في السعودية: هل التنمّر المدرسي ظاهرة تحتاج إلى وقفة؟
ظاهرة سلبية نشأت في المدارس وبدأت تغزو المجتمع السعودي، وتندرج تحت مسمّيات مختلفة، من بينها العنف ضد الأقران، أو التنمّر المدرسي، والبلطجة، والتسلّط، والترهيب، والاستقواء. وتشير بعض الإحصاءات العالمية إلى خطورة انتشار هذه الظاهرة وضرورة التصدي لها. وفي تقرير سعودي حديث صادر عن مركز الأمان الأسري، في «خط مساندة الطفل»، شكاوى من الفتيات تتعلّق بمشكلات في العلاقة بين الأقران، تعادل تسعة أضعاف شكاوى الفتيان، وبواقع 91.6 في المئة من إجمالي الاتصالات التي تلقاها الخط في العام الماضي 2014 بهذا الخصوص. وأشار التقرير إلى أن اتصالاً من بين كل ثمانية اتصالات يتعلّق بالتنمّر بمختلف أنواعه، فيما كان التنمر الإلكتروني عبر وسائل الاتصال والوسائط الإلكترونية، الأكثر انتشاراً بين المراهقين، كما لفت التقرير إلى انتشار ممارسات التنمر النفسي والجسدي بين الطلاب في الصفوف الابتدائية.
هذه الإحصاءات المقلقة دفعت «لها» إلى التساؤل: هل بات التنمر ظاهرة في السعودية؟ وما الأسباب النفسية والجسدية والصحية التي تعود على المتنمر على المدى البعيد؟ وهل سيجدي العلاج مع المتنمرين في العدول عن هذا السلوك؟ وما دور المدرسة والأسرة والمجتمع في الحد من انتشار هذه الظاهرة؟ أسئلة كثيرة طرحناها في هذا التحقيق على أصحاب الاختصاص.
والدة الطفل علي صادق (ثماني سنوات) تحدثت عن ولدها بخجلٍ شديد، قائلة: «منذ أن كان في عمر السنتين، لاحظت ميوله العدائية، لكنني لم ألتفت اليها بشكل صريح، لقناعتي في ذاك الوقت بأنه ما زال طفلاً يلهو ويلعب ولن يؤذي أحداً. لكن هذه التصرفات بدأت تتحول عدوانيةً واضحة، خصوصاً عندما كنت أتركه في منزل والدتي، لأنني موظفة في أحد المستشفيات. عندها أخبرتني والدتي بأن تصرفاته ربما تكون لاعتراضه على عدم وجودي بجانبه وقتاً طويلاً، مما اضطرني إلى ترك العمل والجلوس في المنزل، إلا أن علي لم يكن يستمع إليّ أو يعمل بتوجيهاتي، بل كان يسيء الأدب، فقررت أن أسجله في حضانة، لتقع الكارثة... فمنذ اليوم الأول، وصل إلى المنزل وملابسه ملطخة ببقع دماء متفرقة. خفت كثيراً وتحدثت مع المعلمة في الحضانة التي أخبرتني بأنه تشاجر مع أحد الأطفال واستخدم العضّ معه. شعرت بالحرج الشديد، ورحت أتحدث مع علي لكنه لم يستمع، فيما أخبرني والده بأنه سيعقل ما إن يكبُر. علي لا يزال على حاله، لكن بشكل أخف، وأتمنى أن يستمر في الابتعاد عن المشاكل في المدرسة». حالة هذا الطفل ليست الوحيدة، بل هناك الكثير من الأطفال الذين تظهر عليهم أعراض العدوانية في سنّ مبكرة نسبياً. وتعد مشكلة العنف بين الأقران من المشكلات السلوكية الشائعة لدى الأطفال والمراهقين، ولا سيما في المدارس، حيث توجد مجموعات كبيرة من الأطفال في أعمار متقاربة، يمارس بعضهم فيها العنف البدني أو النفسي ضد أطفال آخرين.
