تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

«شلل مستطير»... قصائد من غرفة العناية الفائقة جهاد الزين يُطلّ على الموت عبر نوافذ القصيدة

«شلل مستطير»... قصائد من غرفة العناية الفائقة جهاد الزين يُطلّ على الموت عبر نوافذ القصيدة

 

 

 

 

هو ليس أوّل شاعر يكتب من هناك. من تلك المساحة البرزخية بين الحياة والموت، حيث تخرج الكلمات مختمرة، مكتملة، قابضة على زمنين أضحى الشاعر نفسه خارجهما: ماضٍ يستعيده ومستقبل يتصوّره. «أعلمت أنك راحل وعلمت أنك عائد/ وقد التقت فيك الطريق/ لا فرق بين الرحلتين، فأنت ميت عائد أو أنت ميت راحل...» (من قصيدة «المشفى»).

بين ذهاب وعودة، خرجت قصائد جهاد الزين مكثّفة، موزونة، محكمة. فاللحظات الحرجة لا تحتمل ثرثرة ولا مراوغة. هكذا  جاء ديوانه «شلل مستطير» (دار الجديد) وقفةً تأملية مع الذات، ومع كل ما يحيط بها. «وحيدٌ ولستَ الوحيد، فماذا ستفعل هذا الصباح لتُخفي براهين يوم سخيف؟ وحيدٌ ولست الوحيد سوى أن تُصرّ على أن تكون أنت...» (من قصيدة «السهو»).  

في ديوان «شلل مستطير» (دار الجديد)، يبدو الشاعر نائماً في سريره، يُدرك أن ثمة أحباباً له يدورون قلقين عليه حول جناح عنايته الفائقة. لا يراهم لكنه يرى «لون أصواتهم». وقد يُخيّل إلينا أنّ لون أصواتهم هو الأصفر، كما لون الديوان كلّه، غلافاً وقصائد. فالشاعر لا يكتفي بكتابة مقدمة عنوانها «سيرة ذاتية بالأصفر» وفيها مديح لهذا اللون الجميل، وإنما يكتب قصيدة عنوانها «الأصفر» يذكر فيها هذا اللون ستّ مرات، وبأوجهه الستة المختلفة. يقول فيها: «الأصفر البحريّ عمقاً واللئيم على المركب في الظهيرة/ اللئيم كما الظهيرة/ الحنون على المراكب في الغسق/ الأصفر الجبلي جبروتاً ونار/ الأصفر المشبوه ورداً في المقابر/ الأصفر الثوري إذ يأتيك مجنوناً ومفترياً وحار/ الأصفر الذئب الذي يغزو جذور اللون يفتك في/ أصوله/ الأصفر الأصفر الذي/ فالبدايات النهايات انتحار». ومن يتابع الحركة الثقافية في أوروبا والعالم، يُدرك جيداً أنّ الألوان أضحت علماً مستقلاً، إضافة إلى كونها موضوعة سجالية تفتح جدلاً فلسفياً حول رموزها وتأثيراتها ومعانيها. وإذا أخذنا ما توصّل اليه علم الألوان في دراسة اللون الأصفر وخصوصيته، لوجدنا أنّ «الأصفر» وحده يتوافق مع كلّ الأطياف الضوئية. 

في غرفة العناية الفائقة، يبدو الشاعر ممدداً على سرير يُسمّيه «وطناً»... مستسلماً إلى قدره المكتوب «من قبل ولادة جدّه»، لا يقوى على أن يُقرّر مصيره بعدما استباح جسده «غزاة داخليون». هل يموت أم يقوم؟ لا يعرف. في ذات الإنسان وجسده يستقرّ الغزاة أيضاً. وفي لحظة، يصير جسد الشاعر أرضاً، أو الأصح وطناً عربياً عليلاً لا يُدرك من يقتله ومن يُشفيه. هل هو دمشق أم بيروت؟ لا فرق. «الغزاة الداخليون استفاقوا... عبروا في رئتيّ/ واستباحوا كلّ ما أملك في صدري من الحقد/ وعاثوا في سيادتي على نفسي وناموا في شراييني/ وفرّوا في الصباح». 

لا شكّ في أنّ الموت يُمثّل تيمة الديوان المحورية. فالشاعر كتب قصائده من غرفة في المستشفى يطلّ منها على موتٍ أقرب إليه من حبل الوريد. يتخيّل موته ويضرب لأصدقائه موعداً في المقهى بعد عزائه بساعتين. يسعى إلى هذا اللقاء ليُكمل معهم مناقشاته حول الموت، ويسأل: «لماذا يكون الضريح أنيقاً وليس أليفاً؟/ وماذا على الميت أن يرتدي في احتفال المساء المديد الوحيد الذي دخله؟». 

يضمّ القسم الأول من الديوان «القصائد واحد» 21 قصيدة، بينما القسم الثاني «القصائد اثنان» يحتوي على قصيدتين، الأولى بعنوان «خطفتُ منك التباساً» (رسالة إلى أحمد بيضون)، والثانية «عاتبتُ مثواك» (كُتبت بعد وفاة جوزف سماحة).

«شلل مستطير»... قصائد من غرفة العناية الفائقة، ديوان مكتوب بين الهنا والهناك، بين دمشق وبيروت، بين سرير وقبر، بين شهيق وزفير، بين بسمة وأنين، بين قيامة ووداع، بين الواقع والذكرى. «غشاء رقيق على الذاكرة/ فأحلامها لم تزل ماكرة/ وسوف تجيء إلى كهفها/ ككل اللصوص الذين تخطفهم القافلة». 

م.ح

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077