تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

وداعًا للمراهقة...

الدكتورة لمى بنداق

الدكتورة لمى بنداق

تشكّل المرحلة المدرسية الثانوية بالنسبة إلى المراهق المحطة الأخيرة من مرحلة المراهقة، فهو بدأ يدرك أنه قريبًا سيقول وداعًا للمراهقة والطفولة.
ويلاحظ علماء نفس المراهق أنه راهنًا يبدأ بعض المراهقين بمرحلة الرشد في سن مبكرة، أي عندما يصبحون مستقلّين نفسيًا واجتماعيًا بما فيه الكفاية للمشاركة بفعالية أكبر في تحديد هوّيتهم الخاصة وتحديد أدوارهم ورسالتهم في المجتمع. متى تبدأ سن الرشد؟ ومتى يكون المراهق مستعدًا للانتقال من ضفة المراهقة إلى ضفة الرشد؟ ولماذا انتقال البنت إلى ضفة الرشد أسرع من المراهق الذكر؟
هذه الأسئلة وغيرها تجيب عنها الاختصاصية في علم النفس التقويمي الدكتورة لمى بنداق.


ماذا يعني الدخول في مرحلة الرشد؟
الانتقال إلى سن الرشد يعني نهاية المراهقة التي هي لحظة التأسيس حيث نترك ضفة الطفولة للذهاب إلى حياة أخرى. قاعدة الطفولة تعني السلطة المطلقة، إذ يظن الطفل أن لديه كل القوة، «إذا قلت هذا أو أردت هذا، فهذا يعني أنه يجب تنفيذه».
بينما أثناء العبور في مرحلة المراهقة، يدرك المراهق أنه متجه، عاجلاً أو آجلاً إلى سن الرشد،  ويكتشف خلال عبوره أن الرغبة في الحصول على شيء ليس بالضرورة أن تتحقق.
إنها المرحلة التي يدرك فيها حدود قدراته، والفارق بين الواقعي والمستحيل، وقبول ما يستحيل عليه تغييره. «هنا أنا قادر على فعل كذا، وهنا لا استطيع، فإذا كنت من عائلة أفرادها متوسطو القامة، فإنني أقبل ألا أكون طويلاً».

هل هذا يعني أن رغبة المراهق في الانفصال عن أهله هي مقدّمة لبلوغ سن الرشد؟ 
وفق اختصاصيي علم النفس، فإن عملية الانفصال والفردية هي أول محور في سمات المراهقة. طفل الأمس سوف يستقل، يريد بناء هويته بأدوات ومكوّنات بعيدة عن صورة الأهل، وأقل تأثرًا بالقيم والمعتقدات وكل ما يمثل أهله. ولإتمام عملية الانفصال هذه، على المراهق فتح مساحته النفسية.
ويُدخل في هذه المساحة النفسية الرحبة الكثيرين ممن لهم علاقة بالأهل، أبناء العم، الأساتذة، المشاهير في عالم الفن والرياضة وغيرهم، وأحيانًا يُدخل إلى مساحته النفسية صورًا مختلفة عن تلك المتعلقة بالأهل، صورًا ضرورية لبناء ذاته وإيجاد مكانته الخاصة في المجتمع. ففي الماضي القريب عندما كان طفلاً، كان يتماهى بوالده.
أما راهنًا فهو يتماهي بأستاذ الأدب، أو أي مذيع أو فنان أو شخصية متناقضة تمامًا لشخصية أحد الوالدين. ولكن هذا الميل ليس ليكون عكس أبيه، بل لأنه في هذه المساحة وبين النماذج المختلفة يجد موقعه ويبني فردانيته الخاصة. وبالتالي فإن في محاولته الانفصال عن التبعية المطلقة للأهل، تكون المقدّمة لما ستصبح عليه هويته الراشدة في ما بعد.

ماذا تفرض مرحلة الانفصال هذه؟
نقد، معارضة وانتهاك... هذا ما تفرضه عملية الانفصال والفردانية وانتقاد المسائل التي نقلها عن الأهل. فالمراهق يقول لنفسه إن لديه المخزون الكافي والضروري لينفصل في تفكيره عن أهله.
وإن لم يكن هذا مستحسنًا لدى الأهل، فهو ضروري لا ليعمل عكس إرادة أهله، وإنما ليجد صوته الخاص. وبالتالي فإن المراهق الذي يعارض ويغيّر في لغته، ومظهره الخارجي، يستعمل وسائل عدة ويقوم بالمجازفات، وكل هذا يتوافق مع محور النمو النفسي الأول عنده.