في قصة ليلى (عشر سنوات) اختلفت الأدوار. فوفق رواية والدتها، تعرضت الطفلة لضغوط نفسية شديدة إذ قررت صديقاتها اللواتي لم يتعدّين العاشرة من العمر إخطارها، في رسالة خطية وقّعتها المجموعة كلها، بأنها ليست جزءاً من المجموعة. تقول الأم: «حزنت ليلى كثيراً وكانت تبكي في المدرسة حين رأتها المعلمة المسؤولة، وقرأت الورقة التي كانت تحملها. بالطبع استدعت المعلمة الطالبات ووبختهنّ وراسلت أمهاتهن، لكن هذا لم يُنه المشكلة، بل زاد الضغط على ليلى». لقد قررت بنات المجموعة ألّا يتحدثن معها نهائياً لأنها تسببت لهن في مشكلة مع المدرسة ومع أولياء أمورهن. أصبحن يضحكن عليها كلما مرت من أمامهن ويتحدثن بصوت عالٍ عنها ولا يدعونها إلى تجمعاتهن الأسبوعية ويتجاهلنها أثناء الحصص الدراسية، ولا يتشاركن العمل معها حتى لو طُلب منهن العمل في الصف ضمن مجموعات. وتضيف الأم: «قالت لها إحداهن إنها إذا أرادت أن تعود إلى المجموعة من جديد فعليها أن تخضع لتجربة (اختبار) فتؤدي أمامهن احد الأدوار التمثيلية، ثم يقررن عودتها كواحدة منهن كما كانت، وبالتأكيد في هذا الأمر قمة الإذلال للطفل من أقرانه». وتؤكد الأم أن تصرف الفتيات مع ليلى بهذه الطريقة أصابها بتوتر شديد وجعلها تكره الذهاب إلى المدرسة، وحتى نشاطاتها المنهجية التي كانت تشترك فيها معهن ابتعدت عنها. وتعقّب أم ليلى: «فجأة تجد الطفلة نفسها غير مقبولة وغير مرحّب بها بين صديقاتها لأسباب لا تعرفها. وفي كل مرة تتعرض طفلة ما لموقف مشابه داخل المجموعة نفسها وتتكرر قصة ليلى، حتى أُطلق على هذه الظاهرة «ظاهرة التنمّر بين الأقران». لقد تأثرت ابنتي كثيراً، لكنني عالجت الأمر بالتعاون مع المدرسة ومع والدات الفتيات اللواتي تعاونّ معنا إلى أقصى حدّ، حتى تحسن وضع ليلى تدريجاً، لكنها لم تتجاوز المحنة كلياً».
مشروع مناهضة العنف بين الأقران
نال مشروع «مناهضة العنف بين الأقران» موافقة وزير التربية والتعليم، ورئيس اللجنة الوطنية للطفولة سابقاً، الأمير خالد الفيصل، لاهتمامه وعنايته بما يقي طلاب وطالبات التعليم العام ويحميهن من كل أشكال السلوك السلبي. وفي بادرة جميلة، أطلقت اللجنة التنفيذية للمشروع الوطني للوقاية من ظاهرة التنمر بين الأقران في مدارس التعليم العام، دورتها التدريبية التجريبية على الحقيبة التدريبية الخاصة بالمشروع الذي تعمل عليه اللجنة الوطنية للطفولة، وبمشاركة برنامج الأمان الأسري، وبرنامج الأمم المتحدة للأمومة والطفولة (اليونيسيف)، فيما يأتي المشروع ثمرة لمشاركة وزارة التعليم في أعمال المؤتمر الوطني للوقاية من التنمر في المدارس، الذي عقد نهاية العام الدراسي الماضي.
