد قليلاً كان يعيقني أحياناً في المسيرات التي كنت أشارك فيها. وعلى سبيل المثال، كنت أشارك في فصل الشتاء في مسيرة في قرية النبي موسى، وكان الشبان أسرع مني في الحركة، وكان الجيش يركض خلفنا ويلقي باتجاهنا قنابل الغاز المسيل للدموع. كنت غير قادرة على الهرب، ولكن انتبه احدهم لي وهو يوسف الشرقاوي فأمسك بي وسحبني الى الأمام». وتشير عبير الى أنها تعاني مشكلة صحية، وتقول: «لدي مشكلة في قدمي، ورغم ذلك أشارك في المقاومة. وفي إحدى المرات، صفعني أحد جنود الاحتلال على وجهي، لكنني رددت له الصفعة بالمثل».
ويفيد بلال التميمي، زوج منال، الذي يعمل في توثيق كل المسيرات الشعبية في قرية النبي صالح منذ زمن ويساند زوجته في فكرها النضالي بأن نسبة المشاركين في المقاومة الشعبية ضئيلة اليوم مقارنةً بالسابق، لافتاً الى غياب النقابات الفلسطينية والجامعات التي كانت تلعب دوراً بارزاً في تفعيل المقاومة الشعبية.

المجلة الالكترونية

العدد 1080  |  كانون الأول 2024

المجلة الالكترونية العدد 1080