 إذا كان الانفصال عن التبعية هو إحدى ميزات المراهقة، فلماذا يبدو بعض المراهقين ملتصقين بأهلهم رغم رغبة الاستقلالية التي يعلنونها؟
من المعلوم أن المراهقة تشهد سلسلة من التغيرات الفيزيولوجية السريعة. وهي الفترة الأكثر صعوبة بالنسبة إلى الإنسان، سواء كان ذكرًا أم أنثى، لأن عليه خلالها التركيز على قدراته الفكرية، ما ينشئ تناقضًا بين التغيرات الجذرية في جسده وعلاقاته مع الآخرين وبحثه عن هوّيته المقبلة، وضرورة بذل جهد كبير للحفاظ على مستوى معيّن من العلم كي يتمكن في ما بعد من التوجّه إلى المهنة التي يريدها في المستقبل.
فمن خصائص المراهقة ومميزاتها، عدم الوضوح، ومن الطبيعي جدًا أن نلاحظ هذه التقلبات في مزاج المراهق واختلاف رغباته وميوله. ففي هذه المرحلة، يبحث المراهق عن هويته الخاصة، ويريد أن يحقق استقلاليته في الرأي، فيكون رفضه لكل سلطة أبوية محاولة منه لبلورة شخصيته وإثبات أنه سيد نفسه وأنه قادر على اتخاذ القرار المتعلق بمستقبله من دون تدخل الآخرين.
وفي المقابل، تبدو مرحلة نهاية المراهقة بالنسبة إلى الأبناء امتدادًا للاعتماد على أهلهم ماديًا، وبالتالي فإنهم يجدون أنفسهم ملزمين بالبقاء في حضن الأهل إلى أن ينتهوا من تخصصهم الجامعي. وبالتالي، فإن الاعتماد المادي على الأهل قد يؤدي إلى الاعتماد العاطفي

راهنًا يترك الأبناء أهلهم باكرًا، فكثر يضطرون للعيش في مكان بعيد عن الأهل بسبب دراستهم الجامعية، وتبدو استقلاليتهم غامضة؟
نعم، ولكن لا يزال الأهل يشكّلون بالنسبة إلى المراهق المرجع. أي أن يكون مسؤولاً وقادرًا على تدبر أموره، وهذا يعني قدرته على العيش وحيدًا ومستقلاً عن الأهل ماديًا، أي هو بعيد عنهم جسديًا ومعنويًا، يتخذ قراراته من دون اللجوء إليهم.
إذ يمكن أن يدفع أهل الطالب أقساطه الجامعية وبدل سكنه ومصروفه الشخصي من ملبس ومأكل، ولكن في الوقت نفسه يكون هذا الابن مستقلاً فكريًا عنهم. وهناك طلاب يكونون قادرين على تدبر أمورهم المادية، مثلاً هناك كثر يعملون نصف دوام لدفع رسومهم الجامعية، وفي الوقت نفسه ليست لديهم استقلالية فكرية، أي أنهم يترددون في اتخاذ القرارات. إذًا، ليست الحاجة إلى النقود هي التي تعرقل استقلالية المراهق.
فالاستقلالية في التفكير هي الشعور بالحرية، وليس بالضرورة أن يكون فكر المراهق مناقضًا لنمط تفكير أهله، وإنما يكون قد وجد طريقته الخاصة في تنظيم وقته، وفي التفكير، وتحديد قيمه وأصدقائه.
وأيضًا أصبح مستقلاً في وضع تصوّر عما سيكونه في المستقبل كراشد له دوره في الحياة،  وبالتالي  التفكير في أحوال الحياة التي يرغب فيها، مثل خيارات الحياة الاجتماعية والعاطفية والعملية والروحانية وما شابه.