وبالحديث مع الأمين العام للجنة الوطنية للطفولة في وزارة التعليم، الدكتورة وفاء بنت حمد الصالح حول هذا المشروع، أكدت لنا «أن وزارة التعليم، ومن خلال اللوائح التربوية التي تعنى بالسلوكيات لدى الطلاب والطالبات، تعمل على الحد من ظاهرة التنمر، ومعالجتها وفق أسس تربوية وعلمية سليمة». ومما جاء في الحوار:
- ماذا نعني بمشروع مناهضة العنف بين الأقران؟ وكيف بدأت فكرته؟
تعتبر مشكلة العنف بين الأقران أو ما يُعرف بالتنمر، من المشاكل السلوكية الشائعة لدى الأطفال والمراهقين من الجنسين حول العالم. وينتشر التنمر بشكل خاص في الأوساط المدرسية، حيث توجد مجموعات كبيرة من الأقران في أعمار متقاربة، إذ يمارس طفل أو مجموعة من الأطفال العنف البدني، أو النفسي، ضد أطفال آخرين (قد يكونون أضعف جسدياً، أو يعانون أمراضاً أو إعاقات، أو من دول أو أعراق أخرى) وذلك بهدف التحكم بهم، وفرض السلطة عليهم. ويعاني الأطفال الذين يتعرضون للتنمر عواقب نفسية وسلوكية طويلة المدى، بالإضافة إلى العواقب البدنية، نتيجة تعرضهم للعنف، مما يؤدي إلى الوفاة في بعض الأحيان. كما أن غياب برامج فاعلة للتدخل والتأهيل يؤدي إلى استمرار المتنمرين في ممارسة العنف في المنزل وفي المجتمع من حولهم لقناعتهم بجدوى استخدام العنف في حل المشكلات من دون اعتبارٍ لأي عقوبة رادعة. وفي سبيل التصدي لتلك المشكلة السلوكية بين الطلاب والطالبات، تبنّى برنامج «الأمان الأسري الوطني» بالشراكة مع «اللجنة الوطنية للطفولة» ومكتب منظمة اليونيسيف في الرياض، إطلاق مشروع وطني لمكافحة ظاهرة التنمر بين الأقران في مدارس التعليم العام، وحظي المشروع بمباركة وزارة التعليم ودعمها بالخبرات والمهارات المتوافرة لدى إدارة التدريب والابتعاث وإدارة التوجيه والإرشاد في الوزارة.
- ما هي أنواع العنف المندرجة في إطار هذا المشروع؟
يحاول البرنامج التدريبي لمشروع مكافحة التنمر في مدارس التعليم العام، التصدي لأبرز أنواع التنمر ومن أهمها: التنمر الجسدي، ويقصد به استخدام القوة الجسدية لإلحاق الضرر بشخص أو مجموعة من الأشخاص. والتنمر اللفظي، وهو استخدام الألفاظ السيئة لإيذاء الضحية بالتوبيخ، أو الصراخ، أو مناداته بألقاب سيئة. والتنمر النفسي، وهو استخدام أساليب معيّنة لإلحاق الضرر النفسي بالضحية، كنشر الشائعات، أو الإقصاء، وغيرها من أنواع التنمر التي تم رصدها من خلال الدراسة المسحية الأولية للمشروع، في عدد منتقى من مدارس التعليم العام.
- هل هناك إحصاءات دقيقة تفيد بمعدل التنمر في المدارس؟
يعدّ مفهوم التنمر من المفاهيم الحديثة نسبياً، لحداثة الاعتراف به كنوع من أنواع العنف، والدراسات التي تناولت هذا المفهوم قليلة بشكل عام، كذلك يصعب الرجوع إلى مقياس دقيق لتحديد السلوكيات التي يمكن اعتبارها تنمراً وتمييزها من تلك التي تحدث بشكل عابر، ولكن تتفق كل الدراسات التي تناولت مفهوم التنمر على أنه استغلال السلطة والقوة، لممارسة سلوكيات عدوانية من طالب أو مجموعة من الطلبة تجاه طالب آخر يكون أقلّ قوة وقدرة، وتتسم تلك الممارسات بالتكرار، فما يحدث لمرة واحدة لا يمكن اعتباره تنمراً في ضوء مفهوم التنمر.
الدراسات المسحية في السعودية
● وتشير الدراسات المسحية في السعودية، وفق اللجنة الوطنية للطفولة، إلى أن (57.1 في المئة) من الفتيان، و(42.9 في المئة) من الفتيات يعانون التنمر في المدارس، وتتزايد هذه الممارسات مع تقدم المرحلة الدراسية.
● كما استنتجت الدراسات التي أُجريت على عينة من طلبة المرحلة الابتدائية، أن نسب التنمر تزداد بازدياد العمر، حيث وجدت دراسة صاحب الشمري (2012م) أن طلبة الصف الخامس الابتدائي يمارسون التنمر بنسبة أعلى من طلبة الصف الثاني الابتدائي.
● كذلك أثبتت بعض الدراسات أن نسبة ضحايا التنمر أعلى لدى الطلبة الأصغر سناً نتيجة اختلاف مقدار القوة بينهم وبين المتنمرين الذين هم أكبر سناً من الضحايا.
● وفي المقابل، أظهرت دراسات أن معدلات التنمر بين طلبة المرحلة الثانوية أقل من المعدلات بين طلبة المرحلة المتوسطة.
● وأشارت غالبية الدراسات، إلى أن نسبة التنمر بين الذكور بشكل عام أعلى منها لدى الإناث، ويرجع ذلك لأسباب مختلفة، منها القبول الاجتماعي، والتسامح مع الذكور، والذي يعطيهم الحرية في التعبير عن مشاعرهم بعنف، بينما نجد أن هناك أنماطاً من التنمر تنتشر بين الإناث، وأنواعاً أخرى تنتشر بين الذكور، فالتنمر الجسدي أعلى بين الذكور، بينما التنمّر اللفظي أعلى بين الإناث.
- برأيكم، ما الأسباب التي تدفع الطلاب والطالبات في عمر المراهقة إلى التصرف بتنمر؟
ترجع مشكلة التنمر إلى أسباب كثيرة، وزّعها المتخصصون على أقسام عدّة: فهناك أسباب ذاتية (فردية) كالغيرة، والغضب والعدوانية، والاستقواء، وإبراز القوة، والاستعراض وفرض النفوذ على الآخرين. وهناك أسباب أسرية تتعلق بالتنشئة الأسرية للفرد، وكذلك المستوى التعليمي والثقافي للوالدين، وخاصة الأم، والعنف الأسري، والمستوى الاقتصادي للأسرة.
- متى سيطبّق هذا المشروع على أرض الواقع؟ وهل سيُدرج ضمن الخطط الدراسية في مدارس السعودية؟
المشروع هو بالفعل على أرض الواقع، منذ بداية الفصل الدراسي الثاني من العام الماضي، وقد مر بعدد من المراحل التنفيذية، ومن المتوقع أن يشهد تدشيناً رسمياً له من جانب مسؤولي التعليم في الوزارة خلال الفصل الدراسي الحالي. ولكون المشروع يتناول الجانب التدريبي، والتطوير المهني للمعلمين والمعلمات، للتصدي لتلك الظاهرة السلوكية لدى الطلاب، فإنه سيُدرج بالفعل ضمن الخطط التدريبية لوزارة التعليم، عبر إدارة التدريب والابتعاث، ومن خلال المراكز التدريبية التابعة لها في مختلف المناطق التعليمية في السعودية.
برنامج الأمان الأسري الوطني
في لقاء لنا مع اختصاصية التدريب في برنامج الأمان الأسري الوطني ومنسّقة مشروع مناهضة العنف بين الأقران، نهى طارق بصراوي، أفادتنا بأن مشروع مناهضة العنف بين الأقران في السعودية بدأ عام 2011 كـ «حملة» مع منظمة قمة المرأة العالمية في المجمعات التجارية والمدارس، ومن خلال أنشطة توعوية في برنامج الأمان الأسري الوطني، ثم عرضت هذه الحملة على اللجنة الوطنية للطفولة لتنضم اليونسيف الى هذه البادرة، وحصلنا على تمويل مادي من اللجنة الوطنية للطفولة بما يقارب الـ 700 ألف ريال سعودي، ثم بدأنا تنفيذ المشروع بمشاركة اليونيسف، فأصبح التعاون في هذا المشروع بين وزارة التعليم، واللجنة الوطنية للطفولة، وبرنامج الأمان الأسري الوطني، واليونيسيف. في بداية تنفيذ هذا المشروع، صُممت حقيبة تدريبية للمرشدين الطلابيين في المدارس بحيث يُعمم هذا المشروع على كل المناطق السعودية. ويتلخص دور المرشدين الطلابيين في توعية الأسر والطلاب والمعلمين، بالإضافة إلى سن قوانين في السعودية ضد التنمر، بحيث تسنّ كل مدرسة في السعودية قوانين صارمة ضمن قوانينها ضد هذا التصرف السلبي. ففي عام 2014 بدأنا تصميم الحقيبة التدريبية وأُنجز العمل عليها، وقمنا بتدريب تجريبي بإحضار مشرفين من وزارة التعليم، وتدريبهم على الحقيبة، وكان ذلك في نيسان/ أبريل 2015، وتم تحكيم الحقيبة من جانب وزارة التعليم بمشاركة أكاديميين من الخارج. والآن نحن في مرحلة المراجعة النهائية. وبعد مرحلة التدشين، سيصار إلى تسليم المشروع الى وزارة التعليم لتعميمه على المناطق السعودية بشكل عام كمشروع أساسي».