كيف يمكن الأهل مساعدة المراهق ليصبح راشدًا؟
من المعلوم أن اتخاذ القرارات الصائبة واحترام الآخرين، والتوقف عن الخلط بين الرغبة والخيال، طريق عبورها طويل ليصبح المراهق شخصًا مسؤولاً. وليدعم الأهل أبناءهم المراهقين الكبار في العبور إلى ضفة الرشد، عليهم بدورهم قبول بعض القواعد التي تفرضها المرحلة.
فكثر من المراهقين بين الثامنة عشرة والعشرين لا يزالون يعيشون تحت سقف الأهل، يتابعون دراستهم أو أنهم يبحثون عن عمل، فهم لم يعودوا مراهقين ولكنهم ليسوا راشدين بعد. هؤلاء الشباب يبحرون بين الرغبة في الاستقلالية والحاجة إلى الأمان في حضن العائلة، أي الأهل. يجدون أنفسهم واسعي الحيلة وضعيفي الإرادة في الوقت نفسه.
وإن كانت التعميمات دائمًا مختزلة وكاريكاتورية، فهم ملتصقون  بأهلهم. من هنا دور الأهل في جعل المراهق العابر لسن الرشد، قادرًا على مواجهة الصعاب والمشكلات التي يواجهها، بشكل منطقي. فمثلاً عندما يواجه مراهق مشكلة مع أستاذه، على الأهل أن يفكروا معه في إيجاد الحل، لا أن يفكروا عنه.

ما هي العناصر التي تبني راشدًا متوازنًا؟
هناك عنصر مهم جدًا يجب العمل عليه، إذ ليس الاستقلالية المطلقة هي التي تبني راشدًا، فنحن كائنات اجتماعية يعتمد واحدنا على الآخر، وإنما أن نكون مستقلين عن الأهل، أي المبادرة في اتخاذ القرار الصائب، مواجهة المشكلات من دون اللجوء إلى حضن الأهل عند كل شاردة وواردة، وأن يكون الأهل مرجعًا استشاريًا للمراهق، لا مصدرًا للحلول والاتكال عليهم في كل ما يخص تفاصيل حياته الشخصية.
يصبح المراهق راشدًا عندما لا يسبب له قلق والديه إحباطًا. ما يعني عندما يمكنه التصرف بحرّية من دون أن يتساءل طوال الوقت عما إذا كان هذا الأمر يسبب ازعاجًا لوالديه.
الراشد هو الذي لا يخضع لإرادة أهله خضوعًا أعمى، فهو يبقى ابنهم أو ابنتهم وليس طفلهم الذي ليس لا رأي له ولا صوت. ووفق اختصاصيي علم نفس المراهق، فإن عدم  تعرّض المراهق للمخاطر المنطقية، والمبالغة في تحصينه، يجعلانه ضعيفًا غير قادر على الاعتماد على قدراته الشخصية، إلى أن تأتي اللحظة التي يشعر فيها الأهل بالندم، لأنهم لم يعلّموا ابنهم المواجهة، فيتركونه فجأة من دون وسائل ليواجه صعاب الحياة ومشكلاتها، مما يجعل المراهق يتخبط في مشكلاته، لأنه لم يتعلم مواجهتها وحده. لذا الانفصال التدريجي هو الوسيلة المثلى لبناء شخصية راشد متوازنة.

كيف يمكن الأهل إرشاد ابنائهم المراهقين من دون تضييق الخناق عليهم، وتحضيرهم للتحليق من دون تركهم يسقطون؟
الحقيقة الأولى التي ليست بداهة بالنسبة إلى الكثيرين من الأهل، لكي يستقل ابنهم عنهم فكريًا فمن الضروري مساعدته. ولكن في الوقت نفسه يجب أن تكون للأهل رغبة في ذلك، أي جعل ابنهم يحلّق في عالمه. ويطلق بعض اختصاصيي علم نفس المراهق على الأهل المعاصرين تسمية «قص ولصق».
فهم انقطعوا عن أهلهم، وعن عاداتهم وتحرّروا من الكثير من القيود، ولكنهم في الوقت نفسه يلتصقون بأبنائهم ويضعونهم في وعاء القلق والاتكال.
في هذا العالم الذي يبدو لهذه الفئة من الأهل أنه غير آمن وغير مستقر، يصبح الأبناء بالنسبة إليهم ملاذًا آمنًا. وليس مستغربًا أن يكون هؤلاء الآباء والأمهات مستعدين لكل شيء كي يحافظوا على هذا الرابط بينهم وبين ابنائهم، فيقدمون الدعم العاطفي والمالي واللوجستي، ويعطون أبناءهم الشباب من دون حساب، الأمر الذي يشعر هؤلاء الأبناء بالتخمة وفي الوقت نفسه بالضعف، فيفكرون لمَ عليهم ترك ملجأ أربع نجوم ليواجهوا وحدهم العواصف في الخارج.