التنمر والعلاج الأسري
د. واعظ: لا بد من الالتفات إلى الأسباب لنضمن عدم تكرار السلوك
استشارية طب الأسرة الدكتورة بيان الواعظ، عرّفت التنمر بأنه «قيام أحد الأشخاص بتخويف أقرانه الآخرين واستفزازهم، سواء نفسياً أو فعلياً أو من الناحيتين معاً. وتتجسد مخاطره عندما يتعرض الطفل لتنمر أطفال آخرين، في المدرسة أو النادي، ولا يستطيع الدفاع عن نفسه، مما يؤثر كثيراً في حياته، وعندما يكبر تكون ثقته بنفسه قد ضعفت، وربما تحطمت، ويشك في قدراته الشخصية، ويتصور أن العالم مكان غير آمن، وبالتالي يصبح انطوائياً وينغلق على نفسه ويتقوقع في عالمه الخاص، كما أنه سيكره الاستيقاظ باكراً للذهاب إلى المدرسة أو النادي، لأنه يعلم أن هناك من يتربص به ليسخر منه، أو يعتدي عليه. التنمر ظاهرة نفسية واجتماعية، ولها مسبباتها، ولا بد من الحديث عن دوائر متعددة حيث نبدأ من دائرة الأسرة التي تعتبر البيئة الأولى المؤثرة في سلوك الطفل، ولا بد من التروي، وعدم التسرع في الحكم ووصف أحدهم بالتنمر، قبل أن تتضح الرؤية. والأم هي الأقرب والأكثر احتكاكاً بالطفل، فإن كانت من النوع العصبي، أو المتوتر، أو تعاني بعض الضغوطات النفسية في حياتها اليومية، قد تُفرغ هذه المكبوتات بطريقة عنيفة مع الطفل، لتنتقل لا إرادياً إلى الطفل من خلال نبرة صوتها أو تعاملها معه، ويأتي رد فعل الطفل بالتقليد. كذلك نجد أن تفجير الخلافات بين الأم والأب أمام الطفل، يدفعه إلى التقليد أيضاً، وبالتالي يستخدم العنف مع الأطفال الآخرين، سواء في المدرسة، أو في النادي. ولا ننسى علاقات الأسرة المتعددة الجوانب مع الجيران، والأصدقاء المحيطين بهم، وهو أمر ضروري في معاملتهم مع الأطفال الآخرين، إذ لا بد من التأكيد أن التنمر عادة مكتسبة من المحيط. ويلاحظ أن هناك دراسات تفيد بأن 70 في المئة من الأمهات اللواتي يعانين الاكتئاب يكون أطفالهن عرضة للإصابة بالاكتئاب».
وتضيف الواعظ: «في حال ثبوت تنمر الطفل، يجب معرفة الأسباب لنحدّد نقاط العلاج، والعلاج لا يكون لشخص واحد فقط، بل للأم والطفل معاً، ولا بد في البداية كما ذكرنا من تقييم حالة الأم، سواء لديها مشاكل صحية، أو نفسية، أو جسدية، فإن كان السبب من الأم، نبدأ في علاجها، وإرشادها حول الكيفية الصحيحة للتعامل مع الطفل. قد يقول البعض إن العلاج يكمن في مناقشة الطفل بهدوء وتعقّل، والاستفسار عن الأسباب التي جعلته عنيفاً مع أقرانه، وتوضيح خطورة هذا السلوك، فلا بد من الالتفات الى الأسباب وعلاجها لإزالة الأعراض وضمان عدم تكرار هذا السلوك».
العلاج المدرسي
وتختتم د. واعظ حديثها مشيرة إلى «ضرورة تعرف الأهل إلى أصدقاء أطفالهم في المدرسة، ومحاولة معرفة تصرفاتهم في ما بينهم، كما يجب تفادي وصف الطفل بالمعتدي أو المتنمر أو أي نعت سيئ أمام زملائه، لأن ذلك سيأتي بنتائج عكسية. أيضاً يجب على الآباء عدم اختلاق الأعذار للطفل وتبرير أفعاله، لا سيما أمام المعلمين والأصدقاء في المدرسة. هذا فضلاً عن التحدث مع المعلمين والمعلمات عن سلوكيات أبنائهم وبناتهم في المدرسة، وضرورة التواصل اليومي معهم في حال تعرض أبنائهم لكدمات تسبب بها زملاء آخرون. ومن المفيد، بل الضروري، إقامة المدرسة أنشطة تساعد الأطفال على تنمية الثقة بالنفس، وتأكيد الذات، واحترام الآخرين، وتشجيع الأطفال على التواصل مع المعلمين والمعلمات والتحدث معهم في حال تعرضهم لأي عنف أو تنمر من جانب زملائهم في المدرسة».
لعلاج النفسي
أنجي الصباغ: العلاج في سن المراهقة أجدى بنسبة 80 إلى 85 في المئة من الحالات التي تُكتشف متأخرة
لتكتمل الحلقة من جوانبها كلها، التقينا المستشارة والمتخصصة في العلاقات الزوجية والأسرية أنجي الصباغ التي أفادتنا بأن التنمر هو «اضطراب نفسي يؤدي إلى اضطراب سلوكي، وله أسباب عدة، مرجعها إما نقص الاهتمام بالطفل في المنزل، وإما ممارسة العنف أمام الطفل، سواء عليه أو على أحد أفراد الأسرة في المنزل، أو اختلال العلاقات الأسرية في المجتمع كطلاق الوالدين، أو بسبب رؤية الطفل لمشاهد العنف كالمصارعة الحرة، أو مشاهد القتل والتدمير على نشرات الأخبار، أو مقاطع اليوتيوب العنيفة. وإذا لم يحرص الآباء والأمهات على تنقيح المشاهد التي يراها أطفالهم في المنزل فقد تظهر علامات التنمر أو التمرد على أطفالهم، ولديّ حالات أقوم بعلاجها حيث تعاني فتاتان ذيول التمرد والعنف غير الطبيعي. وإحدى الفتاتين تعدّت المرحلة الجامعية (23 سنة)، لكن السلوك المرضي لازمها منذ فترة المرحلة المتوسطة، ولا يزال سلوكها عدوانياً، إذ مع الأسف، تم اكتشافه متأخراً، وقد تشكل هذا السلوك لديها بسبب طلاق والديها، وقبل الطلاق كان والدها يُمارس العنف باستمرار على والدتها وأمامها، لتتبع هذه الفتاة أسلوب تطبيق ما شاهدته في منزلها من عنف بات مُلازماً لها في مراحل حياتها، فبدأت بسحب المقاعد من تحت زميلاتها ليسقطنَ أرضاً، أو تضع أقلام الرصاص أو دبابيس أسفل أقدامهن لأذيتهن. أما الفتاة الثانية (16 سنة) التي أعالجها حالياً، فهي في المرحلة المتوسطة، وقد تَشكل لديها هذا السلوك بسبب ممارسة شقيقها العنف عليها، بضربها باستمرار، لنرى أن العنف داخل الأسرة في الحالتين، هو المسبب الأول لظهور التنمر والتمرد والتلذذ بأذية الآخرين».
وتضيف الاختصاصية صباغ: «وهناك حالة لطفل في المرحلة الابتدائية، سبق أن عالجته، وكان سلوك التنمر لديه بسبب مجمل مشاهدات العنف على التلفاز، واليوتيوب، والآيباد من دون رقابة في المنزل، إضافة إلى أشرطة القتل والضرب ضمن ألعاب الـ «بلايستيشن»، خارج إطار رقابة الأهل، فحدث ما لا تُحمد عُقباه، إذ أصبح العنف لصيقاً بسلوك الطفل وتشكل التنمر لديه، ويكاد يكون العنف عنده كحالة هستيرية، فعندما تأتيه نوبات العصبية والغضب يضرب والدته، أو يحطم أغراض المنزل». وتلفت محدّثتنا إلى أن الأعمار في أغلب الحالات التي عالجتها، هي سن المراهقة، و «أكثر المراهقات من الفتيات من سن 12 سنة إلى 17 سنة».