ما الفارق بين المراهق الذكر والمراهقة الأنثى في إدراك الواقعية؟
سن الرشد تعني قبول ألا نكون خارقين. وهذه واحدة من الحقائق التي على المراهقين، ذكورًا وإناثًا، قبولها، والتي هي في الغالب مغايرة لعالم الطفولة. فالمراهق يشعر بأن كل شيء يُفرض عليه، عائلته ورفاقه وعالمه، وعليه المواجهة ليتمكن من التقدّم.
والمراهق الذكر يصعب عليه قبول الأمر، فهو يريد الاستمرار في أن تكون لديه القدرة الكلية والسيطرة على كل شيء كما كان يفعل عندما كان طفلاً. وهذا يفسّر ميله الى المجازفات، في بعض الرياضات أو أثناء قيادة السيارة. إنها طريقة ليقول «سوف أبرهن لكم أن في استطاعتي الذهاب إلى أبعد حدود».
ويلزمه مواجهة جدار ليقبل الواقع. مثلاً، مراهق يرغب في أن يصبح نجم غناء، يتقدّم إلى أحد برامج الهواة، ويُرفض لأن صوته ليس جميلاً، فيغضب ويصرخ ويحتاج إلى وقت لتقبل الأمر الواقع وأنه ليس موهوبًا.
فيما المراهِقة الأنثى ترفض الواقع بطريقة مختلفة، فهي أكثر عاطفية، وتبحث عن أن تكون محبوبة ومحاطة بحب انصهاري شبيه بحب الوالدين في طفولتها. مما قد يقودها إلى التصرّف في شكل استفزازي، مثل وضع الماكياج بشكل صارخ، أو تتمرد في أسلوب أزيائها، وذلك لجذب الانتباه إليها، ولا سيما الجنس الآخر.
وهنا أيضًا يجب أن تتعرّض لصدمة واقعية، لكي تعود إلى أرض الواقع. ففي مجال التعليم الجامعي، لاحظت أن الكثير من الطلاب في السنة الأولى يتركون المجال الأكاديمي الذي اختاروه ليلتحقوا بمجالات أخرى تناسب قدراتهم الفكرية وميولهم المهنية. صحيح أن الأهل يتمنون ألا يمر ابنهم بهذه التجربة، ولكن هناك بعض المراهقين لا يمكنهم النجاح إلا بعد تجربة فاشلة.

ولكن الواقع ليس دائمًا سلبيًا؟
صحيح، يكون الواقع إيجابيًا عندما يكتشف المراهقون مواهبهم وقدراتهم الشخصية، ويحصل هذا الاكتشاف في حضن العائلة والأصدقاء. مثلاً تعلم اللغات، أن يكون المراهق لامعًا في بعض المواد المدرسية، لديه مهارات فنية مثل الرسم... تسمح له بتبديل نظرته الى معنى الحياة.
وبطبيعة الحال، إذا كان يلاقي الفشل فقط، فإن من الصعب عليه المضي قدمًا. ومن هنا تأتي أهمية وجود أشخاص حوله لديهم نظرة إيجابية تجاهه، مثل أفراد الأسرة، أساتذة أو أشخاص راشدين مقربين... لأن الهدف ليس أن يبقى في سن المراهقة، بل  التخلّي عن مراهقته للذهاب إلى ضفة الرشد.