وعن العواقب الوخيمة التي تقع على الطرف الضعيف أو المُتنمَر عليه، تقول الصباغ: «هو الطرف الذي يقع عليه الفعل الإكراهي المؤلم، وقد يؤثر ذلك في مسارهم الدراسي، وصحتهم النفسية، والانعزال، أو الخوف من الذهاب الى المدرسة بسبب وجود أقران لهم يتسببون بأذيتهم، خاصة عند الأطفال، لكن لا بد من تعزيز الثقة بالنفس لدى الأطفال، ولا بد من انتقاء ومعرفة من يرافقون من أقران، وإن وقع عليه العنف يجب أن يخبر الإدارة أو المعلمة بالعنف الذي تعرض له، خصوصاً أننا نتحدث عن منشأة مدرسية، عن كيان له إدارة ومرجعية، ومرشدون لا بد من الرجوع إليهم دائماً. هذا على نطاق المدرسة، أما على نطاق المنزل، حيث المُتنمر عليه فيه ضعيف، والمتنمر شخص قوي، فقد تصل الحالة به أو بها إلى الاكتئاب الشديد وربما الى الانتحار. وكل من الضحيتين، يحتاج إلى العلاج النفسي والسلوكي، فالمعتدِي والمعتدَى عليه عضوان أساسيان في المجتمع، وإذا أهملنا الطفل المعتدِي ولم نقوّمه تربوياً وسلوكياً، فسنعرّض أطفالاً آخرين للوقوع في نفس المشكلة، وهكذا سنساهم في انتشار الظاهرة بصورة أكبر في المجتمع».
وعن آلية علاج الحالات التي تعاني سلوك التنمر، ذكرت الصباغ أنها «تبدأ بتشخيص الموضوع ومعرفة درجات التنمر لديهم، هل هو تنمر قوي، أم متوسط، أم أقل من المتوسط! وعلى هذا الأساس يبدأ تصميم العلاج والجلسات، لأنه وبطبيعة الحال يختلف من شخص لآخر. ونبدأ بمعرفة الأسباب والعمل على علاجها، لنحصل على تغيير تلقائي في علاج الشخص المتنمر، مع التركيز على تدعيم شخصية الإنسان من الداخل من خلال إعلاء تقدير الذات، ومحبته لنفسه، ذلك أن التنمر يخلق الكره الذاتي للشخص لفرض شخصيته، وإظهار كيانه، وبالتالي يرتكب الأخطاء. ومن الممكن التواصل مع المدرسة والأسرة في العلاج لتحقيق نتائج إيجابية. وبالطبع يختلف العلاج بين المتنمر والمتنمر عليه الذي نعمل على محو التراكمات السلبية عنه، وذلك بعد تشخيص الحالة، والأمور التي سببها العنف عليه، فالضرب من أكثر الظواهر السلبية التي تدمر الذات الإنسانية».
إحصاءات عالمية
● في الولايات المتحدة الأميركية يعتبر التنمر المدرسي من أكثر الحالات حضوراً بين أشكال العنف، حيث تشير دراسات أميركية إلى أن ثمانية طلاب من المدارس الثانوية يغيبون يوماً واحداً في الأسبوع بسبب الخوف من التنمر في المدرسة.
● وفي ولاية إلينوي، أشارت الدراسات إلى أن أكثر من 50 في المئة من الطلاب قد تعرضوا لحالات التنمر.
● وفي إرلندا، أوضحت دراسة «مينتون» Minton تعرُّض الطلاب لمشكلات التنمر بنسبة 35 في المئة من طلاب المرحلة الابتدائية و36.4 في المئة من طلاب المرحلة المتوسطة.
● فيما أوضحت دراسة نروجية أن 2088 طالباً في المستوى الثامن يمارسون التنمر، وهم وضحاياهم قد حصلوا على أعلى درجات في مقياس الأفكار الانتحارية.
● كما أفادت دراسة في نيوزيلندا بأن 63 في المئة من الطلاب تعرضوا في شكل أو في آخر لممارسات التنمر.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024
شؤون الأسرة
اقتراحات تمييزية للتشويش على حق الأمهات اللبنانيات بإعطاء الجنسية لأطفالهن
شؤون الأسرة
عائلة حسام ورولا تنقل تفاصيل دقيقة عن الحياة في هولندا بكل صعوباتها وإيجابياتها
شؤون الأسرة