هل هناك معدّل سن وسطي للانتقال إلى ضفة الرشد؟
تبدأ مرحلة المراهقة بعد وقت قصير من البلوغ الذي يحدث مبكرًا عند معظم الفتيات، وبالتالي فإنه يمكن تحديد السن التي يدخل فيها الشاب أو الفتاة مرحلة المراهقة.
فيما الخروج من المراهقة، والدخول في مرحلة النضج، يعتمدان على الشخصية والنضج الداخلي لكل شاب وشابة. وقد يستغرق الأمر مدة أطول أو أقصر. فبعض الفتيات، اللواتي عبرن مرحلة المراهقة بشكل طبيعي يمكن أن يدخلن في مرحلة النضج بين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة.
وبالنسبة إلى المراهقين الذكور، فإن الدخول في مرحلة النضج يكون متأخرًا مقارنة بالمراهقات، ذلك أن بلوغ الفتى يبدأ بعد عامين من بلوغ البنت،  فبعض الفتية يدخلون «أزمة المراهقة» في سن الثامنة عشرة، وهذا أمر إيجابي وأفضل من ألا يمروا بأزمة المراهقة إطلاقًا، وحتى أولئك الذين دخلوا في أزمة المراهقة في سن مبكرة، فإن دخولهم في مرحلة النضج يكون بين الـ 21 و22 عامًا، على الأقل.

بعيدًا عن الفارق الزمني في البلوغ، لماذا يحتاج الصبيان وقتًا أطول من البنات للدخول في مرحلة النضج؟
بسبب العامل النفسي، فالفتاة لديها استعداد أكبر لمراجعة ذاتها وتحليل ما تعيشه، وهذه دينامية تأملية استبطانية تميز البنت عن الصبي. فيما لدى الصبي دينامية تعبيرية، أي يميل إلى التعبير الخارجي، فهو يحتاج إلى مواجهة العالم، والأحداث الخارجية، والمشكلات التي يجب حلها ليجد ذاته... الاختصاص الجامعي، البحث عن الوظيفة، الارتباطات، فمن خلال معايشته لكل هذا، حتى مواجهة العقبات، يكوّن هويته.
من أنا؟ وإلى أين أذهب؟ فهذا البحث الداخلي عن ذاته هو أمر دقيق جدًا ويستغرق وقتًا لفرز كل الصور والآمال التي يمكن التمسك بها. مثلاً أنا أنتمي إلى عائلة من الأطباء، ولكن أرغب في أن أكون فنانًا، أو أنتمي إلى عائلة تجّار وأرغب في أن أكون مهندسًا. ورويدًا فإن الـ «أنا» سوف تعبّر عن نفسها وتسمح له بالتعرّف على من هو.

ولكن ألا يزال هناك طفل في الداخل؟
بالطبع هناك طفل في داخل كل إنسان، ولكن هذا الجزء يجب أن يكون صغيرًا جدًا. فالراشد هو الذي تخلّى عن وهم السلطة المطلقة للطفل، وعن الاعتماد الكلي على الأهل، وكذلك عن فكرة أنه مركز العالم، فمن الطبيعي أن يكون الطفل أنانيًا، فهذا مرتبط في جزء منه بنمو جهازه العصبي.
في حين أن جزءًا من عمل المراهق هو العبور من الأنانية إلى «الغيرية»، أي القدرة على تفضيل حاجات الآخرين على حاجاته الخاصة. ففي علاقته مع الأصدقاء، يصبح قادرًا على تنظيم الأمور بما يخدم الجميع ويناسبهم. وهذه القدرة تقترب شيئًا فشيئًا من الآخر.
فالراشد هو الذي تخلى عن اندفاعية الطفل وحماقة تصرفاته. والمراهق لديه عمل ينجزه ليتعلّم كيف يسيطر على عواطفه وغرائزه، ويصعب على المراهقين الذكور اكتساب مهارة السيطرة، إذا يكون رد فعلهم أسرع من تفكيرهم، فيما عليهم استعمال العبارات للتعبير عن مشاعرهم وعواطفهم.
الراشد الحقيقي هو الذي يعرف كيف يصغي إلى الآخر أثناء الحوار، ويبادر في الكلام عندما يحين دوره. وهو أيضًا يعرف التمييز بين ما يمكنه التعبير عنه، وذاك الذي عليه احتواؤه، بمعنى آخر ما تستوجبه مرحلة الرشد.

ما النصائح التي تسدينها الى الشباب لمساعدتهم في أن يكونوا راشدين؟
تعلّم إدارة الاندفاعية الغرائزية الموجودة لديهم، ويمكنهم اكتساب هذه المهارة من ممارسة الرياضة، خصوصًا تلك التي تتطلب المشاركة ضمن فريق، فهي تسمح بالتحوّل من الأنا لمصلحة الآخر، لتعلم الاستقلالية. ومن المؤكد، يجب ألا يخافوا من المغامرة خارج فلك العائلة، والخروج من قمقمها للقاء أشخاص مختلفين وتعلم قبول الاختلاف، والأفضل البدء بذلك بخطوات صغيرة. لذلك فالمراهق ليس في حاجة إلى تبني التصرفات المتطرفة في ملابسه وفي نمط حياته، لكي ينفصل عن أهله عاطفيًا. صحيح أنه ليس صورة طبق الأصل عن أهله، ولكنه ليس النقيض المبالغ فيه.
فهؤلاء الذين يبالغون في المغامرة وحدهم، هم عرضة لشرب كأس مجازفاتهم المرّة، وأولئك الذين يمضون وقتًا طويلاً في التماهي بوالديهم، سيتعرّضون للكثير من الخيبات في المجتمع.

ماذا تعنين بالبقاء طويلاً في إطار التماهي بعائلتهم؟
بعض الفتيات يحاولن البقاء طويلاً ملتصقات بعائلاتهن، أي بمن عرفنهم في مرحلة طفولتهن. يريد أهلهن أن يكنّ تلميذات بارعات، فيكن كذلك، يريدونهن أن يمارسن نشاطًا رياضيًا فيفعلن ببراعة.
وهذا يمكن أن يكون قناعًا يحجب خوفًا من المضي قدمًا، وبالتالي تأخر مبادرة تسلّمهن زمام استقلاليتهن وتكوين هويتهن الخاصة. لذا من الضروري إيجاد مكانتهن لتكون لديهن القدرة على التعبير بأسلوبهن الخاص، ولتأكيد شخصيتهن والالتزام بعالم الراشدين.

هل من الصعب على الجيل الحالي الانتقال إلى سن الرشد أكثر مما كانت عليه الأجيال السابقة؟
بالطبع، فهذا صعب ولأسباب عدة. بالنسبة إلى البعض، المدرسة صارت مسألة أساسية لا يمكن التخلي عنها أو التملص منها قبل السادسة عشرة، وبالتالي فالمراهق أو المراهقة يكونان تحت سيطرة الأهل ويعتمدان عليهم بكل شاردة وواردة. بينما في الماضي كان الذهاب إلى المدرسة أكثر اختيارًا، وكان الشاب في السادسة عشرة يعمل ويتقاضى أجرًا، فيما البنت كانت تتزوج في السادسة عشرة وأحيانًا دون هذه السن، واليوم يعتبر الأمر جريمة في حقها لأنهم يعتبرونها قاصرًا ويُقاضى الأهل على ذلك.
إذًا، العمل والزواج في سن مبكرة في الماضي كانا يسرّعان في دخول المراهق الى عالم الراشدين وتحمل مسؤولياته وتدبر أموره، فغالبًا كان يخرج من قمقم العائلة، للعمل، مما يجعله يتعامل في سن مبكرة مع الحياة الواقعية، وبالتالي يكتسب تصرفاته الراشدة بالتجربة العملية. وكذلك البنت تخلت عن طفولتها ومراهقتها، ودخلت عالم الراشدين من باب الارتباط بزوج وعائلة جديدة، وفي الوقت نفسه أصبحت مسؤولة ومستقلة وعليها واجب بناء عائلة وهي تدخل عالم الراشدين بالتجربة وليس بالنظرية
وفي المقابل، يجد مراهق اليوم نفسه ضمن نظام محدّد عليه الالتزام به، سواء كان هذا النظام يناسبه أم لا، وبالتالي فإنه في كثير من الأحيان يشعر بالطمأنية والتكاسل أو ربما الخوف من الانخراط في عالم الراشدين، لما عليه من واجبات والتزامات ليس مستعدًا لها بعد. ما أريد قوله إن الحياة المعاصرة رغم كل التطور الحاصل لجعل حياة الإنسان أسهل، لا تخلو من التعقيدات التي تؤثر في جيل المراهقين، إن لناحية القدرة على بناء الشخصية المستقلّة، أو لتسلّم زمام الأمور، فمراهق اليوم كان راشد الأمس.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079